المحكمة الجنائية الدولية و مجلس الأمن

“المحكمة الجنائية الدولية و مجلس الأمن،
أية علاقة بين القضاء الجنائي و المحافظة على السلم في العالم؟”

“إنّ العدالة لا يمكن أن تتحقق على الصعيد العالمي، ما دامت أفضع الجرائم تظلّ دون عقاب. إنّ المحكمة الجنائية الدولية تمثل و ترمز إلى أهم طموحاتنا بأن نرى أخيرا، السلم و العدل مجتمعان. إنّ عنصرا من العناصر الأساسية للمنظومة الدولية لحماية حقوق الإنسان بصدد أن يرى النور… إنّ إنشاء المحكمة الجنائية الدولية يحمل في ذاته حماية لعدالة كونية حقيقية… عندها فقط تعلم الضحايا البريئة للحروب و النزاعات (القديمة) أنه بإمكانها أن تفضي أمرها إلى العدالة و أن تمارس حقوقها، و أنّ الذين اعتدوا على هذه الحقوق سوف يعاقبون.”[1]
بهذه العبارات حاول كوفي عنان الأمين العام السابق للأمم المتحدة أن يثني على الجهود المبذولة من أجل إنشاء المحكمة الجنائية الدولية الدائمة و التي تمّ اعتماد نظامها الأساسي في 18 يوليو من سنة 1998 (أي سنة بعد هذا الخطاب) و التي من المفروض أن تمكّن كما أشار إلى ذلك الأمين العام السابق للأمم المتحدة من أن يجتمع العدل و السلم. فهل لهما أن يجتمعا في هذه المؤسسة؟ و هل لهما أن يتحققا في إطارها؟ علما وأنّ مهمة رعاية السلم و المحافظة عليه في العالم راجعة إلى منظمة الأمم المتحدة و أنّ المحكمة الجنائية الدولية الدائمة لا تعتبر هيئة من بين هيئاتها.

بداية يفترض أن نحدد مكانة هذه الهيئة القضائية الدولية الدائمة في المجتمع الولي و في علاقتها بمنظومة الأمم المتحدة حتى نستطيع النظر في مدى تمكنها من تحقيق أهدافها و في مدى فعليّة ممارستها لاختصاصاتها. قد لا يفسح لنا المجال للخوض في عمق هذه العناصر، و لكنه من المفيد التذكير أنّ العلاقة التي تربط هذه المحكمة بمنظمة الأمم المتحدة هي علاقة لا يمكن وصفها “بالعضوية”، فعلى عكس الوضع بالنسبة للمحكمتين الجنائيتين الدوليتين الخاصتين بيوغسلافيا سابقا و برواندا، فإنها لم تنشأ بقرار من مجلس الأمن و لا وجود لأيّ تنصيص على اعتبارها هيكلا من هياكل المنظمة. أو على وجود أيّ ارتباط هيكلي من أيّ نوع مع المنظمة. إنما يوجد من جهة، رابط قانوني في شكل اتفاق مبرم بين المحكمة والمنظمة على غرار الاتفاق الرابط بين هذه الأخيرة و بين المحكمة الدولية لقانون البحار أو بين المنظمة و بين الوكالة الدولية للطاقة النووية. و من جهة ثانية وجود رابط وظيفي بين المحكمة و المنظمة الأممية من خلال الدور الذي أوكل إلى مجلس الأمن (بخصوص تحريك الدعوى أو تعطيلها، بحسب الحالات) و هي النقطة التي سيتم تناولها من خلال هذا العرض و التي كانت موضوع نقاشات هامة و حادة أثناء المفاوضات، سواء في المرحلة التحضيرية أو في مرحلة اعتماد مسودة مشروع النظام الأساسي في روما.

نقاشات إذن حول العلاقات بين مجلس الأمن و المحكمة الجنائية الدولية أو بالأحرى بين دوريهما. فالمطلوب هو الفصل بين العدالة و السياسة أو بين العدالة و بين دور الشرطي الموكول إلى مجلس الأمن دون الفصل التام بين العدالة و المحافظة على السلم. أي أن غاية البعض من خلال “نظام روما الأساسي” هو التوفيق بين مقتربين أو بين نوعين من المنطق: المقترب القضائي و المقترب السياسي، على اعتبار أن المقتربين ضروريين لمواجهة جرائم لها علاقة تاريخية مؤكدة مع العلاقات السياسية الدولية. فكانت هنالك مواجهة بين المدافعين عن محكمة جنائية دولية مستقلة و بين الذّين يدافعون عن دور مجلس الأمن.
و لكنه من الواضح أنّ “نظام روما” حاول التوفيق بين هيكلين دون أن يتمكن من تخطي أولوية و علوية عمل مجلس الأمن، كما حاول أن يؤطر و أن “يستعمل” اختصاصات مجلس الأمن لفائدة المحكمة دون أن يوفق في جعل كل ذلك في خدمة “فعلية” دور المحكمة. و في كل الحالات فإنّ العلاقة بين مجلس الأمن و المحكمة لا تسمح لهذه الأخيرة باجتناب التسييس و بالتالي الحد من دورها و من استقلاليتها، و هذا ما سوف نحاول تبيانه من خلال التعرض في مرحلة أولى إلى دور مجلس الأمن في تحريك الدعوى أمام المحكمة الجنائية الدولية. و في مرحلة ثانية إلى دور مجلس الأمن الحدّ من فعلية عمل المحكمة.

أولا: مجلس الأمن و تحريك الدعوى أمام المحكمة الجنائية الدولية

مكنت المادة 13 فقرة ب من “نظام روما الأساسي” (النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية) مجلس الأمن من تحريك الدعوى أمام المحكمة و إثارة اختصاصها. و على الرغم من الاعتقاد السائد بأن ذلك سيقوي المحكمة و يزيدها فعالية فإن تمكين مجلس الأمن من ذلك لا يخلو من الانتقادات. و لكن قبل أن ننظر في هذه الانتقادات علينا أن نتساءل أولا متى يمكن لمجلس الأمن أن يحيل مسألة ما على أنظار المحكمة؟ و ما هي انعكاسات هذه الإحالة؟

1- شروط ممارسة مجلس الأمن لهذا الاختصاص و انعكاساته:

بما أنّ المسألة تتعلق بمجلس الأمن فإنّ الرجوع إلى المادتين 39 و 41 من ميثاق الأمم المتحدة واجب، و حسب هاتين المادتين يكون اتخاذ قرار من قبل مجلس الأمن رهين شرطين: الأول أن يتعلق الأمر باعتداء أو تهديد أو انقطاع لحالة السلم و الأمن الدوليين. و الثاني وجوب أن تكون الإجراءات المتخذة ضرورية لإعادة السلم و الأمن و المحافظة على “النظام العام الدولي”. لذا فلكي يتمكن مجلس الأمن من إحالة القضية إلى المحكمة الجنائية الدولية يجب أن تكون الجريمة محلّ الدعوى متمثلة في جريمة اعتداء أو تهديد أو عمل أدى إلى انقطاع حالة الأمن و السلم الدوليين. وهو ما قد يسمح بالقول بأن ذلك قد يغطي كل مجالات اختصاص المحكمة الجنائية الدولية. إلاّ أنّ الالتزام الحرفي بهذا النص يطرح بعض الإشكالات حول مفهوم “التهديد للأمن و السلم الدوليين” و التي قد تستدعي بأن يقوم مجلس الأمن بتوسيع هذا المفهوم حتى يتمكن من إحالة مسالة ما إلى المحكمة. ذلك أنّ العلاقة لا تبدو في بعض الحالات واضحة و جليّة بين بعض الجرائم الدولية الخطيرة كجريمة الإبادة و الجرائم ضد الإنسانية و بين تهديد أو انقطاع السلم

والأمن الدوليين. و هو ما يؤكده تعامل مجلس الأمن مع وضعيات سابقة أدت إلى إنشاء المحكمتين الجنائيتين الدوليتين الخاصتين بيوغوسلافيا سابقا و برواندا أو من أجل التدخل خلال الأزمات الإنسانية. و في هذه الحالات فإنّ مجلس الأمن يسعى إلى تكييف وضعية تتعلق بأزمة إنسانية أو بمساس صارخ و ذو صبغة عامة (أو معممة) بحقوق الإنسان، بوصفها تهديدا للسلم و الأمن يتطلب تدخله تأسيسا على الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة. و يمكن أن نسوق مثالا هنا عدة قرارات لمجلس الأمن نذكر من بينها سلسلة القرارات المتعلقة بالعراق بداية من أولاها و على وجه الذكر القرار 688 بتاريخ 3 أبريل 1991 و الذي جاء فيه ” إن مجلس الأمن شديد الانشغال بحالة قمع المواطنين المدنيين العراقيين التي أدت إلى حركة كثيفة لللاجئيين تجاه الحدود الدولية و من خلالها إلى انتهاك الحدود الذي من شأنه أن يهدد السلم و الأمن الدوليين في المنطقة”. هذا مثال إذن لتوسيع مفهوم تهديد السلم و الأمن الدوليين ليشمل قمع المدنيين داخل الدولة الواحدة. يعني هذا أنه إذا أراد مجلس الأمن أن يحيل مسألة من هذا القبيل على أنظار المحكمة الجنائية الدولية يكون عليه أن يصدر قرارا مشابها للقرار المذكور يستند فيه إلى الفصل السابع من الميثاق.

كما يمكن أن نذكر قراري مجلس الأمن المتعلقين بإنشاء المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغسلافيا سابقا من جهة و بالمصادقة على النظام الأساسي لنفس المحكمة من جهة ثانية. بالنسبة للأول جاء في القرار 808 بتاريخ 22 فبراير 1993 أن حالة الاعتداء الصارخ و الشامل للقانون الدولي الإنساني فوق تراب يوغسلافيا سابقا تشكلّ تهديدا للسلم و الأمن الدوليين، و بالنسبة للثاني، جاء في القرار 827 المؤرخ في 25 ماي 1993 “أنّ حالات القتل المكثفة و الاعتقالات و الاغتصاب المنظم والآلي للنساء و مواصلة ممارسة التصفية العرقية تمثل استمرارا في تهديد السلم والأمن الدوليين” و في ذلك تجسيد لإصرار مجلس الأمن على توسيع مفهوم تهديد السلم و الأمن الدوليين و إقامة علاقة وثيقة بين هذا المفهوم و مفهوم الجرائم ضدّ الإنسانية.
أما الشرط الثاني فيتمثل في كون الإحالة على المحكمة الجنائية الدولية لا يمكن أن تكون صحيحة إلاّ إذا كانت ضرورية لحفظ أو إعادة السلم و الأمن الدوليين. يعني ذلك أن الهدف الوحيد من الإحالة يجب أن يكون لحفظ أو إعادة السلم و الأمن الدوليين و ذلك من أجل اختلاق علاقة بين المحكمة الجنائية الدولية و بين حفظ الأمن و السلم في العالم. وهي علاقة يراها البعض وثيقة (كما ذكر الأمين العام السابق للأمم المتحدة في الخطاب المشار إليه أعلاه) في حين قد لا تكون سوى ادعاءا كما سوف نحاول أن نبيّن بعد حين.
و لكن قبل ذلك ما هي انعكاسات تحريك مجلس الأمن للدعوى أمام المحكمة الجنائية الدولية؟
يمكن القول أنّ هناك سلسلتين من الانعكاسات، ترتبط الأولى بالمحكمة في حدّ ذاتها و تتصل الثانية بالدول.
ففيما يتعلق بالمحكمة فإنّ تحريك الدعوى من قبل مجلس الأمن يمكن أن تكون له بعض الآثار الإيجابية على عملها مثل الوصول بأكثر سهولة إلى المعلومات و إلى الأدلة الثبوتية، كما تكون عمليات البحث و التقصي مدعومة بكل الثقل السياسي لمجلس الأمن. و ترتبط كذلك بالإحالة من قبل مجلس الأمن إمتيازات مالية حيث تموّل كل الأعمال المنجرّة عن هذه الإحالة من ميزانية الأمم المتحدة.[2]

وقد ينجرّ عن هذه الإحالة توسيع لدائرة اختصاص المحكمة التي تحدّها المادة 12 .2 من النظام والتي تشترط موافقة الدولة التي ارتكبت على ترابها الجرائم المقصودة بالمادة 5 أو التي يكون المتهم حاملا لجنسيتها على اختصاص المحكمة، وهو الحدّ الذي يختفي إذا ما تمّ تحريك الدعوى من قبل مجلس الأمن. ومن جهة ثانية فإنّ المحكمة تجد نفسها مختصّة كذلك بالنظر بنفسها في شرعيّة الإحالة من قبل مجلس الأمن إذ يكون عليها أن تتثبت من أنّ المجلس قد تحرّك طبقا لمتطلبات الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة وإن كان تقييمها هذا شكليّا فحسب إذ لا يمكنها أن تتفحّص فحوى التكييف في حدّ ذاته الذي قام به مجلس الأمن وهو اختصاص حصريّ لفائدته.

أمّا بالنسبة للدّول فإنّ تحريك الدعوى من قبل مجلس الأمن يرتّب أوّلا وكما ذكرنا تغييبا لإرادتها أو بالأصحّ لموافقتها على تولّي المحكمة النظر في مسائل تمّت فوق ترابها أو التحقيق مع أشخاص متهمين يحملون جنسيتها، وتعتبر هذه المسألة خطيرة خاصّة بالنسبة للدّول التي لم توقع على معاهدة إنشاء محكمة أو التي لم تنضمّ إلى نظامها الأساسي.
كما أنّ الإحالة عن طريق مجلس الأمن ترتّب تجاه الدّول (المعنيّة) التزاما بالتعاون مع المحكمة. وقد أثارت هذه النقطة جدلا حادّا لمعرفة ما إذا كان هذا الإلتزام بالتعاون يشمل كلّ الدّول أم فقط الدوّل الأطراف في نظام روما والدّول التي تربطها بالمحكمة اتفاقيات خاصّة؟ ويبدو أنّ الرأي السائد هو اعتبار كلّ الدول معنيّة بهذا الإلتزام على اعتبار أنّ كلّ الدّول تأسيسا على المادّة 25 من ميثاق الأمم المتحدة ملزمة بالتعاون مع مجلس الأمن عندما يتدخّل هذا الأخير لحفظ السلم والأمن الدوليين. وإن كانت قراءة حرفيّة لنصّ المادتين 86 و87 من نظام روما الأساسي تفيد فقط إلزاما الدّول الأطراف أو التي تربطها إتفاقيات خاصّة بالتعاون مع المحكمة. في الحقيقة إنّنا نميل إلى ترجيح أنّ إجراء تحريك الدعوى في حدّ ذاته من طرف مجلس الأمن لا يلزم كلّ الدول بالتعاون مع المحكمة ولكن قد تستدعي عمليات التحقيق لاحقا أن يصدر مجلس الأمن قرارا يلزم بعض الدّول بالتعاون مع المحكمة خدمة للغرض الذي من أجله تمّت الإحالة وهو في كلّ الأحوال حفظ الأمن والسّلم الدوليين.

2 ـ علاقة القضاء الجنائي الدولي بحفظ السلم ، علاقة مشكوك في أساسها :

لقد أثار أساس تحريك الدعوى أمام المحكمة الجنائية الدولية على الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة انتقادات عديدة وذلك لأسباب أساسيّة ثلاث : أوّلا لأنّ سلطات مجلس الأمن فيما يتعلق بحفظ السلم والأمن الدوليين محدّدة بميثاق الأمم المتحدة لا بموادّ النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية .ثانيا لأنّ بعض التجارب أثبتت أنّ القضاء الجنائي الدولي لم يستطع أن ينجح في كلّ الحالات في المساهمة في حفظ السلم والأمن الدوليين . ثالثا لأنّ تدخّل مجلس الأمن قد يؤدّي إلى تسييس دور المحكمة ممّا قد يعرقل عملها.

أ ـ سلطات مجلس الأمن محدّدة بموادّ ميثاق الأمم المتحدة :

إذا ما رجعنا إلى المادّة 24- 2 من ميثاق الأمم المتحدة فإنّ قيام مجلس الأمن بالمهام الموكولة له أي حفظ الأمن والسلم الدوليين يتمّ وفق أهداف ومبادئ الأمم المتحدة عن طريق سلطات منحت له وحدّدت في الفصول 6و7و8 و12 من الميثاق. انطلاقا من هنا فإنّ العديدين أشاروا إلى أنّ نظام روما يمنح لمجلس الأمن سلطات أوسع من تلك التي منحها إيّاه الميثاق ” أو تلك التي تتطلبها العلاقات الدوليّة المعاصرة “[3] وهو ما يجعل من تأسيس إمكانيّة تحريك الدعوة من قبل مجلس الأمن، تأسيسا مقدوحا في صحّته اعتبارا لكونه يؤدّي إمّا إلى تعديل ” ضمني ” لميثاق الأمم المتحدة من طرف هيأة غير مختصّة وبدون احترام الإجراءات المطلوبة في هذه المسألة أو إلى التسليم بأنّه قد تكون لمجلس الأمن اختصاصات خصوصيّة أخرى غير محدّدة في الفصول المذكورة ( أي 6و7 و8 و12 ) تقوم على فكرة أنّ مجلس الأمن هو الجهاز الدولي الأعلى المكلّف بحفظ السلم والأمن الدوليين فعليه بالتالي أن يقوم بكلّ ما من شانه أن يحفظهما حتّى وإن لم يكن مضمّنا في موادّ الميثاق، والأغلب أنّ هذا التأسيس غير مقنع.
من جهة ثانية فإنّ نفس المادة 24 في فقرتها الأولى تفيد أنّ كافّة أعضاء الأمم المتحدة قد أهّلوا مجلس الأمن لتحمّل مسؤولية حفظ السلم والأمن الدوليين وأنّه في قيامه بمهامه المرتبطة بتلك المسؤولية فإنّه يتصرّف باسمهم جميعا، أي أنّ أعضاء الأمم المتحدة قد منحوا لمجلس الأمن وكالة لا يمكن المساس بها أو تعديلها إلاّ بإرادتهم جميعا لا فقط بإرادة الدول الأطراف في نظام المحكمة الجنائية الدولية.

ب- علاقة القضاء الدولي بحفظ السلم والأمن الدوليين علاقة غير مؤكدة :

علاقة غير مؤكدة لأنّ عمل القضاء الجنائي الدولي قد يؤدّي أحيانا أو يساهم في انقطاع حالة السلم والأمن الدوليين أو أنّه قد يساهم في تعطيل تحقيقهما وبالتالي فإنّ مجلس الأمن قد لا يتمكّن في أغلي الأحيان من أن يمارس اختصاص تحريك الدعوى نتيجة لوجود هذا التناقض بين تحريك الدعوى وحفظ السلم والأمن.
قد يتّضح ذلك من خلال مثالين من تاريخ القضاء الجنائي الدولي، يعود الأوّل إلى سنة 1998 حيث كانت هناك ضغوطات دوليّة من أجل إنشاء محكمة جنائية دوليّة خاصّة بالخمير الحمر بكمبوديا على إثر انضمام اثنين من المسؤولين السابقين بالخمير الحمر إلى الحكومة الكمبودية. هذا الإنضام جاء بعد جهود كبيرة من أجل المصالحة وإقرار السلم في هذا البلد، لذلك اعتبرت المطالبة بإقامة محكمة جنائية دولية خاصّة بمثابة السعي إلى وضع حدّ لحالة السلم التي تعرفها تلك الدولة. ورغم الرغبة في إحالة المتهمين بجرائم الإبادة على القضاء فإنّ الحلّ الذي توصّل إليه الكمبوديون وهو إنشاء محكمة كمبودية ذات صبغة دوليّة ( مكوّنة من قضاة كمبوديين وقضاة دوليين ) في ربيع 2003 يحفظ للجميع ماء الوجه ويحمي البلاد من مخاطر الفتنة.
أمّا المثال الثاني فيتعلق بالحل الذي رافق توجيه الإتهام إلى الرئيس السابق ميلوزيفيتش أثناء أزمة كوسوفو حيث وجهت التهمة إليه أثناء المفاوضات الأمر الذي أثار إشكالية شرعية تلك المفاوضات مع متّهم بجرائم ضدّ الإنسانية وهو ما ينجرّ عنه استمرار الأزمة وتواصل لحالة الإنقطاع التي عرفها السلم والأمن الدوليين وهو ما يدعم الرأي القائل بأنّ العلاقة بين القضاء الجنائي الدولي وحفظ السلم هي علاقة مصطنعة وليست آليّة.

ج- تدخّل مجلس الأمن قد يؤدّي إلى تسييس دور المحكمة ممّا قد يعرقل عملها:

كثيرون هم الذين تمسّكوا بالقول بأنّ مجلس الأمن إنّما هو هيأة سياسية مكلّفة بحلّ إشكالات ذات طبيعة سياسية. لذلك فإنّ المسائل التي قد يحيلها على المحكمة لا يمكنها ألاّ تتضمّن بعدا سياسيّا ممّا قد يؤدّي إلى تسييس دور المحكمة في حين أنّ هذه الأخيرة لا بدّ أن تبقى بعيدة عن كلّ الإعتبارات السياسية ونسوق هنا موقف الوفد المصري على سبيل المثال في مفاوضات روما (15 جوان 1998) وهو موقف يعبّر عن عديد مواقف الدوّل الأخرى العربيّة خاصّة، والذي جاء فيه ” إنّ مصر تريد محكمة لها استقلالها، ويقتضي ذلك مراعاة عدّة أمور من بينها أن تكون المحكمة بمعزل عن الأهواء السياسية، وهذا يوجب في نظرنا رسم حدود العلاقة ما بين المحكمة ومجلس الأمن فلا ينبغي أن يؤثّر مجلس الأمن وهو جهاز سياسي – على المحكمة وهي جهاز قضائي – وانطلاقا من هنا نرى أنّ دور مجلس الأمن في تحريك الدعوى يجب أن يكون في أضيق الحدود وأن يقتصر على امكانية إحالة حالات على المحكمة … وعلى المحكمة أن تقرّر بعدئذ تحريك الدعوى من عدمه بشأن تلك الحالات ” يعني هذا بأن لا تكون المحكمة رهينة إرادة مجلس الأمن وأن تكون لها حريّة قبول أو رفض تحريك الدعوى ولا أن يكون ذلك آليّا كلّما أحال عليها مجلس الأمن مسألة ما.
من جهة ثانية فإنّ الطبيعة السياسية لمجلس الأمن تؤدّي حتما في بعض الحالات إلى عرقلة عمل المحكمة والحدّ من دورها. فالإحالة عن طريق مجلس الأمن يعني صدور قرار يحصل فيه إجماع للدّول دائمة العضويّة في المجلس أو لم تستعمل ضدّه إحدى هذه الدّول حقّ الفيتو، أي قرار الإحالة يجب أن لا تعترض بشأنه أيّ دولة من الدول دائمة العضويّة وهو ما من شأنه أن يعطي للأعضاء الدائمين في مجلس الأمن إمكانية شلّ أعمال المحكمة لاعتبارات سياسيّة بحتة فلا يمكن مثلا أن نتصوّر إحالة من قبل مجلس الأمن بشأن الجرائم التي ارتكبتها أو ترتكبها اسرائيل بحقّ الشعب الفلسطيني أو بحقّ المدنيين اللبنانيين. (وذلك بسبب فيتو أمريكي مؤكّد ) .
على صعيد آخر فإنّ عرقلة أعمال المحكمة بسبب الإحالة من قبل مجلس الأمن يمكن أن تحصل بشكل غير مباشر بخصوص جريمة العدوان، فالإقرار بوجود هذه الجريمة هو اختصاص حصريّ لمجلس الأمن، لذا فلا يمكن للمحكمة أن تنتصب لتنظر في جريمة من هذا القبيل إلاّ بعد أن يكون مجلس الأمن قد أصدر قرارا يقرّ فيه بوجودها عملا بمقتضيات المادة 39 من ميثاق الأمم المتحدة. “أي أنه في حالة جريمة العدوان فإنّ أعمال المحكمة في مرحلتي التحقيق و توجيه الاتّهام يمكنها أن تتعطل أو تتأجّل إذا لم يقر مجلس الأمن صراحة بهذه الجريمة”[4].
هذا يقودنا إلى الجزء الثاني من هذا العرض و الذي سوف نتعرض فيه إلى الوجه الثاني للعلاقة بين مجلس الأمن و المحكمة الجنائية الدولية و هو الوجه المتعلق بإمكانية تعطيل و تجميد عمل المحكمة عندما لا يكون المجلس مصدر الإحالة.

ثانيا/ دور مجلس الأمن في الحدّ من فعلية عمل المحكمة: تعطيل عمل المحكمة بطلب من مجلس الأمن

إنّ من أخطر التناقضات التيّ يتضمنها النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية هو منح الإمكانية لمجلس الأمن بأن يجمد بقرار أعمال المحكمة. فلقد جاء في المادة 16 من النظام الأساسي أنّه ” لا يمكن القيام بأي بحث أو متابعة منصوص عليها بالنظام طيلة الإثني عشر شهرا الموالية لتاريخ توجيه مجلس الأمن طلبا في هذا الاتجاه إلى المحكمة، بمقتضى قرار مؤسس على الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة. و يمكن تجديد الطلب من طرف المجلس طبقا لنفس الشروط”.
لقد اعتبرت هذه الإمكانية من قبل العديد من الباحثين و الملاحظين بمثابة المساس الصارخ بالمادة العاشرة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان و المادة 14 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية و السياسية و تناقضا واضحا مع المادة 40 من نظام روما الأساسي المتعلقة باستقلال القضاة و بمبدأ استقلال القضاء عموما كما تعرضت له كلّ هذه النصوص. لذلك فإنّ المادة 16 المذكورة تعتبر مساسا بفعلية عمل المحكمة، باستقلالها و بمشروعيّتها، و هي تمنح لمجلس الأمن اختصاص توقيفي كثير الاتساع.
و ذلك خلافا للمادة 23 . 3 من المشروع الذي وضعته لجنة القانون الدولي و التي أدرجت إمكانية مماثلة و لكن بطريقة أدق و أبعد عن الاعتبارات السياسية، حيث جاء في هذه المادة أنّه لا يمكن إجراء أيّ تحقيق أو متابعة بشأن حالة يكون مجلس الأمن بصدد تناولها كحالة تحمل تهديدا للسلم أو انقطاعا لحالة السلم أو عملا عدوانيا..” هذه المادة من المشروع تسمح بإمكانية التعطيل فقط لأسباب تتعلق بالتنسيق بين المحكمة و مجلس الأمن بشأن مسائل لم تعرض بعد على المحكمة لا كما هو الحال بالنسبة للمادة 16 من نظام روما و التي تترك مساحة واسعة للاعتبارات السياسية حيث تمكّن مجلس الأمن من أن “ينقذ كل من أراد إنقاذه” من دائرة نظر المحكمة.

إنّ التناقض الأهم هنا يتمثل في كون “حفظ الأمن و السلم الدوليين” و هو الأساس الذي يمكّن مجلس الأمن من إحالة مسألة ما أمام المحكمة و من تحريك الدعوى أمامها، يصبح في هذه الحالة هو الأساس لتجميد اختصاصها.

كما تجدر الإشارة إلى أنّه كان من المفروض أو من الأجدى تقييد إمكانية “التجميد” بمدة زمنية محددة، أو بعبارة أخرى الحدّ من إمكانية التجديد (التجميد مدّة 12 شهرا) فورودها بشكل مطلق في النظام لا يمكن أن تفسّر إلاّ بالرغبة لترك الباب مفتوحا أمام بعض الإستثناءات التي تستوجب عدم الإصرار على المتابعة والمحاسبة. فكان من الأجدر تصوّر نوع من التعاون بين المجلس والمحكمة في هذا الباب، تعاون يمكّن المحكمة من إبداء موافقتها أو على الأقلّ رأيها لا أن يكون اختصاصا حصريّا وانفراديّا لفائدة مجلس الأمن. فمبدأ أولويّة القضائي على السياسي وهو مبدأ أساسي لحسن سير وإدارة القضاء الدولي يكون قد عرف هكذا تراجعا هامّا بالمقارنة مع المحاكم الجنائيّة الدوليّة الخاصّة التي أنشأت بقرارات من مجلس الأمن نفسه.
صحيح أن البعض قد يقول أنّ مجلس الأمن بإمكانه أن يستند إلى ميثاق الأمم المتحدة مباشرة (المادّة 103 ) ليتمكّن من توقيف أعمال المحكمة، أي دون حاجة إلى تنصيص في النظام الأساسي في حدّ ذاته. ولكنّ التنصيص الصريح الوارد في المادّة 16 قد حسم مسألة كانت من قبيل التأويلات النظريّة (حول المادّة 103 ) لكي يصبح الأمر بالنسبة لمجلس الأمن أكثر وضوحا وسهولة .
من جهة ثالثة ومن باب الحرص على عدم تلاشي الحجج والشهادات كان بالإمكان التنصيص على الإكتفاء بتجميد أعمال تنفيذ بطاقات الإيقاف دون غيرها من أعمال البحث، فنظام روما لا يسمح للمدّعي العام باتخاذ الإجراءات اللازمة للمحافظة على الحجج الهامّة والتي قد لا يمكن إعادة توفيرها فيما بعد.
مع كلّ ذلك فإنّ البعض يبدو متفائلا إذ أنّ قرار التجميد إيقافهو قرار يصدر تأسيسا على الفصل السابع من الميثاق لذا فهو يحتاج إلى موافقة الخمس أعضاء دائمي العضويّة في مجلس الأمن أو عدم إستعمال أحدهم لحقّ الفيتو تجاهه لذا يمكن للمحكمة أن تأمل في ألاّ يتّفق هؤلاء حتى تنعم بممارسة اختصاصها.

[1] كوفي عنان: خطاب أمام الجمعية الدولية للمحاماة، نيويورك 11 يونيو 1997.
[2] المادّة 115 ب من نظام روما الأساسي
[3] تقرير اللّجنة التحضيريّة الفقرة 130
[4] تقرير اللّجنة الخاصة، فقرة 123. 1996