مقال قانوني هام بعنوان القانون الجنائي و المسطرة الجنائية

بقلم ذ فريد السموني

أستاذ التعليم العالي بكلية الحقوق بالمحمدية

نعتقد أن موضوع السياسة الجنائية بقدر ما يحيل على مجموعة من التدابير التي تعتزم الحكومة اتخاذها من أجل مكافحة الجريمة، بقدر ما يطرح من حوله إشكاليات قانونية و إجرائية دقيقة لا تقتصر فقط على مناقشة الوضعية الخاصة التي يعترف بها القانون للوزارة المسؤولة عن قطاع العدل و السلطات الواضحة التي يمارسها الوزير المؤتمن عليه، خصوصا في علاقته بمؤسسة النيابة العامة، بل تمتد أيضا لملامسة بعض المواضيع أكثر عمقا و ذلك بالتساؤل عن طبيعة المسؤولية التي يتحملها الجهاز أو الأجهزة المتدخلة لمكافحة ظاهرة الجريمة: فهل هي مسؤولية قضائية بالمعنى الدقيق للكلمة، بحيث يبقى للجهاز القضائي وحده كلمة الفصل فيها سواء في تحريك قرار المكافحة أو تدبير آليات اشتغالها لحين الحسم القضائي بشأنها، أم هي مسؤولية إدارية تحتاج إلى دعم السلطة التنفيذية، ليس فقط بالنظر لخبرتها و وفرة الوسائل المسخرة لها، و لكن أيضا لما توفره المقاربة الأمنية التي تميز طبيعة عملها من تركيب تصورات إستراتيجية لمكافحة الجريمة كظاهرة و ليس فقط كملفات تعرض على المحاكم، أم هي فوق كل ذلك مسؤولية سياسية تدخل في صميم ما يقع على الدولة من التزامات مجتمعية يتصدرها ضمان الأمن و الاستقرار للمواطنين؟

من دون اختزال الطبيعة المركبة و المعقدة التي يحوزها مفهوم السياسة الجنائية، و من دون السقوط في الإشكالية الدستورية التي يطرحها الموضوع، أي مشكل فصل السلط و الذي لابد من التأكيد هنا على أن أهمية طرحه تقتصر فقط على تصحيح بعض الممارسات المعيبة، نقول إن إشكالية مكافحة الجريمة، التي تعتبر السياسة الجنائية المقاربة الملائمة لاحتوائها، ليست عملية ثابتة لا تحتاج من القاضي سوى تشغيل خبرته القانونية والقضائية لمواجهتها، بل هي نتاج لواقع دائم التحول يلزم تشخيصه أولا لمعرفة ثوابت تجذره و مواكبة تجلياته و متغيراته ليتسنى فيما بعد اختيار الأسلوب الملائم لمواجهته بطريقة عقلانية، كما تركز على النتائج المرضية، فهي تراهن كذلك على الاستمرارية بتحديد الأولويات و تنويع طرق المعالجة، و لما لا تكثيف فرص الاشتغال بشكل منفتح قادر على تحرير الذهنيات من الخلفيات المسبقة…. فمكافحة الجريمة ليست فقط مسؤولية من تدبير الدولة و المراهنة عليها اختبار عملي لمدى نجاعة سياستها، بل هي كذلك

واقع مجتمعي يؤشر على مدى وعي المواطن بمسؤوليته في التحكم في ردود فعله و تسخيرها في خدمة ما تقتضيه العدالة الجنائية من تعاون وانخراط إيجابيين.

إن موضوع السياسة الجنائية بصفة عامة يطرح الكثير من التساؤلات نجمل أهمها في ما يلي

· إذا كان الرأي الراجح في الفقه الجنائي يجمع على أن وزير العدل بالرغم من انتمائه للسلطة التنفيذية لا بد و من موقع مسؤوليته السياسية و الإدارية أن يعترف له بتدبير السياسة العامة لاحتواء ظاهرة الجريمة قضائيا، فكيف يمكن مقاربة هذا الدور من الناحية التشريعية؟

· ما السبيل إلى تلطيف التداخل بين السلطتين التنفيذية و القضائية في مكافحة ظاهرة الجريمة، و كيف يمكن للنيابة العامة كقضاء أن توفق بين تبعيتها لوزير العدل و ائتمانها على سلطة تدبير قرار المتابعة؟

· ما هي التدابير الإجرائية الملائمة التي يمكن اعتمادها من أجل أن يضطلع قضاء النيابة العامة بمسؤوليته كمؤتمن على الدعوى العمومية في إطار منظور شمولي يواجه الجريمة كظاهرة و ليس فقط كنوازل تعرض على المحاكم؟

· ألا يمكن اعتبار وزير العدل سلطة مؤهلة و قادرة على توجيه العدالة الجنائية على الأقل في الجانب الذي تجسد فيه النيابة العامة في هذه العدالة الحق العام؟

ما من شك في أن المشرع المغربي قد حاول ولو جزئيا الإجابة عن هذه الأسئلة خصوصا بمقتضى المادة 51 من القانون الجديد للمسطرة الجنائية، حيث أسند لوزير العدل مهمة الإشراف على تنفيذ السياسة الجنائية، و له أن يبلغها للوكلاء العامين لجلالة الملك الذين يسهرون على تطبيقها. إلا أن المشرع المذكور لم يحدد مضمون هذه السياسة الجنائية، كما أنه لم يعرض لآليات و طرق تشغيلها.

و للاستئناس بالتجربة الفرنسية في هذا المجال، يمكن الإعتماد – و لو أنه مشروع تم التخلي عنه كما سنوضح لاحقا – على مشروع قانون “الدعوى العمومية مع تغيير بعض مقتضيات المسطرة الجنائية” و الذي صرحت بشأنه وزيرة العدل الفرنسية السابقة Mme Elisabeth Guigou بأنه مشروع يتوخى تحقيق هدف مزدوج :

تكريس مزيد من الشفافية في تدخل القضاء و إشعار أصحاب القرار بمسؤوليتهم في كل مراحل المسطرة.

أما عن المقتضيات التي كان يتضمنها، فأهمها ينصب على تحديد طبيعة العلاقات التي تربط بين وزير العدل و مؤسسة النيابة العامة، حيث وقع توضيحها رفعا للشكوك و تجنبا لمزالق التداخل السياسي.

فانتماء الوزير المذكور للسلطة التنفيذية لا يسمح له منطقيا بأن يشغل منصب رئيس النيابة العامة أو أن يدخل ضمن تشكيلتها، مادام أن هذه الأخيرة تعتبر جزءا من السلطة القضائية، و مع ذلك، تبقى النيابة العامة، بحكم خضوعها لوزير العدل و انطلاقا من خصوصية المهام المنوطة بها، المكلفة بالدفاع عن القانون و المصلحة العامة باسم “الأمة”. و هي وضعية لا تسمح لها بأن تتجاهل التعليمات العامة الصادرة عن الوزير المكلف بتحديد و تطبيق السياسة الجنائية الوطنية، على اعتبار أن هذه الأخيرة تشكل إلى جانب القوانين و النظم الإطار المحدد لنشاط المسؤول عن قطاع العدل، و هذا لا يعني أن النيابة العامة، كسلطة قضائية مستقلة بنص الدستور، تشكل وكالة تابعة للسلطة التنفيذية تعمل إلى جانب المحاكم.

بخصوص الفكرة الأولي المتعلقة بتكريس مزيد من الشفافية في تدخل القضاء، اعتبر التقرير المعد من طرف الجمعية الوطنية أن كلا من منطق الشرعية والضرورة يفرضان على الحكومة، و تحت مراقبة البرلمان، تحديد المبادئ الموجهة للسياسة الجنائية. فحسب الفصل الأول من المشروع، يعمد وزير العدل إلى اطلاع النيابة العامة على التوجهات العامة للسياسة الجنائية، و التي لا بد و أن يقع الإلتزام بها في التطبيق. فرغبة في إضفاء مزيد من الشفافية و المراقبة على عمل وزير العدل، قرر المشرع تقنية الإعلان عن التوجهات المذكورة ضمن تقرير سنوي يتم عرضه على البرلمان من أجل الوقوف على الطريقة التي يتم نهجها في التطبيق على المستوى الوطني. و هنا تم استغلال مناسبة التصويت على ميزانية وزارة العدل، لتطال المناقشة العامة التي سيجريها البرلمان حتى الجانب الخاص بالسياسة الجنائية التي يعتزم الوزير نهجها. و بشأن مضمون هذه التوجهات، تذهب مذكرة عرض المبررات إلى أنها ستكون أكثر تفصيلا مما كانت عليه الدوريات في السابق، حيث ستحدد الأولويات التي ينبغي احترامها في سير الدعوى العمومية، و كذا الشروط التي ينبغي احترامها في تطبيق القانون الجنائي. فعلى سبيل المثال يمكن أن يرى وزير العدل من الملائم إعطاء الإمتياز لمساطر البت المباشر بالنسبة لنوع خاص من الإجرام … كما قد يقتضي نظره الحث على استبدال العقوبات الحبسية باقتراح العمل ذي المنفعة العامة. يوجب المشروع أيضا على كل قضاة النيابة العامة واجب احترام التوجهات العامة للسياسة الجنائية في التطبيق، و يقرر ذلك تحت طائلة العقوبة التأديبية، بحيث يعتبر عدم احترام هذا الإلتزام القانوني “إخلالا بواجبات الوظيفة”. يبقى أنه، و بحسب مقتضيات المشروع المتخلى عنه دائما، يمنع على وزير العدل إعطاء تعليمات، و بأية طريقة كانت، بمناسبة قضية خاصة، و حتى على فرض وقوع ذلك، لا يمكن أن يتعرض رئيس النيابة العامة المخالف لأية عقوبة تأديبية، ماعدا إذا تعلق الأمر بمخالفة واضحة لتطبيق القانون.

هذا و إذا كان وزير العدل قد فقد حق توجيه تعليمات للنيابة العامة – بالمفهوم أعلاه -،فقد أكسبه المشروع حق الممارسة المباشرة للدعوى العمومية بقرار غير قابل للتفويض يتخذه الوزير بكل شفافية و تحت مسؤوليته الشخصية. و هو بهذه الطريقة سيتصرف بشكل مباشر على مرأى و مسمع الجميع، بعيدا عن أي تأويل قد توحي به تقنية تنفيذ التعليمات. إلا أن ممارسته المباشرة للدعوى العمومية هنا – سواء بالتماس التحقيق أو تقديم شكاية مباشرة – يبقى خاضعا لقيدين هامين : أولهما انعدام وجود متابعة في الموضوع، و ثانيهما أن تثار المتابعة لفائدة المصلحة العامة.

بالنسبة للفكرة الثانية و المتعلقة باستشعار أصحاب القرار بمسؤوليتهم، فيتعرض لها المشروع بالدرجة الأولى في المقتضيات الخاصة بعدم المتابعة. فحسب اللجنة التي ترأسها السيد Truche انصبت الإقتراحات على ضرورة تعليل القرارات المتخذة من طرف النيابة العامة، و كذا تبليغها للأشخاص المعنيين بها، بالإضافة إلى تمكينهم من حق الطعن لمواجهة القرارات الصادرة بعدم المتابعة . هنا يهدف المشروع إلى تحميل متخذي القرار مسؤوليتهم في علاقتهم مع المتقاضين، سواء كانوا ضحايا أم أشخاص ذوي مصلحة.

و بالرجوع إلى مقتضيات المشروع، الملاحظ أن الفصل الثاني منه يتكون من مادتين كلاهما تتضمن التزامات جديدة يفرضها المشروع على القضاة، سواء تجاه الضحايا (المادة 4) أو تجاه الأشخاص المعنيين بالمسطرة (المادة 5).

بمقتضى المادة الرابعة أصبح من اللازم على وكيل الجمهورية أن يشعر المشتكي بحفظ القضية و كذلك الضحية إذا كانت هويتها معروفة، … كما أصبحت المقتضيات الجديدة للمادة 1/40 ،تفرض على وكيل الجمهورية وباستثناء الحالة التي يتعذر فيها التحقق من هوية الشخص المحتمل متابعته، تعليل حفظ القضية، أي الإشارة إلى الأسباب القانونية (عدم قيام الجريمة مثلا) أو الواقعية (اختيار التذكير بالقانون كإجراء مناسب) التي كانت وراء قرار الحفظ. إضافة إلى ما ذكر، وحتى يكون المتقاضون على اطلاع تام بحقوقهم، يجب أن يشير الإشعار بالحفظ كذلك إلى الشروط التي تمكن الضحية أو المشتكي أو الشخص المبلغ عن الأفعال إما من :

· إثارة المتابعات (شكاية مباشرة، أو شكاية مع الإنتصاب للمطالبة بالحق المدني).

· أو الإستفادة من المساعدة القضائية.

· أو ممارسة الطعن ضد قرار الحفظ.

أما المادة الخامسة فتسمح لكل شخص، سبق له و أن تقدم لوكيل الجمهورية بتبليغ عن أفعال إجرامية، بحق الإستفادة من تقديم طعنه ضد قرار الحفظ. هذه الإمكانية لا يستفيد منها سوى الأشخاص ذوي المصلحة ممن لا يملك الصفة القانونية للإنتصاب طرفا مدنيا.

بخصوص مسطرة الطعن، فهي تمر عبر ثلاث مراحل : الأولى منصوص عليها في المقطع الأول من المادة 1/48، و تقتضي بأن يرفع الطعن لدى الوكيل العام داخل أجل الشهر التالي على التبليغ بقرار الحفظ أو عند تخلف التبليغ، بانتهاء أجل ثمانية أشهر تبتدئ من الوقت الذي يستلم فيه الوكيل العام البلاغ. فبعد الطعن يمكن لهذا الأخير، إما أن يأمر وكيل الجمهورية بتحريك الدعوى العمومية لأسباب قانونية أو تتعلق بالملاءمة، أو يؤيد القرار المتخذ من طرف الوكيل و القاضي بعدم إثارة المتابعة، و في هذه الفرضية الأخيرة، يلزم على الوكيل العام أن يوجه إشعارا معللا للملتمس. بعدها تدخل مسطرة الطعن مرحلتها الأخيرة حيث و حسب الطرق المحددة في المقطع الثاني للمادة 1/48، بإمكان الملتمس أن يعترض فعلا على قرار الوكيل العام برفع طلبه في أجل شهر إلى لجنة الطعون ضد قرارات الحفظ، و يسري هذا الأجل الأخير إما ابتداء من الإشعار بتأييد الحفظ الذي اتخذه الوكيل العام، أو بانتهاء أجل شهرين التالية لرفع الإلتماس لدى الوكيل العام في حالة امتناعه عن الجواب.

و هنا تجدر الإشارة إلى أن لجنة الطعون (الفصل 4/48) تمارس اختصاصها وفق مسطرة كتابية قد تستوجب ضرورة المؤازرة بدفاع : فالمقطع الأول يشير إلى أن اللجنة تبت حسب الملف بالنظر إلى الإشعارات بالحفظ المتخذة من طرف النيابة العامة، و كذا إلى كل الوثائق الأخرى الموجهة من طرف الملتمس، و بإمكانها أن تحصل على نسخة من مسطرة البحث المتعلقة بالجريمة المطلوب فيها المتابعة، أو من مسطرة التحقيق في الفرضية التي يعمد فيها وكيل الجمهورية إلى اتخاذ قرار الحفظ بشأن الأفعال المحالة عليه من طرف قاضي التحقيق غير المشار إليها في الملتمس : هنا تتوفر اللجنة – من أجل تكوين رأيها – على نفس العناصر التي تكون بيد النيابة العامة، بل يسمح لها المشروع بأن تطلب إما من الملتمس أو من النيابة العامة كل المعلومات التي ترى فيها فائدة. هذا و يفرض المقطع الثاني على اللجنة المذكورة إصدار قرار معلل إما بأسباب قانونية أو تفرضها الملاءمة، شأنها في ذلك شأن و كيل الجمهورية و الوكيل العام، كما أن عليها أن تبلغ قرارها لكل من الملتمس و الوكيل العام، و قرارها هنا نهائي غير قابل للطعن. كما تعتبر اللجنة مؤهلة حسب المقطع الثالث من المادة المذكورة لمطالبة وكيل الجمهورية بتحريك الدعوى العمومية إذا ارتأت أن المتابعة مبررة.

مع الأسف، وقع التخلي عن هذا المشروع و حل محله قانون ضخم صودق عليه في 9 مارس 2004 و هو القانون رقم 204/2004، الخاص بتكييف العدالة مع تطورات الإجرام، يهمنا منه المقتضيات الخاصة بالدعوى العمومية.

فحسب الفصل 63 منه أصبح وزير العدل، في فرنسا طبعا، يسير السياسة الخاصة بالدعوى العمومية و المحددة من طرف الحكومة. كما يسهر على تماسك تطبيقها داخل تراب الجمهورية، و لهذه الغاية يوجه لقضاة النيابة العامة تعليمات عامة تهم الدعوى العمومية.

كما أن الوكيل العام من جهته، و دائما حسب القانون أعلاه، أصبح من بين مهامه تسيير السياسة الخاصة بالدعوى العمومية بالنسبة للنيابات العامة التابعة لدائرته.

و بالنسبة لمسطرة الحفظ، و بعد أن يقرر القانون المذكور إشعار وكيل الجمهورية الضحايا بذلك، يسمح لكل شخص قام بتبليغ الوكيل المذكور بأفعال أن يتقدم بطعن لدى الوكيل العام للجمهورية ضد قرار الحفظ و هنا، للوكيل العام إما أن يطلب من وكيل الجمهورية إثارة المتابعات، أو يبلغ المعني بالأمر بتأييده لقرار وكيل الجمهورية إذا اعتبر الطعن غير مبني على أساس.

يتضح مما ذكر أن موضوع السياسة الجنائية، على الأقل بنظرنا المتواضع، لا يرتبط فقط بتحديد طبيعة العلاقات التي تربط بين وزير العدل و مؤسسة النيابة العامة و العمل على توضيحها، بل أيضا بتكريس مفهوم جديد لمبدأ ملاءمة المتابعة بإعطاء المشتكي حق الطعن في قرار الحفظ. مع الأسف قانون المسطرة الجنائية الجديد و بمقتضى المادة 41 لم ينص سوى على إخبار المشتكي أو دفاعه بقرار الحفظ، و هو ما نعتبره توجها إيجابيا ينحو نحو إعطاء مزيد من الضمانات للضحية في أفق ما سيعرفه القانون الجديد من مناقشات، ما من شك في أنها ستحمل تعديلات منتظرة من شأنها أن تعزز الضمانات المكتسبة.