مقال قانوني هام عن الضمانات الدستورية لحق الانتخاب

بقلم

الدكتور محمد رضا بن حماد

أستاذ القانون والعلوم السياسية وعضو المجلس الدستوري –

والعميد السابق لكلية الحقوق والعلوم السياسية بتونس

ظهر الحق الانتخابي مع ظهور الفكرة القائلة بأن الحكومات الديمقراطية هي الوحيدة التي يمكن اعتبارها ذات مشروعية. ومن هنا تحتم وجود الصيغ والإجراءات التي تمكن المحكومين من ممارسة السلطة السياسية وذلك بعملية اختيار حكامهم.

وكانت عملية إضفاء المشروعية على الحكام في القديم لا تخضع للإجراءات الانتخابية لأن الحاكم كان يستمد نفوذه من الإله. وقد تطورت في ما بعد الفلسفة التي انبنت عليها السلطة السياسية التي أصبحت ترتكز على مبدأ سيادة الأمة أو الشعب. وقد أدى هذا إلى تدخل المحكومين في اللعبة السياسية وذلك باختيارهم لحكامهم. وهكذا بعد أن كانت الأنظمة ترتكز على نظرية السيادة التيوقراطية أصبحت تستمد شرعيتها من الانتخابات التي تعبر عن احترام حقوق الإنسان وحريته الفردية حتى أن بعض المفكرين اعتقد أنه لا يمكن الحديث عن الديمقراطية في غياب ممارسة المواطن لحق الانتخاب، إلا أن هذا الحق لم تتم ممارسته في البداية من قبل جميع المواطنين.

فمفكرو عصر الأنوار بالرغم عن إيمانهم العميق بمبدأي الحرية والمساواة وضرورة انتقال السيادة من شخص الملك إلى المجموعة لم يطالبوا بالاقتراع العام. فالفكرة الحديثة التي تسند كل مواطن بلغ سن الرشد السياسي حق التصويت والتي تعتبر اليوم الضمانة الأساسية والجوهرية لحق الانتخاب لا تجد مصدرها في كتابتهم بل تجسمت بصفة تدريجية من خلال الصراعات السياسية وما حققته الديمقراطية من مكاسب.

فحق الاقتراع بعدما كان مقيداً أي مقتصراً على أقلية معينة من المواطنين تحدد حسب شروط ترتبط بالثروة والنصاب المالي كدفع الضرائب في حدود معينة وكالكفاءة العلمية أصبح عاماً. وقد حدث هذا المنعرج السياسي والفكري مع ثورة 1789 من خلال إرسائه بفرنسا سنة 1793 لانتخاب مجلسLa Convention. ولكن الظروف التي واكبت انتخاب هذا المجلس لم تسهل ثباته والأخذ به بصفة نهائية. ولم ترجع فرنسا إلى العلم بالاقتراع العام إلا في سنة 1848. وجاء إرساء الاقتراع العام في الدول الأوروبية بصفة متأخرة. فقد عرفته إيطاليا سنة 1912 وأنقلترا وهولندا سنة 1918 وألمانيا سنة 1919. ويمكن القول أن السنوات التي تلت الحرب العالمية الأولى عرفت دخول الاقتراع العام في العادات السياسية لأغلب الدول الغربية. وتأخذ اليوم دساتير جل دول العالم بالاقتراع العام، ومن ضمن هذه الدول نشير إلى تونس التي عرفته لأول مرة يوم 25 مارس 1956 بمناسبة انتخاب أعضاء المجلس القومي التأسيسي.

ويشمل الاقتراع العام المواطنين الذين بلغوا سناً معينة تجيز لهم ممارسة حق الانتخاب. غير أن هذا الحق كان محصوراً فقط في الرجال دون النساء. وتعتبر الولاية الأمريكيةWyoming أول من أعطى حق التصويت للمرأة سنة 1869. وأسندت فيما بعد كل من استراليا سنة 1901 والنرويج في سنة 1913 والدنمارك سنة 1915 وبريطانيا سنة 1918 والولايات المتحدة الأمريكية سنة 1920 وبلجيكا سنة 1921 والسويد سنة 1930 وتركيا في سنة 1936 وفرنسا وإيطاليا سنة 1945 ولبنان سنة 1953 ومصر سنة 1956 وتونس في 14 مارس 1957 وسويسرا سنة 1971 والكويت في 16 مايو 2005 حق الاقتراع للمرأة.

وساند القانون الدولي هذا التطور نحو تعميم الاقتراع العام فقد تم تأكيده في كل من الفقرة الثانية من الفصل 21 من الإعلام العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة في 10 ديسمبر 1948 والفصل 25 من العهد الدولي للحقوق المدنية السياسية الصادر في 16 ديسمبر 1966.

وهكذا مع انتصار المبدأ الديمقراطي وبالتالي ضرورة اشتراك المواطن في الشؤون العامة أصبح الاقتراع العام الذي تم تكريسه على مستوى الدساتير المعاصرة والمواثيق الدولية المتعلقة بالحقوق المدنية والسياسية للإنسان إحدى الضمانات الأساسية لحق الانتخاب. وتدعم هذا الضمان الأساسي لحق الانتخاب المتمثل في الاقتراع العام من خلال الإقرار التدريجي للدساتير المعاصرة كذلك بضرورة حمايته من كل ما من شأنه أن يخل بنزاهة وسلامة العملية الانتخابية من كل الانحرافات وذلك من خلال إرساء آليات رقابة على مستوى كل مراحل العملية الانتخابية. فالانتخابات الصادقة والنزيهة والشفافة تستوجب فتح المجال أمام الناخبين والمرشحين للطعن كلما ارتأوا أنه تم انتهاك القواعد القانونية المنظمة للعملية الانتخابية وسلامتها وذلك أمام هياكل مستقلة أسندت لها الدساتير مهمة مراقبة العملية الانتخابية والفصل في المنازعات الانتخابية في مختلف أطوارها. وتزامن التكريس الدستوري للاقتراع العام كضمانة لحق الانتخاب مع مزيد فتح المجال للطعن أمام الناخبين والمترشحين والتعزيز المستمر لصلاحيات الهياكل المكلفة بمراقبة الانتخابات.

وهكذا فضمانات حق الاقتراع تتمثل في تكريس الدساتير المعاصرة والقوانين الانتخابية المتممة لها والمجسدة لهذه الضمانات الدستورية لمبدأين أساسيين. هما مبدأ الاقتراع العام (أولاً) ومبدأ إخضاع العملية الانتخابية على مستوى كل مراحلها للرقابة حتى تدور بصفة صادقة وسليمة في كنف احترام القواعد الدستورية والقانونية المنظمة لها (ثانياً).

أولاً: ضمان حق الانتخاب من خلال التكريس الدستوري للاقتراع العام

لقد غذت الفكرة التي تقوم على إعطاء جميع المواطنين نفس الحق لاختيار حكامهم عن طريق حق الانتخاب والتي تبدو منذ أكثر من قرن كإحدى البديهيات، نقاشاً متقداً حول طبيعتها وحول المبدأ الذي تستند إليه إضافة إلى الأسس التي ترتكز عليها.

فالاقتراع العام الذي صار ثابتاً كمبدأ، ألهم مشاعر متناقضة لدى أعدائه ومناصريه على السواء. فأما أعداؤه فيعيبون عليه طابعه المحدود في أساسه فضلاً عن عدم قدرته على فهم ضرورة العلم وتفوق النبيل والعالم. ويستشهد هؤلاء الأعداء غالباً بالرسائل التي كتبها فلوبار إلى جورج ساند سنة 1871 وندد فيها بعنف بالاقتراع العام كعار حقيقي يشوه العقل البشري. أما المناصرون، فعلى النقيض تماماً، إذ هم يرون في الاقتراع العام رمزاً للديمقراطية ووسيلة ضرورية لتحقيقها.

ولكن بقطع النظر عن هذه الاختلافات، فإن الاقتراع العام يمتزج اليوم مع سيادة الشعب ويعبر عن المساواة بين الجميع. ويجد هذا الأساس المزدوج للاقتراع العام في عمليتي انتقال: الانتقال من سيادة الملك إلى سيادة الشعب من جهة والانتقال من تنظيم اجتماعي تفاضلي إلى تنظيم اجتماعي يقوم على المساواة بين أفراد أحرار ومستقلين من جهة أخرى.

ولم يؤد التأكيد على سيادة الشعب، وهي الشرط الضروري لممارسة حق الاقتراع وتحقيق المساواة السياسية بين الأفراد، بصفة آلية إلى الاقتراع العام. فخلال القرن الثامن عشر والنصف الأول من القرن التاسع عشر، لم يكن الاقتراع العام مبدأ بديهياً. فالتساؤلات حول ملاءمته السياسية وحول الشريعة الفلسفية التي يمكن أن تسند تعميمه على جميع الأفراد مثلت طوال عشرات السنين محور الحياة الثقافية والمنابر السياسية.

وتم في النهاية فرض الاقتراع العام بتكريسه دستورياً وبالتالي ضمانه لحق الانتخاب من خلال تعبيره عن سيادة الشعب من جهة (أ) ومن خلال ارتباطه مبدأ المساواة بين المواطنين من جهة أخرى (ب).

أ- الاقتراع العام وسيلة ضرورية لضمان حق الانتخاب من خلال تعبيره عن سيادة الشعب:

لم يكن القطع مع السلطة المطلقة والانتقال من سلطة الأمير إلى سلطة المجموعة متبوعاً بظهور الاقتراع العام، فالتحول من السيادة الدينية إلى سيادة الأمة أو الشعب لم يسمح في البداية لمجموع الأفراد بممارسة حق الانتخاب.

وفي هذا السياق، جاء التصور الأول الذي عرف المجموعة البشرية بالأمة ليضع هذه الأمة فوق الشعب، بل أكثر من ذلك فرض على الشعب خدمتها، فالأمة لا تمتزج مع مجموع المواطنين الذين يعيشون، في وقت معين، على إقليم الدولة، لأنها تتجاوز هذا المجموع المادي لتشمل في نفس الوقت الماضي والحاضر والمستقبل. فهي مكونة من الأحياء ومن الأموات ومن الذين لم يولدوا بعد. وإذا كان بإمكان المواطنين الاقتراع، فإن هذا الاقتراع ليس حقاً، بل هو وظيفة يتولاها الناخبون باسم الأمة وبغرض خدمتها. وهذه الوظيفة مخصصة لمن هو جدير بها ولمن كان قادراً، على وجه الخصوص، على استعمالها طبقاً لمصلحة الأمة. فالمواطنون المتميزون ببعض الكفاءات هم وحدهم، حسب هذا التصور، الذين لهم أهلية التعبير عن مصالح الأمة ولا مجال، نتيجة لذلك، للاقتراع العام في كل الأحوال.

أما في التصور الثاني، فالمجموعة تتطابق كلها مع الشعب، وهو تصور يؤدي بصفة منطقية إلى الاقتراع العام ما دام كل فرد يمثل مع باقي أفراد المجموعة الشعب ويمتلك جزءاً من السيادة. وعدم الاعتراف للفرد بحقه في الانتخاب يتناقض، في هذا الإطار، مع المبدأ الذي يضع السيادة في مجموع المواطنين.

غير أن هذا التطابق بين الهيئة السياسية والشعب لم يؤدّ في البداية، إلى تطبيق الاقتراع العام. فنظرية سيادة الشعب ظهرت مقترنة منذ بداية القرن السادس عشر بفكرة التصدي للظلم عبر التشهير بالحكم المطلق وعدم التسامح الديني ومساوئ النظام الملكي ولم تظهر داعية إلى مشاركة الشعب في ممارسة السلطة أو حكم الشعب بالشعب.

لذلك، فهي لم تدفع بصفة آلية إلى تكريس فكرة الفرد الناخب، الضرورية للتعبير عن حق الاقتراع كما هو معروف اليوم. ثم جاءت، بعد ذلك، النظريات التعاقدية للسلطة، مع لوك على وجه الخصوص، لتحدث نقلة في محتوى نظرية سيادة الشعب. فهي تصور سلبي للسيادة يقوم على الحد من الاختصاصات الملكية إلى تصور إيجابي لها يرتكز على فكرة الحكم الذاتي وعلى الدفاع عن الحقوق الشخصية للفرد. ولكن هذا التحول، الذي عرفته نظرية سيادة الشعب مع لوك، لم يصل كذلك إلى الحد الذي يمكن من الحديث من المواطن الناخب بصفته يمتلك جزءاً من السيادة.

ولم تؤد نظرية سيادة الشعب في عصر الأنوار كذلك إلى الاعتراف بالاقتراع العام نتيجة للتأويل الضيق الذي أعطاه الفلاسفة لمفهوم الشعب بالرغم من أنهم يجعلون مصدر السلطة فيه. فالشعب لا يمثل في فكر مونتاسكيو وروسو وعند أصحاب الموسوعات سوى وحدة أو صيغة فارغة من كل محتوى اجتماعي. فهو ليس معطي واقعياً بل هو عندهم بناء نظري. وهكذا فإن المفهوم الفلسفي للشعب في القرن الثامن عشر كان بعيداً كل البعد عن كل اعتبار متصل بالعدد. “فليس أغرب على روسو ومونتاسكيو وعلى أصحاب الموسوعات من تقريب فكرتي الشعب والجماهير كما يشير إلى ذلك جورج بيردو، فالفكر السابق للثورة اهتم بتصور إرادة شعبية لا تعبر عن قانون الأغلبية لأن العدد لا علاقة له بالبناء الفقهي لمفهوم الشعب. فلان العدد لا يكون الشعب، يمكن أن تقوم سيادة الشعب على الاقتراع المقيد، ولأن قانون العدد يبدو غير قادر على إضفاء المشروعية على الطاعة، أدخله روسو، بعد تطويعهن في نظريته للإرادة العامة”.

وينطلق هذا التصور للشعب، عند فلاسفة القرن الثامن عشر، كما يؤكد ذلك جورج بيردو، من الرغبة الصادقة في التحرر من كل أنواع القيود التي لا تزال تكبل الشعب وفي تحقيق سعادته والارتقاء بمستواه الفكري والأخلاقي ولكن، وفي ذات الوقت، من احتراس لا يقل عمقاً من كفاءته السياسية. فكل شيء للشعب، ولكن القليل فقط بواسطته. ذلك هو الشعور العام، بالرغم من التلميح الذي يحيط به، عن الشعب صاحب السيادة. وقد تأكد هذا الشعور منذ بداية الثورة الفرنسية في أعمال السلطة التأسيسية، ولا أدل على ذلك من حق التصور الذي كان سائداً عند أعضاء هذه السلطة ومن مواقفهم إزاء حق الانتخاب.

فمسألة الاقتراع العام لم تطرح عندهم بصفة جدية على الإطلاق. ثم بدأ هذا التأويل لمفهوم الشعب في الانحسار شيئاً فشيئاً ليترك مكانه لتأويل جديد يمنح كل المواطنين الذين يعيشون في بلد معين وفي وقت محدد جزءاً من السيادة. وفي هذه الظروف يصير حق الانتخاب مرتبطاً بالضرورة بصفة المواطن.

ففكرة الاقتراع العام لم تكن موجودة في القرنين السادس عشر والسابع عشر بالرغم من الحديث عن سيادة الشعب. فكيف تم الانتقال من سيادة سلبية يمتلكها الشعب إلى مفهوم حديث للفرد المواطن الناخب؟ ليس من اليسير البحث في هذا التحول. فبانتقال السيادة من الملك إلى الشعب كهيئة جماعية لا كمجموعة أفراد، تم الدخول الجماعي في السيادة، وهو دخول تحقق بصفة منفصلة عن الرؤية الفردية للمواطن، ولكن مع التأكيد المتدرج على المبادئ الثلاثة للمساواة وللفردية وللطابع العام للحقوق السياسية. فكل فرد صار مالكاً لجزء من السلطة السيدة، وحق الانتخاب سيتحول في المستقبل أداة لتحديد وضع اجتماعي، وضع الفرد الحر والمستقل وفي نفس الوقت أحد أفراد الشعب صاحب السيادة. وإرادة الشعب ليست سوى مجموع هؤلاء الأفراد.

ومع التأكيد المتدرج على المكانة الأولى التي تحتلها الإرادة الشعبية، بدأ التأكيد على ضرورية تنظيم السلطة تنظيماً يسمح بالتعبير الفعلي عن هذه الإرادة. فالسلطة يجب أن تجد أساسها في الشعب لأنه هو مصدرها. والاقتراع العام، في هذه الصورة التي تمثل أساس الفكرة الديمقراطية، هو الوسيلة الضرورية التي تمكّن من التعبير عن طريق حق الانتخاب عن هذه الإرادة بطريقة طبيعية إما بصفة مباشرة أو بصفة غير مباشرة.

فالاقتراع العام المباشر هو الاقتراع الذي يقوم بواسطته الناخبون بانتخاب نوابهم بصفة مباشرة.

أما الاقتراع غير المباشر فهو الاقتراع الذي يقتصر فيه الناخبون على اختيار مندوبين عوضاً عنهم.

ويعتبر الانتخاب المباشر أقرب إلى الديمقراطية حيث تظهر فيه إرادة الشعب بصفة مباشرة في اختيار الحكام. وهو السائد اليوم إلا أن الاقتراع غير المباشر ما زال معمولاً له اليوم خاصة في بعض البرلمانات التي تتألف من مجلسين حيث أن أعضاء المجلس الثاني يجري اختيارهم من قبل ناخبين هم بدورهم منتخبون كما هو الحال للغرفة الثانية في فرنسا وموريتانيا والمغرب والجزائر ومدغشقر وإفريقيا الوسطى والتشاد وبركينا فاسو وتونس بالنسبة لثلثي أعضاء مجلس المستشارين.

ب- الاقتراع العام وسيلة ضرورية لضمان حق الانتخاب من خلال ارتباطه بمبدأ المساواة بين المواطنين:

لم يظهر الاقتراع العام إثر القطيعة مع مجتمع الهيئات السياسية أو بعد الانتقال من مجتمع لا متساو إلى مجموعة بشرية تتركب من مجموع أفراد أحرار ومتساوين. فظهور مجتمع أفراد يفرض وجود مبدأ التكافؤ بينهم، ولكنه لم يسمح في البداية لكل أعضاء المجموعة بممارسة حق الانتخاب، إذ لم يطالب أي مفكر من عصر الأنوار بحق الانتخاب للجميع. والفكرة الحديثة للاقتراع العام لا تجد مصدرها عند روسو بالرغم من أنه يرى في السلطة العمومية تعبيراً عن الإرادة العامة للهيئة الاجتماعية. ففي “اعتباراته حول حكومة بولونيا”، يدعو روسو إلى تحديد المبدأ الانتخابي على أساس الكفاءة.

وفي نفس هذا السياق، اعتبر كوندروسي، إثر الثورة، أن أحد الشروط الطبيعية لممارسة حق المواطنة يقتضي أن يكون صاحب الحق مالكاً.

أما سياس، فقد رأى أن المالكين هم وحدهم الذين لهم الحق في تمثيل السكان رعايا الكهنة، وقام في خريف سنة 1789، بغاية إقصاء بعض الأصناف من الأفراد عن حق الانتخاب، بالتمييز بين المواطن الإيجابي من جهة والمواطن السلبي من جهة أخرى، وهو نفس التمييز تقريباً عند لومارسيي دولاريفيار في سنة 1792 الذي دعى إلى التفريق بين العامة والمواطنين بالرغم من رفضه المواطن المالك. لكن هذا التيار القائم على فكرة حصر حق الانتخاب في بعض أصناف المواطنين دون البعض الآخر لم يعد يمثل، وهو الذي تزامن مع الدعوة إلى تكريس مبدأ المساواة، سوى أقلية في نهاية القرن الثامن عشر.

وقد حدث المنعرج السياسي والفكري مع ثورة 1789 وأدى إلى الانتقال من رؤية مؤسسة على فكرة المواطن المالك إلى الاعتراف بالمساواة بين جميع الأفراد. وزاد بروز المسألة العمالية في تدعيم هذه الحركة التي بدأت في الظهور في أواسط القرن الثامن عشر وأدت حركة المساواة هذه إلى رفض التمييز بين الأفراد على مستوى حق التصويت وإسناد صفة المواطن إلى كل الأفراد نتيجة للتحولات العميقة في الميدان الاجتماعي.

وهكذا تعميم الاقتراع كتواصل في ميدان السياسة لظهور مجتمع أفراد اعترف لهم بالمساواة وتجمع بينهم روابط العقد الاجتماعي، هذا الاتفاق المعبر عن إرادتهم. فالاعتراف بالمساواة التي هي نتيجة حتمية لحرية الإنسان أدى إلى الاعتراف بحق الانتخاب بنفس الشروط لكل المواطنين. “ولم تعد للاختلاف في المصالح بين الأفراد أي جدوى، فالأهم هو ما يشتركون فيه ويجمع بينهم فقط، أي الانتماء إلى هيئة سياسية. والوحدة التي هي الصفة الأساسية لهذه الهيئة تقتضي الاعتراف بالمساواة الكاملة، بل أكثر من ذلك، الاعتراف بالتماثل بين أعضائها” ولا يمكن بالتالي على هذا الأساس ضمان حق الانتخاب إلا من خلال تكريس الاقتراع العام وذلك لارتباطه العميق بمبدأ المساواة بين المواطنين.

ولضمان هذه المساواة يفترض حق الانتخاب وبالتالي الاقتراع العام توفر عدة قواعد أساسية كوجوب احترام مبدأ المساواة في الاقتراع وتقسيم الدوائر الانتخابية بطريقة لا تؤدي بصفة غير مباشرة إلى عدم المساواة مع ضرورة التقيد بمبدأ السرية في الانتخاب.

ويترب عن مبدأ المساواة في الاقتراع والذي يكون بمقتضاه لكل ناخب صوت واحد في الانتخاب منع أوالً منح الناخب أكثر من صوت واحد في نفس الدائرة الانتخابية متى توفرت فيه بعض الشروط (le vote plural) كحمله لشهادات علمية عليا (ففي بريطانيا العظمى ظل التصويت لهذا الصنف من الناخبين حتى سنة 1948 متعدداً حيث كان من حق هؤلاء أن يصوتوا مرة لانتخاب ممثلي دائرتهم الانتخابية ومرة لانتخاب ممثلي الجامعة في مجلس العموم) أو كإنجابه لعدد معين من الأطفال كما كان الشأن في بلجيكا حتى سنة 1893. ولتحقيق المساواة في الاقتراع يجب ثانياً منع منح الناخب حق التصويت في أكثر من دائرة انتخابية واحدة “le vote multiple” كما كان الشأن في المملكة المتحدة حيث ظل أصحاب المصانع التي تزيد قيمتها المالية عن حد أدنى تضبطه القوانين الانتخابية يتمتعون بحق التصويت مرتين في دائرتين انتخابيتين مختلفتين حتى سنة 1948. فحق التصويت لا يمكن من خلال هذا المنع أن يمارس إلا في دائرة انتخابية واحدة. وتقر اليوم القوانين الانتخابية هذه القاعدة إذ لا يمكن ضماناً لمبدأ المساواة في الاقتراع لأي مواطن أن يرسم بعدة قائمات انتخابية.

وهكذا، فالاقتراع يجب أن يكون عملاً بالقاعدة “لكل رجل صوت واحد” “One man, one vote” عاماً ومتساوياً. فلا يمكن أن يكون تأثير الناخبين وثقلهم مختلفاً ومتبايناً حسب مؤهلاتهم العلمية أو وضعهم الاجتماعي أو الدور الذي يضطلعون به في المجتمع.

وتجدر الملاحظة أن مبدأ المساواة في الاقتراع لا يمنع الدساتير والقوانين الانتخابية التي تعمل على ضمانه من وضع شروط لمباشرة حق الانتخاب من قبل المواطنين وتحديد الموانع المتعلقة بالتمتع بهذا الحق. فصفة المواطن يترتب عنها إسناد حق الانتخابات في ظروف مماثلة وبصفة متساوية لكل من لم يتم إقصاءه بسبب سنّه أو جنسيته أو عدم أهليته لممارسته. لذلك فمن الطبيعي أن لا يشارك في الانتخابات إلا الشخص الذي اكتسب سن الرشد السياسي، وهذا يعني أن الأطفال لا يشاركون في الانتخابات، وقد اختلف الحلول فيما يخص تحديد بداية سن الرشد السياسي بقدر اختلاف التشاريع الانتخابية. ففي تونس يتمتع حسب الدستور بحق الانتخاب جميع التونسيين والتونسيات البالغين من العمر عشرين عاماً. أما في مصر فقد انخفض سن الرشد السياسي عملاً بالقانون رقم 73 لسنة 1956 إلى ثماني عشرة سنة ميلادية وانخفض في فرنسا بقانون 5 يوليه 1974 من واحد وعشرين سنة إلى ثمانية عشر سنة. ومن الملاحظ أنه فيما يخص الرشد السياسي هناك الآن اتجاهاً نحو تخفيضها بما يسمح باشتراك أكبر عدد ممكن من الشبان في عمليات الانتخاب. فقد حددت أغلبية الدول الغربية كالولايات المتحدة الأمريكية وكندا وألمانيا وبريطانيا هذه السن بثمانية عشر سنة. وقد وصلت هذه السن في كوبا إلى ستة عشر سنة وفي إيران إلى خمسة عشر سنة.

لا تسمح معظم الدول للأجانب بالمشاركة في الانتخابات إلا أنه يوجد اليوم في العديد من الدول الأوروبية عدد كبير من الأقليات الأجنبية كالمغاربيين والأتراك التي تطالب بالمشاركة في الانتخابات على الأقل في النطاق البلدي. ونلاحظ في هذا الصدد أن بعض دول أوروبا الشمالية سمحت للأجانب المشاركة في الانتخابات البلدية وكان ذلك في السويد منذ سنة 1975 والنرويج منذ سنة 1978 والدنمارك منذ سنة 1981 وهولندا منذ سنة 1985.

كما سمحت كل دول أمريكا الجنوبية باستثناء الأكوادورEquateur وسيرينمSurinam للأجانب بالتصويت في الانتخابات. وسمحت كذلك في إفريقيا جنوب الصحراء كل من بتسوانا وبركينا فاسو والرأس الأخضر وغينيا وموريس وأوغندا وروندا وزامبيا للأجانب ممارسة هذا الحق بصيغ مختلفة. ويمكن للأجانب في زيلندا الجديدة كذلك المشاركة في التصويت في كل الانتخابات.

وتميز القوانين الانتخابية عادة بين المواطنين بالميلاد والمواطنين بالتجنس. ولا تسمح القوانين الانتخابية للمواطن بالتجنس بالمشاركة في الانتخابات إلا بعد انقضاء فترة معينة من الزمن على اكتسابه للجنسية. وقد أخذ القانون الانتخابي التونسي بهذا المبدأ إذ حرم على الأجنبي الذي اكتسب الجنسية التونسية التصويت إلا بعد مضي خمس سنوات على الأقل.

ونلاحظ في هذا الصدد أن في بعض الدول يتمتع الأجانب بحق التصويت والترشح للانتخابات المحلية. ففي إيرلندا يمكن منذ سنة 1963 للأجانب المقيمين فوق ترابها منذ ستة أشهر على الأقل ممارسة هذا الحق. وتمكن بعد أكثر من عشر سنوات من انطلاق التجربة الإيرلندية الأجانب غير الأوروبيين في كل من السويد وفنلندا والدنمارك وهولندا واستونيا وسلوفينيا ولوتيانيا والليكسمبورغ وبلجيكا من المشاركة في الانتخابات بعد فترة معينة من الزمن لإقامتهم تختلف من دولة إلى دولة أخرى. ويمكن في المملكة المتحدة للأجانب أصيلي دول الكمنولث المشاركة كذلك في الانتخابات المحلية. أما في كل من البرتغال وإسبانيا وتشيكيا ومالطة، فيجوز للأجانب المشاركة في الانتخابات شريطة احترام مبدأ المعاملة بالمثل أي بعبارة أخرى لمواطني الدول التي تسند بدورها هذا الحق للأجانب.

وتحدد الدساتير والقوانين الانتخابية بجانب وضعها بدقة للشروط المتعلقة بحق الانتخاب الموانع التي تحول بين المواطن وممارسة حقه في الانتخاب وذلك لأسباب تتصل بسلامتهم العقلية أو من أجل ارتكابهم جرائم أو أنهم لم يستردوا حقوقهم بعد الحكم بتفليسهم أو بحكم المهن التي يمارسونها. فبالنسبة للموانع التي تتعلق بالحالة العقلية للمواطن. فالقوانين الانتخابية تنص على أن تقف ممارسة الحق الانتخابي بالنسبة للمحجور عليهم مدة الحجر والمصابين بأمراض عقلية المحجورين مدة حجزهم.

وتعمل القوانين الانتخابية عادة على توفير الضمانات لثبوت كلتا الحالتين. ففي تونس مثلاً تشترط المجلة الانتخابية الإقامة بالمؤسسات الاستشفائية المختصة بالنسبة للمصابين بأمراض عقلية. أما بالنسبة إلى الحجر فيتم عن طريق القضاء الذي يتولى التثبت والتحري من خلال قيامه بالاختبارات اللازمة قبل إصداره الحكم الذي يترتب عنه وقف ممارسة الحق الانتخابي لا الحرمان منه.

أما بالنسبة للموانع التي تتعلق بالأهلية المدنية للمواطن فتحرمه من ممارسة حق الانتخاب. ففي تونس مثلاً تشكل الأحكام الجزائية الصادرة ضد الأشخاص من أجل جناية أو من أجل جنحة بأكثر من ثلاثة أشهر سجناً من دون تأجيل التنفيذ، أو بالسجن بما يزيد عن ستة أشهر مع إسعافهم بتأجيل التنفيذ وكذلك ضد الأشخاص المفلسين الذين لم يستردوا حقوقهم، أسباباً لفقدان الأهلية المدنية وبالتالي لا يجوز لهم ممارسة حق الانتخاب. وحرمان ممارسة حق الانتخاب لهؤلاء الأشخاص ليس نهائياً باتاً لأنه يمكن لهم أن يستردوا حقوقهم بمقتضى عفو تشريعي أو بالاستجابة إلى شروط وإجراءات ضبطها القانون.

وفي ما يخص الموانع المرتبطة بالانتماء إلى بعض الأسلاك المهنية، فهناك دول تمنع فيها القوانين الانتخابية العسكريين وأعوان الأمن الداخلي من ممارسة حق الانتخاب وذلك لتحيدهم والابتعاد بهم عن الصراعات السياسية. ومن ضمن هذه الدول نجد مصر وتونس أين يمنع الفصل الثالث من المجلة الانتخابية الترسيم بالقائمات الانتخابية وبالتالي ممارسة حق الانتخاب على العسكريين الممتهنين والعسكريين مدة قيامهم بواجبهم العسكري وأعوان الأمن الداخلي حسبما تم تعريفهم بالفصل الرابع من القانون عدد 70 لسنة 1982 المؤرخ في 6 أغسطس 1982 والمتعلق بضبط النظام الأساسي لأعوان الأمن الداخلي.و تجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن عدداً من الدول كفرنسا والجزائر تقر للعسكريين حق الانتخاب.

ونتبين مما سبق أن جل الدساتير سمحت بتمكين أكبر عدد ممكن من المواطنين بممارسة حق الانتخاب وذلك في نطاق احترام مبدأ المساواة سواء على مستوى الشروط التي يجب أن تتوفر في الناخب أو ظروف الاقتراع الذي يجب أن يمارس بصفة مماثلة بين كل الناخبين وأن يكون متسماً بالمساواة تبعاً لقاعدة “لكل رجل صوت واحد”.

ومن القواعد الأساسية التي يجب احترامها كذلك ضماناً لهذه المساواة في الاقتراع هو تقسيم الدوائر الانتخابية بطريقة لا تؤدي بصفة غير مباشرة إلى عدم المساواة. ويترتب عن ذلك أن يكون عدد الناخبين الذين يمثلهم نائب على مستوى كل دائرة انتخابية مساوياً لعدد الناخبين في الدوائر الأخرى لاختيار النائب عن الدائرة. وبعبارة أخرى وحتى لا يقع إهدار مساواة الثقل النسبي لكل صوت يجب أن تكون هناك علاقة تناسب بين النواب وعدد السكان في كل الدوائر.

فالدولة التونسية على سبيل المثال تأخذ على مستوى انتخابات مجلس النواب بنظام الانتخاب بالقائمة، وذلك في نطاق دوائر انتخابية متفاوتة من حيث عدد سكانها وممثلة بعدد من النواب يختلف باختلاف عدد السكان فيها. ولا شك أنه لضمان مبدأ المساواة يتعين كذلك معاملة المترشحين للانتخابات على قدم المساواة وخاصة على مستوى الحملة الانتخابية وتمويلها.

ونشير أنه لضمان المساواة بين الناخبين على مستوى عملية التصويت أقرت الدساتير والقوانين الانتخابية مبدأ سرية الاقتراع الذي انتشر بصفة خاصة خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر وذلك بفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية. وتعمل تونس كالعديد من دول العالم بمقتضى الدستور بالاقتراع السري وكنتيجة لذلك أقر الفصل 48 من المجلة الانتخابية المنقح في 4 أغسطس 2003وجوب دخول الناخب إلى الخلوة أثناء إدلائه بصوته في الانتخابات.

وكان عدد من المفكرين وخاصة منتسكيو وستيوارت ميلStuart Mill قد اعتبر أن الاقتراع يجب أن يكون علنياً حتى يتحمل الناخب مسؤولياته بكل شجاعة وشعور بالمسئولية. فمنتسكيو اعتقد أن علنية الانتخاب هي من قوانين الديمقراطية. أما بالنسبة لستيوارت ميل فعلنية الانتخاب تعلم الناخبين مسؤولياتهم وتعبر عن شجاعتهم المدنية.

وتحد في الحقيقة عملية التصويت العلني من استقلالية الناخب وحريته وجعله عرضة للضغوطات المختلفة. وقد أدت علنية الاقتراع إلى ارتفاع نسبة التغيب في الانتخابات. وتفسر هذه المساوئ العديدة للاقتراع العلني والمخلة بمبدأ المساواة باعتبار أنها لا تمكن الناخبين من الإدلاء بأصواتهم في ظروف مماثلة انتشار وتعميم الاقتراع السري.

* * *

من المفارقات أن الأساسين اللذين يقوم عليهما الاقتراع العام الذي يعتبر الشرط الضروري لضمان حق الانتخاب وهما سيادة الشعب والمساواة بين الأفراد تم تصورها في القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر بشكل يقصي الشعب عن ممارسة السلطة ويبرر التمييز بين الأفراد في ممارسة حق الانتخاب بطريقة متناقضة مع المبادئ التي قام عليها. مما أدى إلى إفراغ هذا الحق من محتواه.

لكن التأكيد المتدرج على مبادئ المساواة والفردية وعمومية الحقوق السياسية مكن من الوصول شيئاً فشيئاً، بداية من أواسط القرن التاسع عشر إلى تشريك الشعب في السلطة وإلى ظهوره، من خلال تكريس الاقتراع العام على مستوى الدساتير، كمصدر حقيقي لها وكضمان لممارسة حق الانتخاب.

والنتيجة التي يجب أن تكرس بناء على المكانة الأولى التي تحتلها إرادة الشعب من خلال الاقتراع العام هو احترام الإرادة العامة. غير أن هذا الصنف من الاقتراع لا يمكن أن يكون تعبيراً وفياً لها إلا عند تجنب كل الانحرافات في تطبيقه، وهو أمر صعب التحقيق ولا وجود في كل الأحوال لحل خال من العيوب. ومن أجل هذه الأسباب كرست الدساتير لضمان حق الانتخاب مبدأ الرقابة على مختلف أطوار العملية الانتخابية.

ثانياً- ضمان حق الانتخاب من خلال التكريس الدستوري للرقابة على العملية الانتخابية:-

لقد شكلت الفكرة التي تقوم على ضرورة إخضاع العملية الانتخابية للرقابة، والتي تبدو اليوم كما هو الشأن بالنسبة للاقتراع العام كإحدى البديهيات محوراً لنقاش حاد حول طبيعتها وأسسها القانونية وذلك نظراً لكونها إحدى المقومات الأساسية للتطبيق الفعلي للمبدأ الديمقراطي. فمنذ أن أعلنMirabeau وهو أحد رجال الثورة الفرنسية أثناء وضع دستور سنة 1791 “أن النزعات الانتخابية من أكبر المسائل السياسية التي طرحت علينا”. بدأت الرقابة على الانتخابات تتكرس بصفة تدريجية ومنتظمة. فقد تم إقرارها في القرن الثامن عشر خاصة من خلال دستور الولايات المتحدة الأمريكية لسنة 1787 وفرنسا لسنة 1791 وانطلاقاً من الثلاثينات من القرن الماضي في بعض الدول الأوروبية كبلجيكا وألمانيا. ومع مزيد بروز وذيوع فكرة أن الحكومات الديمقراطية وذات المشروعية هي تلك التي تكون مستمدة سلطانها من رضى المحكومين ونابعة عن انتخابات حرة ونزيهة وشفافة، انتشرت فكرة ضرورة إخضاع العملية الانتخابية للمراقبة وذلك ضماناً لحق الانتخاب. فالدساتير اليوم هي التي تتضمن العديد من هذه الضمانات وذلك من خلال الأحكام المتعلقة بالأسس الأولى للمنازعات الانتخابية وتتمم وتكمل القوانين الانتخابية هذه الأحكام الواردة بالوثيقة الدستورية.

وتطرح المنازعات الانتخابية التي تنشأ بمناسبة إجراء الانتخابات عدة إشكاليات تتعلق بالطريقة التي يتم بمقتضاها النظر والبت فيها، فالتساؤلات المطروحة في هذا الصدد ترتبط بمعرفة طبيعة الجهاز الذي تسند له هذه المهمة (مؤسسة قضائية أو مؤسسة سياسية) وما هي الإجراءات الواجب اتباعها أمامه، وما هي الضمانات التي توفرها لحماية حق الانتخاب.

فالعملية الانتخابية يمكن أن تكون على مستوى كل مراحلها مصدراً لمنازعات مختلفة ومتعددة. فالتساؤلات يمكن أن تطرح على مستوى التسجيل بالقائمات الانتخابية وذلك لمعرفة هل أن الإجراءات اللازمة لحصر الأشخاص الذين تتوفر فيهم شروط ممارسة الحق الانتخابي تمت بطريقة منظمة ودقيقة وذلك لضمان المساواة بين المترشحين وعدم خروج الإدارة عن حيادها وعدم انحيازها. وتطرح الانتخابات كذلك العديد من التساؤلات الأخرى على مستوى عملية الانتخاب في حد ذاتها التي تدور يوم تنظيم الاقتراع وفرز الأصوات والإعلان عن النتائج وذلك للتثبت من قبل أجهزة الرقابة من أن هذه العمليات تمت طبقاً لمقتضيات الدستوري والقوانين الانتخابية أم لا؟.

وتعتبر هذه الرقابة إحدى الركائز الأساسية المجسمة للمبدأ الديمقراطي. فلا يمكن اليوم الحديث عن انتخابات نزيهة في غياب هذه الرقابة التي تضمن سلامة ممارسة حق الانتخاب والتي تضفي من خلال تدخلها لفض بعض المنازعات الانتخابية والإعلان عن صحة الانتخابات، المشروعية الضرورية على الحكام إثر انتخابهم من قبل الشعب عن طريق الاقتراع العام على مستوى التسجيل بالقائمات الانتخابية (أ) وعلى مستوى التشريح للانتخابات (ب) وعلى مستوى الإعلان عن النتائج الانتخابية (ج).

أ- الضمانات على مستوى رقابة عملية الترسيم في القائمات الانتخابية:

الترسيم في القائمات الانتخابية هو أولى العمليات التي تنبني عليها الانتخابات وتقوم الدولة بالإجراءات اللازمة لحصر الأشخاص الذين تتوفر فيهم شروط ممارسة حقهم الانتخابي وذلك بوضع قائمات بأسماء الذين يحق لهم الانتخاب وتحين القائمات بشكل دوري لإضافة الأسماء الذين أصبح لها حق المشاركة (بلوغ سن الرشد السياسي….) أو لشطب الأسماء التي أصبحت لا تتمتع بحق التصويت إما بسبب موتها أو عن طريق حكم المحاكم (الحكم بحرمان شخص من حق الاقتراع كعقوبة تكميلية، الحكم على شخص من أجل جناية أو من أجل جنحة خلال فترة معينة الحكم بالتفليس إلخ…).

ويجب أن يتم تحرير القائمات الانتخابية بطريقة منظمة ودقيقة لضمان المساواة والديمقراطية. فالنزاهة والحياد في إجراءات إعداد القائمات الانتخابية شرطان أساسيان لضمان مصداقية ممارسة حق الانتخاب. وهذه الإجراءات تكون عادة معقدة، وتتبع الدول طريقتين لإعداد القائمات الانتخابية فتتمثل الأولى في التسجيل الأوتوماتيكي للناخبين في القائمات الانتخابية. وتقوم الإدارة في هذا الإطار تلقائياً بإضافة أو حذف أسماء الناخبين بناء على ما توفر لها من معطيات ومعلومات تهم من بلغ سن الرشد السياسي أو من ماتوا ومن شملتهم أية صورة من صور الحرمان التي نص عليها القانون الانتخابي.

أما الطريقة الثانية فيتم من خلالها التسجيل بمبادرة من الناخبين أنفسهم الذين يتعين عليهم الاتجاه إلى مكاتب تسجيل الناخبين وتقديم طلب بتسجيلهم في الجداول الانتخابية أو بحذف تسجيلهم في دائرة معينة. ومن الطبيعي أن نجد تكريساً للطريقة الأولى للترسيم في القائمات الانتخابية في الدول التي أخذت بمبدأ سيادة الأمة والتي تنص دساتيرها في أغلب الأحيان على أن الاقتراع وظيفةElectorat — # وصلة ممنوعة 1778 # –من واجب المواطن القيام بها وتقر قوانينها الانتخابية التصويت الإجباري وتسليط عقوبات في شكل غرامات ضد كل من لم يشارك في الانتخابات. أما الطريقة الثانية فترتبط نظرياً بالأنظمة التي أقرت مبدأ سيادة الشعب حيث يكون الاقتراع حقاًElectorat droit إذ يستطيع كل فرد بحكم ملكيته لجزء من السيادة ممارسة حق الانتخاب بصفة اختيارية.

وتجدر الملاحظة أن هذا التمييز بين سيادة الشعب وسيادة الأمة ليس له اليوم أي انعكاس على طريقة التسجيل في القائمات الانتخابية وحق الانتخاب أصبح حقاً في كل الأنظمة السياسية إذ لا يمكن تقييده بشروط مالية أو أخرى، ويكون بالتالي قد فقد صبغته الوظيفية. فالاقتراع بقطع النظر عن طبيعة صاحب السيادة في الدولة أصبح نتيجة للتطور التاريخي للأنظمة السياسية وبفضل تقدم الوعي السياسي للمواطن وظهور الأحزاب السياسية عاماً وشاملاً. وأدت كل هذه التطورات إلى جعل المشرع حراً في اختيار أحد الطريقتين للتسجيل بالقائمات الانتخابية.

ونجد اليوم الطريقة الأولى للتسجيل بالقائمات الانتخابية في دول كالنمسا وإيطاليا أين يتم تسجيل الناخب بصفة أوتوماتيكية من قبل السلطات البلدية في بلجيكا والمملكة المتحدة وألمانيا الاتحادية والبرتغال ولبنان.

أما الطريقة الثانية وهي المعمول بها بفرنسا فتقوم لجنة إدارية متركبة من رئيس المجلس البلدي أو من ينوبه وعضوين، الأول يمثل الإدارة ويتم تعيينه من قبل المحافظ والثاني يتم تعيينه من قبل رئيس المحكمة الابتدائية بإعداد الجدول الانتخابي وذلك بطلب من المواطنين الذين يبادرون بتسجيل أسمائهم بالقائمات الانتخابية. ويعمل بها كذلك في دول أخرى كأسبانيا واليونان وإيرلندا والكامرون والبنين ومالي والمغرب.

ومن الدول التي أخذت بطريقة إبداء الناخب رغبته بصفة فردية وشخصية في المشاركة في الانتخابات من خلال الاتجاه إلى مكاتب تسجيل الناخبين في القائمات الانتخابية بتونس. حيث تم منذ التنقيح الذي أدخل على المجلة الانتخابية بالقانون الأساسي الصادر في 25 نوفمبر 2002 إقرار نظام المراجعة الدائمة للقائمات الانتخابية وذلك تعويضاً لنظام المرجعة السنوية التي كان معمولاً به في ما قبل. وقد سمح هذا القانون لرؤساء البلديات في المناطق البلدية والعمد في المناطق غير البلدية بقبول مطالب التسجيل والشطب من قبل المواطنين بصفة دائمة وتحيين القائمات الانتخابية وفقاً لهذه المطالب. والحالة الوحيدة التي يعلق فيها طلب الترسيم هو صدور الأمر المتعلق بدعوة الناخبين فيتوقف الترسيم إلى حين إجراء الانتخابات.

ويعتبر الترسيم في القائمات الانتخابية أحد الشروط الأساسية لمباشرة حق الانتخاب لأنه لا يمكن لغير المرسمين بالقائمات الانتخابية التصويت يوم الانتخاب. ولهذه الأسباب تكتسي عملية التسجيل في القائمات الانتخابية أهمية كبرى لذا تعمل الدساتير والقوانين الانتخابية المتممة لها بإحاطتها بالضمانات الضرورية لحمايتها من كل ما من شأنه إبعاد المواطنين من القائمات الانتخابية بصفة غير قانونية وبالتالي إفساد القوائم الانتخابية وعملية الاقتراع.

وتتضمن القوانين الانتخابية أنظمة مفصلة ومعقدة لضمان حق الترسيم في القوائم الانتخابية الذي بدونه لا يمكن ممارسة حق الاقتراع المضمون دستورياً اليوم. وترمي هذه الأنظمة إلى منع التجاوزات أو الأخطاء التي يمكن أن تحدث أثناء مراجعة القائمات الانتخابية. ويمكن لكل مواطن تتوفر فيه شروط الناخب من ممارسة حقه الانتخابي، لذلك أوجبت القوانين الانتخابية عرض القائمات الانتخابية على المواطنين عن طريق التعليق بغية إتاحة الفرصة لهم إبداء ملاحظاتهم فيما يخص الترسيم والتشطيب. وتتم هذه العملية عادة خلال مدة التعليق عن طريق عرض هذه المسألة أمام لجنة مراجعة في مستوى كل دائرة انتخابية.

ففي تونس يمكن لكل مواطن لم يرسم بالقائمة الانتخابية أو شطب اسمه أن يتقدم بشكاية ترسل بمكتوب مضمون الوصول مع الإعلام بالبلوغ إلى رئيس البلدية أو العمدة حسب الحالة وذلك خلال مدة التعليق القانونية. ويتم النظر في هذه الشكاية من قبل لجنة مراجعة تتكون من قاضي يعينه وزير العدل بصفته رئيس، وممثل عن الوالي بصفته عضو، وثلاثة ناخبين يعينهم وزير الداخلية بصفتهم أعضاء. وتبت هذه اللجنة في ظرف الثمانية أيام الموالية لانتهاء الأجل الذي يمكن أن تقدم فيه الشكايات وتأذن وجوباً حسب الحالة بترسيم الناخبين الذين وقع السهو عنهم أو بشطب أسماء الناخبين المرسمين بصفة غير قانونية. وفي هذه الحالة فإن رئيس اللجنة يعلمه حالاً بالأمر وعلى اللجنة أن تمكنه إذا أراد ذلك من الإدلاء أمامها بما من شأنه أن يبرر ترسيمه بواسطة مكتوب موجه إليها أو من خلال طلب الاستماع إليه. وتمارس هذه اللجنة في هذا المجال اختصاصاً شبه قضائي. فهي تعمل حسب إجراءات محددة وآجال مضبوطة وتوفر للناخب أثناء التقديم بشكواه عدة ضمانات كاحترام حقوقه في الدفاع عن نفسه. أما قراراتها فوجوبية وتتمتع بقوة الشيء المقضي وتنحصر في نطاق الشكاية الموجه إليها ولا تهم كل القائمات الانتخابية.

ونجد هذا النظام الذي يسند إلى لجنة مراجعة مهمة الفصل في المنازعات المتعلقة بطلب ترسيم اسم أو الشطب عليه بالقائمة الانتخابية المعمول به في تونس في العديد من الدول نخص بالذكر منهم الأردن ومصر والمغرب والجزائر ومالي والكامرون.

ويمكن للناخب الذي لم تتم الاستجابة إلى طلب ترسميه بعد إبلاغه بقرار لجنة المراجعة أو من تقرر حذف اسمه أن يطعن في قرار هذه اللجنة أمام القضاء.

وأسند القانون الانتخابي التونسي هذا الاختصاص كما هو الشأن في فرنسا إلى القضاء العادي الذي ينظر عادة في المسائل المتصلة بحالة الأشخاص وجنسيتهم، وأهليتهم القانونية. فالمحكمة الابتدائية في تونس هي المختصة بالنظر استئنافياً في الطعون الموجهة ضد مقررات لجان المراجعة. وتبت المحكمة الابتدائية في القضية المرفوعة أمامها ضد مقرر لجنة المراجعة في ظرف خمسة أيام من تاريخ تعهدها. وتتولى المحكمة إعلام رئيس البلدية أو العمدة بالأمر على الفور بحكمها. وتخضع أحكام المحكمة الابتدائية للطعن بالتعقيب أمام المحكمة الإدارية التي تبت في الطعن المقدم إليها في أجل ثلاثين يوماً ابتداء من تاريخ تقديم مذكرات التعقيب. ولم تسند فرنسا هذا الاختصاص بالتعقيب إلى القضاء الإداري كما هو الشأن في تونس بل إلى محكمة التعقيب. فالمحاكم الإدارية في فرنسا لا تتعهد بالقضايا التي يثيرها الناخبون والمتصلة بالتسجيل في القائمات الانتخابية والمتعلقة بوضعياتهم الفردية بل تختص بالنظر في دعاوى تجاوز السلطة.

ونتبين مما سبق أن القوانين الانتخابية تعمل على ضمان حق الاقتراع الذي كرسته الدساتير المعاصرة وذلك من خلال إحاطة إعداد القوائم الانتخابية بعدة ضمانات. وتبرز هذه الضمانات من خلال المراجعة السنوية أو الدائمة للقائمات الانتخابية وعرضها على المواطنين وإتاحة الفرصة لكل مواطن أهمل تسجيل اسمه دون سبب أو زالت عنه موانع التسجيل أن يطلب تسجيل اسمه أو تصحيح البيانات الخاصة به أو أن يطلب تسجيل اسم من أهمل تسجيله بغير حق أو حذف اسم من رُسّم بالقائمة من غير حق وذلك لتفادي المساس بمبدأ المساواة في الاقتراع الذي أقرته الدساتير. كما تبرز هذه الضمانات كذلك في الإمكانية التي تتيحها القوانين الانتخابية للمواطنين للطعن في قرارات السلط الإدارية ولجان المرجعة أمام الهيئات القضائية المختصة وذلك تجنباً لإبعاد المواطن عن القوائم الانتخابية بحسن نية أو بوسائل منحرفة وبالتالي عدم تمكينه من ممارسة حقه الانتخابي الذي ضمنه له الدستور.

ب- الضمانات على مستوى رقابة عملية الترشح للانتخابات

تعتبر حرية الترشح للانتخابات إحدى الركائز الهامة والضمانات الأساسية لحق الانتخاب. فهذه الحرية التي تكرسها الدساتير يتم تنظيمها غالباً من خلال القوانين الانتخابية التي تضع الشروط والإجراءات التي يمارس على أساسها حق الترشح وذلك في نطاق احترام النص الدستوري وروحه والقيم الأساسية التي يتضمنها. وتسهر هيئات رقابة الدستورية اليوم على أن تتم هذه الإحالة إلى القوانين الانتخابية في كنف احترام مبدأ الدستورية. فالترشح للانتخابات هو حق ضمنه الدستور لكل مواطن وأسند تنظيم ممارسته من قبل المواطنين بصفة مماثلة إلى القوانين الأساسية التي تتمم وتكمل القواعد الدستورية المتعلقة بالترشح للانتخابات وإجراءات الطعون المتعلقة بهذه الترشحات.

1- وتتضمن القواعد المتعلقة بالترشح للانتخابات الشروط الواجب توافرها في المترشح والجهة التي تقبل الترشحات.

ففيما يخص الترشح للمناصب السياسية تعمل الدساتير على إحاطة الترشح لها بجملة من الضمانات. وتتعلق هذه الضمانات خاصة بسن المترشح وجنسيته. وتمتعه بالحقوق المدنية والسياسية. وفي بعض الأحيان بضرورة تقديم ترشحه من قبل عدد من الناخبين أو من المنتخبين وذلك ضماناً لمصداقية المترشح وتجنباً للترشحات الهامشية. ونجد هذا النظام المتعلق بتزكية المترشحين في عدد من الدول كتونس وفرنسا. ففي تونس اشترط الدستور إثر تنقيحه في 8 أبريل 1976 في الفقرة الثالثة من الفصل 40 أن يقع تقديم المترشح من طرف عدد من المنتخبين حسب الطريقة والشروط التي تحددها المجلة الانتخابية. وجاء الفصل 66 من هذه المجلة موضحاً لهذه المسألة فاقتضى أن الترشح “لا يقبل إذا وقع تقديمه بصفة فردية أو جماعية من طرف ثلاثين مواطناً على الأقل يكونون من بين أعضاء مجلس النواب أو من رؤساء المجالس البلدية”. أما في فرنسا فقد نص القانون الصادر في 13 يناير 1988 على تقديم المترشحين من قبل 500 منتخب يمثلون على الأقل 30 محافظة أو أقاليم ما وراء البحار إلا أنه لا يجوز لأي محافظة أن يتجاوز عدد المشتركين فيها العشر.

وتتولى اللجان المكلفة بالنظر في طلبات الترشح البت في صفة المترشح من خلال فحصها للمستندات التي يقدمها المترشحون والتي يجب أن تثبت استجابتهم للشروط المنصوص عليها بالدستور وبالقوانين الانتخابية. وتختلف الجهات المكلفة بفحص طلبات الترشح من دولة إلى دولة أخرى وحسب أنواع الاقتراع (الاستفتاء، الانتخابات الرئاسية، الانتخابات التشريعية، الانتخابات البلدية) ويمكن أن نميز بين ثلاث أنواع من السلطات المكلفة بقبول مطالب الترشح للانتخابات تختلف فيما بينها من حيث تركيبتها وطبيعتها القانونية.

ويتمثل النوع الأول في إسناد هذه المهمة إلى السلطة الإدارية ممثلة في وزير الداخلية أو الوالي. ويعمل بهذه الطريقة في العديد من الدول كالمغرب ومالي وبركينا فاسو وجمهورية إفريقيا الوسطى. ويقدم الترشح لعضوية مجلس النواب ومجلس المستشارين في تونس، كذلك إلى السلطة الإدارية إذ نص الفصل 92 من المجلة الانتخابية على أن يقدم الترشح إلى عضوية مجلس النواب إلى الوالي أو من ينوب عنه وكذلك الشأن بالنسبة للأعضاء المترشحين عن الولاية بالنسبة لمجلس المستشارين. أما فيما يخص المترشحين عن المنظمات المهنية لعضوية هذا المجلس فيتعين عليهم عملاً بالفصل 129 من المجلة الانتخابية تقديم الترشحات عن القطاعات المهنية إلى وزير الداخلية أو من ينوب عنه. وتتولى تقديم تصريح الترشح المنظمة المعنية التي ينتمي إليها المترشحون.

ويتم في فرنسا قبول مطالب الترشح للانتخابات التشريعية، كما هو الشأن بالنسبة لتونس، من قبل السلطات الإدارية ممثلة في المحافظ (Le prefet) إلا أن النظام الفرنسي يختلف عن الأنظمة المماثلة للنظام الانتخابي التونسي في ما يخص المطالب التي لا تتوفر فيها الشروط المتعلقة بالترشح. ففي هذه الحالة يقوم المحافظ عملاً بالفصل 159 من المجلة الانتخابية دون غيره. وفي ظرف أربعة وعشرين ساعة برفع دعوى أمام المحكمة الإدارية المختصة التي تنظر في المسألة في ظرف ثلاثة أيام وتأمر حسب الحالة إما بالرفض أو الإذن بتسجيل المترشح.

أما النوع الثاني فيتمثل في إسناد مهمة قبول الترشحات إلى لجنة انتخابية وتختلف تركيبة هذه اللجنة من دولة إلى أخرى.

ويتمثل النوع الثالث في مهمة النظر في الترشحات إلى هيئة قضائية مختصة في مجال الانتخابات. ويعمل بهذه الطريقة في تونس منذ التنقيح الذي أدخل على الدستور في 1 يونيو 2002 حيث أسند إلى المجلس الدستوري الذي أحدث في 17 نوفمبر 1987 كما هو معمول في عديد الدول التي أحدثت مجالس دستورية اختصاص قبول الترشحات لرئاسة الجمهورية إذ نصت الفقرة الرابعة من الفصل 40 من الدستور على ما يلي: “يسجل الترشح بدفتر خاص لدى المجلس الدستوري”.

وتتولى الجهات التي تقبل الترشحات النظر في مطالب الترشح خلال فترة زمنية وجيزة تحددها القوانين الانتخابية بدقة وذلك من خلال تثبتها من استيفاء المترشح للشروط المطلوبة وللبت في صحة الترشحات. ويجب على هذه الجهات عملاً بالقوانين الانتخابية تعليل قراراتها الرافضة لقبول الترشحات وإعلان المعنيين بذلك حتى يتسنى الطعن في الآجال القانونية في هذه القرارات.

2- وتختلف القوانين المقارنة في ما يخص كيفية تنظيم مسألة المنازعات الانتخابية المتعلقة بالنظر في صحة الترشحات ويبرز هذا الاختلاف بصفة خاصة بين الانتخابات الرئاسية والتشريعية.

ففي الحالات المتعلقة بانتخابات رئاسة الجمهورية والتي يتم فيها قبول مطالب الترشح وتسجيلها من قبل هيئات قضائية كالمجالس الدستورية فإن الطعون ترفع أمام نفس هذه الهيئات التي تكون قراراتها نهائية وملزمة لجميع السلط. وقد أخذت تونس شأنها شأ، العديد من الدول كفرنسا والطوغو والسنغال والغابون بهذا الأسلوب في مجال الطعون المتعلقة بالترشح لرئاسة الجمهورية إذ أسند الفصل 40 من الدستور بعد التنقيح الذي أدخل عليه في 1 يونيو 2002 إلى المجلس الدستوري النظر في الطعون المتعلقة بصحة الترشح للانتخابات الرئاسية وأحال إلى المجلة الانتخابية ضبط الإجراءات المتعلقة بهذه المسألة.

أما في الحالات المتعلقة بالتسجيل في الانتخابات التشريعية فالطعون لا تتم بالضرورة أمام نفس الهيئات التي تنظر في صحة الترشحات. فبعد أن تقوم السلطة الإدارية بالنظر في المطالب يتم الطعن في قراراتها حسب الحالة إما أمام القاضي الإداري كما هو الشأن في ماليو جمهورية إفريقيا الوسطى أو أمام القاضي العدلي كما هو الحال في المغرب وموريتانيا أو أمام المجلس الدستوري كما هو الشأن في تونس منذ التنقيح الذي أدخل على الفصل 72 من الدستور والذي ينص على أن “المجلس الدستوري يبت في الطعون المتعلقة بانتخاب أعضاء مجلس النواب وأعضاء مجلس المستشارين”.

وينظر المجلس الدستوري في الطعون المعروضة عليه، وتكون قراراته بإلغاء الطعن أو رفضه، في كل الحالات باتة ولا تقبل أي وجه من وجوه الطعن.

ويمكن في بعض الدول فتح المجال أمام الناخبين لرفع دعاوى ضد الأحكام التي تصدرها الهيئات القضائية الإدارية أو العدلية أمام المجالس الدستورية من ذلك مثلاً أن القانون الأساسي المتعلق بمجلس النواب في المغرب السابق الذكر نص في الفقرة الأخيرة من المادة 81 على أنه “لا يمكن الطعن في حكم المحكمة الابتدائية المختصة بالنظر في المنازعات المتعلقة بإيداع الترشحات إلا أمام المجلس الدستوري المحال إليه أمر الانتخاب والذي ينظر في هذا كما هو الشأن بالنسبة للمجلس الدستوري الفرنسي كهيئة استئنافية للأحكام التي تقررها المحاكم الإدارية المختصة ولا يبت فيه إلا بعد انتهاء كل العملية الانتخابية عن النتائج.

وتبرز مما سبق الضمانات المرتبطة بحق الترشح الذي يتمتع به كل شخص في الدولة بحكم مواطنته والذي يجب أن يكون كما جاء في النصوص الدستورية حراً ويمارس في نطاق احترام مبدأ المساواة وبصفة مماثلة بين كل المواطنين الذين تتوفر فيهم الشروط المتعلقة بالترشح ولم تشملهم أي صورة من صور الحرمان المنصوص عليها في النصوص الدستورية والقانونية.

ومما يدعم هذه الضمانات المرتبطة بحق الترشح الإمكانية التي تتيحها هذه النصوص في الطعن في القرارات التي تصدرها الجهات التي تقبل الترشحات وتنظر في صحتها.

ج- الضمانات على مستوى رقابة عملية الإعلان عن النتائج الانتخابية

يشكل الإعلان عن نتائج الانتخابات المرحلة النهائية للعملية الانتخابية ويجب التمييز على هذا المستوى بين التصريح بالنتائج الذي تقوم به السلطة الإدارية ممثلة في وزير الداخلية أو رئيس اللجنة الانتخابية المستقلة بمناسبة إجراء الانتخابات والإعلان النهائي للنتائج الذي يمكن أن يتم عن طريق هياكل أخرى القابلة للطعن فيها. ويعتبر هذا الحق في الطعن إحدى الضمانات الأساسية لحق الانتخاب. فالانتخابات السليمة والنزيهة هي تلك التي تكون خاضعة للرقابة من قبل هياكل تسهر على التثبت من صحتها وتمنع التعدي على إرادة الناخبين التي تمثل أساس الفكرة الديمقراطية والتي تم التعبير عنها عبر ممارستهم حقهم الدستور في الانتخاب. وتعهد الدساتير والقوانين الانتخابية إلى أجهزة مختلفة من حيث طبيعة تركيبتها وأساليب عملها مهمة مراقبة نتائج الانتخابات، ويمكن أن نميز بالرغم عن تعدد الأجهزة المكلفة بالرقابة بين نوعين أساسيين: أجهزة رقابة يكون أعضاؤها منتخبين من قبل الشعب، وأجهزة رقابة قضائية.

ففي ما يخص النوع الأول والذي يهم بالأساس الانتخابات التشريعية تقوم المجالس النيابية المنتخبة في أول جلساتها بالنظر في صحة انتخابات أعضاؤها. وقد برز هذا النوع من الرقابة الذي تمارسه المجالس النيابية لأول مرة في بريطانيا العظمى سنة 1695 وتواصل العمل به في هذا البلد حتى منتصف القرن التاسع عشر. وعرفته كذلك فرنسا قبل ثورة سنة 1789 وعملت به بدون انقطاع حتى سنة 1958. ونجد اليوم هذا الأسلوب للرقابة على صحة الانتخابات خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية بالنسبة لانتخاب أعضاء كل من مجلس الشيوخ ومجلس النواب وفي الدنمارك، وإيطاليا والليكسمبورغ وهولندا والسويد وبلجيكا والكويت قبل التعديل الذي أدخل على القانون الانتخابي في 29 يونيو 1998 وتونس قبل تنقيح المجلة الانتخابية في 29 ديسمبر 1989.

ونتبين مما سبق أن عدة دول بعد إقرارها هذا النوع من الرقابة قد تراجعت عنه كبريطانيا العظمى وفرنسا وتونس والكويت ومصر أين فوض البرلمان العديد من صلاحياته في هذا المجال إلى القضاء ويفسر هذا التراجع بالانتقادات التي تم توجيهها إلى هذا الأسلوب من الرقابة سواء من قبل العديد من الفقهاء أو من طرف رجال السياسة بالرغم من اعتبار البعض أن اختصاص البرلمان بالنظر في صحة انتخاب أعضائه هي الطريقة التي تتلاءم مع مبدأ الفصل بين السلط من خلال ضمانه لاستقلالية السلطة التشريعية وعدم إجازته تدخل السلطات الأخرى في مسألة داخلية تهم تنظيم وسير عمل المجالس النيابية وبعبارة أخرى يمكن هذا النوع من الرقابة من تفادي خضوع البرلمان للقضاء الأمر الذي يتعارض مع مبدأ استقلال السلط. وذهب أغلبية الفقهاء إلى انتقاد هذه الطريقة التي تسند اختصاص الفصل في صحة العقوبة إلى المجلس النيابي ذاته وبالتالي استقلال البرلمان بشؤونه الداخلية من ذلك الأستاذة هوريو وجاز وبرليو وبرتلمي وباستيد وويني (P.Wigny) الذين يعتبرون أن هذه الرقابة يجب أن تسند إلى جهاز قضائي. هذا بالإضافة إلى أن تجربة إسناد المجالس النيابية صلاحية رقابة نتائج الانتخابات التشريعية والتي انتشرت في أوروبا في فترة عرفت فيها فكرة سيادة البرلمان رواجاً كبيراً، أثبتت أن هذه الرقابة لم تمارس دائماً في كنف احترام القانون. فالمجالس النيابية لم تكن في أغلب الأحيان تتمتع بالحياد والاستقلالية في مواجهة مختلف الضغوطات المسلطة على النواب من قبل الأحزاب والقوى السياسية في الدولة وكثيراً ما طغى على تصرفات النواب الاعتبارات السياسية الضيقة على الجانب القانوني الذي يكتسي أهمية كبرى في هذا المجال نظراً للأبعاد القانونية التي تكتسيها كل عملية انتخابية وذلك بالرغم بدون شك عن طابعها وأبعادها السياسية.

وشكلت التجاوزات التي عرفتها هذه التجربة في مجال مراقبة نتائج الانتخابات إحدى الأسباب التي أدت إلى تعويضها بنظام الرقابة عن طريق جهاز قضائي.

ولا تجد الرقابة لنتائج الانتخابات عن طريق جهاز قضائي سندها فقط في النقائص التي عرفتها الرقابة السياسية ولكن كذلك في ارتكازها على تأويل لنظرية الفصل بين السلط يختلف عن التأويل الذي تم اعتماده بالنسبة للرقابة من قبل مجلس نيابي تم انتخابه. فرقابة الانتخابات من قبل جهاز قضائي تستمد شرعيتها من هذه النظرية لأن مهمة الجهاز القضائي لا تعني تدخله في عمل السلطة التشريعية والتنفيذية بل هي ترمي إلى تحقيق حسن سير دواليب الدولة وفقاً لمقتضيات الدستور، فدور القاضي هو الفصل في ما يثيره تطبيق القانون من منازعات من خلال نظره في الطعون المقدمة في صحة العضوية للمجالس والتثبت من مدى توفر شروط العضوية بالنسبة للعضو، وذلك بالاعتماد على الدستور والقانون الانتخابي. والمجلس النيابي الذي يختص بسلطة إصدار القوانين لا يمكن له عملاً بقاعدة الاختصاص الوظيفي للسلط، ممارسة وظيفة الفصل في المنازعات الانتخابية. فالرقابة القضائية لسلامة العملية الانتخابية تعتبر تأكيداً لنظرية الفصل بين السلط لأنها تندرج ضمن طبيعة عمل القضاء الذي يفصل في المنازعات بجميع أنواعها.

وتعتبر بريطانيا العظمى من أول الدول التي أرست الرقابة على الانتخابات من قبل القضاء وكان ذلك بعد أن تخلت سنة 1868 على النظام الذي كان يمارسه مجلس العموم والمتمثل في التثبت في صحة انتخاب أعضائه. ويعمل بهذه الطريقة التي تستند إلى القضاء العادي بمهمة مراقبة الانتخابات في العديد من الدول نخص بالذكر منها أيزلندا الجديدة وأستراليا. وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أنه تم إقرار في بعض الدول بإسناد رقابة الانتخابات المحلية إلى القضاء الإداري من ذلك فرنسا أين تنظر المحاكم الإدارية ابتدائياً ومجلس الدولة استئنافياً في الطعون المقدمة ضد نتائج الانتخابات البلدية والإقليمية.

وقد تدعمت في السنين الأخيرة الثقة في الرقابة على نتائج الانتخابات من قبل هيئات قضائية وذلك نظراً للنتائج التي حققتها بفضل حياد القاضي واستقلاله وبعده عن الاعتبارات السياسية الضيقة وبفضل ما يحيط عمله في غالب الأحيان من إجراءات تضمن حق الدفاع وتكفل ضمان حق الانتخاب إلا أنه نظراً للخصوصية التي تكتسيها النزاعات الانتخابية وارتباطها بالحقوق الدستورية والسياسية تم إسنادها في العديد من الدول إلى القضاء الدستوري الذي ينظر فيها جهاز قضائي مركزي واحد إما بصفة مباشرة أو من خلال تفحصه للدعاوي الاستئنافية ضد قرارات المحاكم الابتدائية أو المجالس النيابية.

وتأخذ بالنظام الذي تمارسه فيه الرقابة بصفة مباشرة أمام جهاز قضائي واحد على المستوى الوطني عدة دول نخص بالذكر منها النمسا التي كانت أول من أرسى هذا النوع من الرقابة وذلك من خلال الفصل 141 من دستورها الصادر سنة 1920 الذي أسند إلى المحكمة الدستورية العليا صلاحية النظر في النزاعات الانتخابية المتعلقة بانتخابات المجلس الوطني (الغرفة الأولى للبرلمان) والمجلس الاتحادي (الغرفة الثانية للبرلمان).

وكذلك فرنسا الذي أسند من دستورها لسنة 1958 للمجلس الدستوري “مهمة الفصل” في حالة المنازعة “في صحة انتخاب النواب والشيوخ” (الفصل 59) ومراقبة صحة انتخاب رئيس الجمهورية (الفصل 58) وعمليات الاستفتاء (الفصل 60) وإعلانه للنتائج.

ومن الدول التي أرست هذا النوع من الرقابة الجزائر، لبنان، المغرب، موريتانيا، الكويت، البنين، الكامرون، بلغاريا، وسلوفكيا، وتونس التي أقرت على غرار الدول السالفة الذكر هذا النوع من الرقابة وذلك من خلال التنقيح الذي أدخل على الدستور في 1 يونيو 2002 الذي أسند إلى المجلس الدستوري اختصاص الإعلان عن نتائج الانتخابات الرئاسية والتشريعية وعمليات الاستفتاء والبت في الطعون المتعلقة بها.

ففي ما يخص الانتخابات الرئاسية أسند الفصل 40 من الدستور إلى المجلس الدستوري صلاحيات الإعلان عن نتائجها والنظر في الطعون المقدمة إليه في الصدد.

ويعلن المجلس الدستوري بالإضافة إلى الصلاحيات الراجعة إليه في مجال الانتخابات الرئاسية عملاً بالفقرة الأخيرة من الفصل 72 من الدستور عن النتائج المتعلقة بانتخاب أعضاء مجلس النواب مجلس المستشارين ويبت في الطعون المتعلقة بها.

وتمارس المحاكم والمجالس الدستورية التي تنظر في الطعون التي تقدم إليها بصفة مباشرة صلاحيات قضائية وذلك على غرار الأجهزة القضائية المركزية للرقابة التي تنظر في هذه الطعون بصفة غير مباشرة. ومن الدول التي أرست هذا النوع من الرقابة على الانتخابات ألمانيا حيث أقر دستور 29 مايو 1949 نظاماً يتم بمقتضاه في مرحلة أولى النظر من قبل الغرفة النيابية للبرلمان “بندستاق” ابتدائياً في الدعاوي بخصوص انتخاب أعضائها والمقدمة من قبل ناخب أو مجموعة من الناخبين أو رئيس لمكتب اقتراع أو رئيس البندستاق وتمارس الغرفة البرلمانية أثناء نظرها في هذه الدعاوي صلاحيات ذات صبغة قضائية من خلال فصلها النزاع وذلك بالاستناد إلى القانون دون سواه. وترمي هذه الرقابة البرلمانية إلى حماية الحقوق السياسية لكل من الناخب والمنتخبين. ويمكن في مرحلة ثانية الطعن في الأحكام التي يصدرها البندستاق من قبل النائب الذي تم القدح في انتخابه أو الناخب الذي رفع الدعوى أمام البندستاق أو من قبل مجموعة برلمانية أو من قبل عشر أعضاء الغرفة البرلمانية أمام المحكمة الدستورية التي تنظر في القضية بصفة نهائية من خلال تفحصها لسلامة العملية الانتخابية والسهر على حماية حق الانتخاب.

* * *

ونستنتج من خلال دراستنا للضمانات الدستورية لحق الانتخاب على مستوى رقابة عملية الإعلان عن النتائج الانتخابية أن الأجهزة المكلفة بتحقيقها، تعمل من خلال التثبت في صحتها غالباً بالرغم عن اختلافها من حيث طبيعتها وتركيبتها على تجسيم الأهداف التي يفرضها حق الانتخاب والمرتبطة بسلامة ونزاهة العملية الانتخابية في كل مستوياتها.

ولعل الضمانات ذات الصبغة القضائية التي توفرها أكثر أجهزة رقابة الانتخابات من قبل القضاء العادي أو القضاء الدستوري هي التي تفسر ظاهرة انتشار هذا النوع من الرقابة على حساب رقابة الأجهزة التي يكون أعضاؤها منتخبين من قبل الشعب. فالأجهزة القضائية من خلال حياد واستقلالية أعضائها وبعدم عن التدخلات السياسية والتكتلات الحزبية داخل البرلمان تمكن الناخبين والمنتخبين من تقديم طعونهم بكل حرية والدفاع عن حقوقهم حسب إجراءات دقيقة ومضبوطة. وتبقى هذه الأجهزة بالرغم من نقائصها مهيأة أكثر من الأجهزة ذات الطابع السياسي التي تكون أثناء نظرها في النزاعات الانتخابية حكماً وطرفاً في نفس الوقت، للعمل على جعل حق الانتخاب الذي ضمنه الدستور يمارس بنزاهة وشفافية وفاعلية في كنف احترام إرادة الناخبين.

وترمي الرقابة التي تمارس على العملية الانتخابية على مستوى كل مراحلها بصفة عامة إلى ضمان حق الانتخاب سواء على مستوى إعداد القائمات الانتخابية وذلك من خلال احترام مبدأ المساواة وفتح باب الطعن تجنباً لأبعاد المواطنين من المشاركة في الحياة السياسية التي ضمنها الدستور، أو على مستوى حق الترشح الذي يجب أن يكون حراً ويمارس في نطاق احترام مبدأ المساواة وبصفة مماثلة بين كل المواطنين وفتح المجال أمام المرشحين للمطالبة بإلغاء القرارات الباطلة التي يمكن أن تحرمهم بصفة غير قانونية من المشاركة في المنافسات الانتخابية، أو على مستوى الإعلان عن النتائج من خلال التثبت في صحتها وسلامتها من قبل هيئات تفصل في المنازعات الانتخابية وتسهر على فرض احترام الضمانات الضرورية لممارسة حق الانتخاب بكامل الحرية وفي نطاق احترام المقتضيات الدستورية. غير أن هذا الحق لا يمكن أن يتجسم ويمارس بصفة سليمة بالرغم عن بعض الثغرات والنقائص التي تعرفها عملية الرقابة على الانتخابات، إلا إذا توفرت عدة شروط نخص بالذكر منها التزام الدولة باحترام القانون وبحماية الإنسان وحرياته.

* * *

نتبين من دراسة الضمانات الدستورية لحق الانتخاب أن هذه الضمانات تبرز من خلال تكريس الدساتير المعاصرة لمبدأين أساسيين: مبدأ الاقتراع العام ومبدأ إخضاع العملية الانتخابية على مستوى كل مراحلها للرقابة.

فالاقتراع العام من خلال تعبيره عن إرادة الشعب من جهة وارتباطه بمبدأ المساواة من جهة أخرى والذي تم تكريسه دستورايً بصفة تدريجية وبعد صراعات طويلة ومتعددة لا يمكن أن يكون مجسماً بصفة فعلية إلا أن توفرت عدة شروط من شأنها تمكين كل المواطنين من التعبير عن إرادتهم بكل حرية وذلك في كنف المساواة خلال انتخابات حرة تحترم فيها إرادة الشعب صاحب السيادة خاصة على مستوى عملية فرز الأصوات واحتسابها وإبطالها من قبل هيئات رقابة الانتخاب كلما تبين أنه تم الإخلال بالقواعد التي تنظمها وأن نتائجها يشوبها الشك والريبة وتم التلاعب بها.

وتقر الدساتير والقوانين الانتخابية اليوم أثناء ضبطها لحق الانتخاب عدة ضمانات الغرض منها جعل ممارسة هذا الحق تتم في نطاق احترام المبادئ التي تنبني عليها دولة القانون التي تحمي الحريات وحقوق الإنسان وتحترم إرادة الشعب من خلال تنظيم انتخابات حرة وبصفة دورية تمكن من التعبير بصفة وفية وصادقة عن اختياراته لممثليه في كنف احترام مبدأ المساواة بين الناخبين والمترشحين والشفافية وتجنب كل ما من شأنه أن ينال من نزاهة العملية الانتخابية وذلك تحت رقابة هياكل تسهر على حسن سير العملية الانتخابية.

وهكذا فضمان حق الانتخاب يرتكز على عدة مبادئ أساسية كحرية الناخب أثناء ممارسته لحقه والمساواة بين المترشحين والناخبين وتنظيم الانتخابات بصفة دورية ونزيهة في كنف الشفافية والمصداقية وفتح إمكانية الطعن في كل ما يتعلق بإجراءات تنظيم العملية الانتخابية وخاصة الإعلان عن نتائجها أمام الأجهزة المكلفة بمراقبتها وتحرص مختلف الأنظمة الانتخابية اليوم في تحديدها لأساليب الرقابة على الانتخابات أن تكون منسجمة مع هذه المبادئ المرتبطة بحق الانتخاب والتي تنبني عليها الدول الديمقراطية وتستمد منها مشروعيتها وذلك من خلال حرصها على أن تتوفر في أعضاء أجهزة الرقابة على الانتخابات كل الشروط المتعلقة بالحياد والكفاءة والنزاهة وأن تتم ممارستهم لصلاحيتهم في ظروف تفرض احترام كل الضمانات المترتبة عن حق الانتخاب.

ولكن مهما بلغت الدساتير والقوانين الانتخابية من دقة في تنظيمها لهذه الضمانات والتأكيد على ضرورة احترامها والعمل بمقتضاه فإن الانتخابات يمكن أن لا تتم بصفة مرضية ومكتملة وذلك نظراً للثغرات التي ما زالت تعرفها الأحكام المنظمة للانتخابات والتي تنعكس سلبياً على سلامة العملية الانتخابية فحق الانتخاب يمكن أن يؤدي إلى التعبير من خلال ممارسة الاقتراع العام على حد تعبير كانط إلى إرادة عامة تقريبية. ولكن لا شيء يمنع من انتظار مزيد من التطور نحو احترام أفضل للإرادة العامة بالرغم من أن روسو لا يعتقد ذلك لأن “شعباً من الآلهة هو الذي يمكن أن يحكم نفسه بصفة ديمقراطية وحكم كامل كهذا، كما يؤكد ذلك بنفسه، لا يتلاءم مع البشر” على عكس كانط الذي يؤمن بتطور التاريخ البشري نحو “مجتمع مدني تقرر فيه الإرادة نفس الشيء بالنسبة للجميع والجميع بالنسبة لكل فرد”.