التنظيم الإداري المحلي في ليبيا الجديدة

يرى بعض المهتمين بالشأن العام أن نظام الدولة الاتحادية (الفيدرالية) هو الأنسب لليبيا؛ وذلك بتقسيم ليبيا بين ثلاث ولايات أو أكثر يكون لكل منها حاكم ومجلس تشريعي وحكومة محلية على النحو الذي كان موجودا منذ استقلال البلاد وحتى عام 1963م. وثمة رأي آخر يدعو إلى تبني نظام المحافظات العشر الذي أُنشئ بعد إلغاء النظام الاتحادي. ولكن تدقيق النظر في هذا الموضوع يظهر – على نحو لا لبس فيه – خطأ هذين التوجهين كليهما. فيما يلي عرض لعيوب النظام الاتحادي (الفيدرالي)، ثم عرض لعيوب نظام المحافظات، لينتهي البحث بشرح ما يبدو أنه التنظيم الإداري الإقليمي الأفضل لليبيا مع ذكر الأسباب.

أولا – عيوب النظام الاتحادي بالنسبة إلى ليبيا:

1. يكلّف النظام الاتحادي (الفيدرالي) ميزانية الدولة نفقات باهضة بسبب طبيعته المعقدة من حيث ازدواجية الكثير من السلطات والإدارات فيه؛ إذ سيوجد لكل سلطة وإدارة هامة في الدولة – بما في ذلك المحاكم – نوعان يتبع أحدهما الولايات ويتبع الآخر السلطة الاتحادية، مع ما يتبع ذلك من زيادة مفرطة في المباني والمنشآت العامة المطلوبة، وزيادة عدد الموظفين… إلخ، أي تضخيم مهول للجهاز الإداري للدولة. ولا شك أن التركيز يجب أن ينصب على توفير المال العام لإعادة إعمار ليبيا وبناء بنيتها التحتية وإنعاشها اقتصاديًّا، وليس على النفقات الإدارية اللازمة لإنشاء نظام معقّد لا تبدو له أية فائدة حقيقية في ليبيا كما سيتضح. ولا يفيد اعتماد الطريقة الأخرى القائمة على الاعتماد على السلطات المحلية في تنفيذ قرارات السلطات الاتحادية من دون إنشاء إدارات وفروع اتحادية في الولايات؛ ذلك لأن الملاحظ دائما أن السلطات المحلية تقدِّم تنفيذ قراراتها، وتهمل تنفيذ القرارات الاتحادية في كثير من الأحيان، وخاصة إذا وجد تعارض بين الاثنين، وهما كثيرا ما يتعارضان، فتكون النتيجة حكومة اتحادية ضعيفة جدا، لا تجد قراراتها إلى التنفيذ سبيلا، بل قد تقع بفعل ذلك تحت رحمة سلطات الولايات التي بيدها التنفيذ، فتكون الحكومة الاتحادية عاجزة فعلا عن إدارة شؤون الدولة على النحو المطلوب، وإن كانت تتمتع بالسلطة اللازمة من الناحية القانونية النظرية.

2. يَعِيبُ النظام الاتحادي تعقيده الشديد في توزيع الاختصاصات بين السلطة الاتحادية وسلطات الولايات، وبخاصة السلطات التشريعية والتنفيذية والإدارية؛ فعادة ما يثور النزاع بين المجالس التشريعية للولايات والهيئة التشريعية الاتحادية، وبين المجالس التنفيذية للولايات والحكومة الاتحادية في بيان حدود اختصاص كل منها، فنرى المجالس التشريعية للولايات مثلا تضع قوانين لتنظيم شؤونٍ عَهَدَ بها الدستور إلى الهيئة التشريعية الاتحادية، والعكس صحيح أيضًا، ونرى المجالس المحلية تَبُتُّ في شؤون يختص الدستور الحكومة الاتحادية بها [1]، وخاصة وأن الحدود الفاصلة بين اختصاصات كل سلطة وأخرى لا يمكن بيانها بيانا واضحًا وحاسما لكل خلاف، وهو ما يوجب إيجاد محاكم خاصة بالفصل في مثل هذه المسائل، مع ما يصاحب كل ذلك من تعقيد في الإجراءات وبطء بها، فتكون الحصيلة دائرة مفرغة من المشاكل التي لا تنتهي، وعرقلة لعمل الدولة من دون أية فائدة عملية ملموسة.

3. وربما يكون الأخطر من كل ذلك هو تسبب النظام الاتحادي في تقوية القبلية والجهوية داخل ليبيا على حساب الروح الوطنية على نحو كبير؛ ذلك أن من أساسيات النظام الاتحادي تقسيم البلاد بين مجموعة من الولايات، فيكون لكل ولاية جزءًا من إقليم الدولة، وتنتخب سلطة محلية يمنحها الدستور اختصاصات كبيرة نسبيًّا، وتكون لهـا لذلك ميزانية كبيرة، ومن هنا فخطر التنافس بين القبائل وبين المدن في الولاية الواحدة على المناصب والمسؤوليات من منصب حاكم الولاية إلى حقائب المجلس التنفيذي وكراسي المجلس التشريعي، وكيفية توزيع ميزانية الولاية – يبقى قائما بل ومحدقا، ويتحول العمل العام من وظيفة هدفها خدمة المواطن وتحقيق المصلحة العامة إلى تنازع وتنافس وتناحر بين القبائل وبين المدن. فالخطأ كل الخطأ هو جمع القبائل والمدن المتجاورة في ليبيا تحت ظل وحدة إقليمية سياسية أو حتى إدارية واحدة.

4. ولا يفوت في هذا المقام الإشارة إلى ما قد يسببه النظام الاتحادي من تفتيت للّحمة الوطنية في ليبيا عاجلًا أم آجلًا؛ ذلك لأن استقلال كل ولاية بنظم قانونية مختلفة شيئا عن غيرها سيولِّد نزعة استقلالية وربما انفصالية في نفوس سكانها مع مرور الوقت، وخاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار الاختلافات في اللهجة والملبس واللون وبعض العادات وأيضا المذهب الديني بين سكان بعض مناطق ليبيا، وهي اختلافات قد تتحول بسهولة في المستقبل إلى بذور انفصال واستقلال ولو بعد أجيال، وقد لا يمضي وقت طويل حتى يُعَدّ ابن طرابلس أجنبيًّا في بنغازي والعكس صحيح.

وإنما يجد النظام الاتحادي ما يبرره في الدول الكبيرة متعددة الأمم والأعراق والأديان كالهند والصين وروسيا مثلًا؛ ذلك أن التنوع العرقي والاختلاف الديني القائم بين سكان الدولة يعني بالضرورة اختلاف معتقداتهم وعاداتهم وشرائعهم بشكل يصعب معه توحيد نظمهم بفرض قوانين واحدة عليهم جميعًا، وخاصة إذا سكنت كل مجموعة عرقية أو دينية جهة ما من إقليم الدولة، وكانت أغلبية كبيرة فيها؛ فقانون الأحوال الشخصية أو المواريث الذي يلائم المسلمين لا يمكن تطبيقه على الهندوس والبوذيين مثلًا الذين لهم شرائعهم الخاصة بهم، كما أن الأعياد والعطلات والمناسبات والتقويمات تختلف باختلاف الأديان والأعراق، وكل هذا يحتم إيجاد نظم قانونية مختلفة في الدولة الواحدة، وهذا ما يحققه نظام الدولة الاتحادية على نحو كبير؛ فهو نظام يوفّق بين الخصوصيات الدينية والعرقية والثقافية للشعب الواحد وكونه تحت سلطة دولة واحدة، كما أن كثرة السكان (أكثر من مليار نسمة في بعض هذه الدول) تجعل من المستحيل على حكومة واحدة موجودة بالعاصمة إدارة الشؤون العامة في الدولة لوحدها، فهي تحتاج حتما إلى حكومات إقليمية محلية تعينها على ذلك.

ثانيًا – عيوب نظام المحافظات بالنسبة إلى ليبيا:

يصدق ما ذكر بشأن النظام الاتحادي على التنظيم الإداري الإقليمي في ظل الدولة البسيطة أيضا متى كان قائمًا على أساس تقسيم الدولة إلى محافظات تنقسم بين وحدات إدارية أصغر فأصغر؛ وذلك كأن نقول مثلًا: محافظة الجبل الغربي وتضم متصرفيات غريان والأصابعة والزنتان ونالوت … إلخ، وتقسم متصرفية غريان مثلًا إلى مجموعة من المديريات وهكذا على النحو الذي كان قائما منذ صدور المرسوم الملكي بقانون في شأن الإدارة المحلية الصادر عام 1967م وحتى عام 1970م بعد الانقلاب العسكري – وذلك لعدة أسباب أهمها:

1. يتسم هذا النظام بتعقيد شديد يؤدي حتما إلى تفتيت الاختصاصات والسلطات الإدارية بين مجموعة كبيرة من الوحدات الإدارية الإقليمية المتوازية وغير المتوازية بما يزيد على حاجة البلاد الفعلية بكثير؛ فهذا النظام يقوم – كما جاء في المرسوم الملكي المذكور أعلاه – على تقسيم ليبيا بين عشر محافظات، وتقسم كل محافظة بين مجموعة من المتصرفيات، وكل متصرفية بين نيابات، وكل نيابة متصرفية بين مجموعة من المديريات. ولا شك أن من شأن هذا التنظيم المعقّد ومتعدد المستويات تضخيم الجهاز الإداري للدولة، وزيادة المقار الإدارية، والموظفين، والسيارات العامة، والأثاث المكتبي، والقرطاسية …إلخ، ومن شأن ذلك زيادة النفقات العامة من دون فائدة حقيقية، بل بالعكس يعرقل ذلك عمل الإدارة المحلية ويعقده ويفقده السلاسة والوضوح، ويقع العبء الأكبر على عاتق المواطن الذي سيعاني الأمرين من جراء طول الإجراءات الإدارية وتعقيدها، فيكون عليه إذا احتاج خدمة عامة أن يرفع طلبه إلى المدير الذي يحيله على المتصرف الذي يحيله بدوره على المحافظ ثم على الوزير أحيانًا، مع ما يصاحب ذلك أيضًا من تداخل في الاختصاصات، وتفتيت للمسؤوليات.

2. يخالف هذا النظام طبيعة المجتمع الليبي القائم على التجمعات السكنية المستقلة والقبائل منذ القدم؛ ذلك أن النظر في طبيعة المدن والبلدات الموجودة الآن يُظهر أنها تتميّز باستقلال اجتماعي كبير عن بعضها، كيف لا وعمر معظم هذه المدن والبلدات يزيد على قرن من الزمان، أي منذ هجرة بني سليم وقبل ذلك، فكل مدينة وبلدة منها تشعر بذاتيتها واستقلالها عن المدن والبلدات المتجاورة، بل يزيد الأمر على ذلك في كثير من الحالات إلى عداوات ومنافسات حادة بين هذه المدن والبلدات المتجاورة. وقد أدرك الأتراك العثمانيون هذه الحقيقة بوضوح، فعملوا على خلق نظام إداري معقّد يقوم على جمع هذه التجمعات السكنية والقبائل المتجاورة في وحدات إدارية واحدة؛ فقسموا البلاد في العهد العثماني الثاني مثلا بين مجموعة من الألوية أو (السناجق)، والألوية إلى أقضية (مفردها قضاء)، والأقضية إلى نواحٍ (مفردها ناحية)؛ حتى تستمر سيطرتهم على البلاد مستفيدين من الخلافات الدائمة والحادة بين هذه المدن والبلدات والقبائل، عملًا بمقولة: «فرّق تسد» [2]. وهذا عين ما لعب به القذافي أيضًا وتفنّن فيه عن طريق ما سماه «الشعبيات» التي تضم الواحدة منها مجموعة من المدن والبلدات المتجاورة، حتى إذا قام خلاف بينها كان هو المرجع الذي تحتكم إليه الأطراف المتنازعة، عارضةً الولاء المطلق له، وطالبةً الدعم والنصرة. فلما اشتد عليه الخناق وضاقت به الأرض بما رحبت باندلاع ثورة 17 فبراير، كان من «التنازلات» التي عرضها على الشعب أن تستقل كل مدينة وبلدة بـ «شعبية» خاصة بها، معترفا أن هذا هو ما كان يريده الشعب ويطالب به! وقد نفّذ وعده هذا فعلًا قبيل سقوط نظامه بقليل. ولذلك فليس من الحكمة مطلقًا مسايرة الأتراك والقذافي فيما قاموا به، فمن شأن ذلك تقوية القبلية والجهوية في ليبيا بما يدفع بها إلى الوراء، وليس من المستغرب لذلك أن نرى التنافس والتناحر بين المدن والبلدات والقبائل المتجاورة على الاستحواذ على المناصب الهامة والميزانيات متى تم جمعها تحت وحدة إدارية واحدة، مع ما يتبع ذلك من محاباة ومحسوبية ومحاصصات جهوية وقبلية، لا بل قد يتطور الأمر إلى حدوث نزاع مسلّح، أي إلى حرب أهلية حقيقية بسبب انتشار السلاح بكثرة، ووجود كتائب مسلحة بكل مدينة وبلدة، وعلينا ألا ننسى أن ثمة كثيرين على أتم الاستعداد لاستخدام هذا السلاح خدمة لأهداف قبلية ومناطقية وجهوية، لا بل إن هذا قد حدث فعلًا في بعض الجهات.

3. ضف إلى ذلك أن التنظيم الإداري الإقليمي في العهد الملكي الذي يطالب بعض السياسيين بإحيائه الآن (نظام المحافظات العشر) بعيد كل البعد عن المثالية؛ فهو نظام إداري مركزي قائم على طريقة عدم التركيز الإداري، بشهادة أساتذة القانون الإداري العرب الذين درَّسوا القانون الإداري في الجامعة الليبية (سابقًا) [3]، والمركزية الإدارية نظام منتقد جدا كما هو معلوم لكل دارسي القانون الإداري وذوي الخبرة في الإدارة الإقليمية.

4. ربما يستند بعض المطالبين بإحياء نظام المحافظات العشر، وربما منشئوه الأصليون أيضا، بما هو موجود في بعض الدول المتقدمة كفرنسا والولايات المتحدة. وإنما نشأ نظام المحافظات في فرنسا عقب نجاح الثورة الفرنسية ليكون بديلا عن نظام إقليمي واسع من نوع آخر هو الإقطاعيات[4]، فثمة إذا رابط قوي كان يربط المدن والبلدات الفرنسية المتجاورة بعضها ببعض، ولم ينشأ نظام المحافظات من فراغ كما جرى في ليبيا إبان فترة الحكم العثماني الذي أنشأ تقسيمات إدارية معقدة من فراغ ودون مراعاة لما كانت تتمتع به المدن والبلدات من تميّز واستقلال. أما الولايات المتحدة فهي بلد حديث النشأة، متعدد ومختلط الأعراق والأديان والثقافات، ولهذه الأسباب وغيرها تنعدم فيه الاعتبارات القبلية والمناطقية والجهوية أو تكاد، فلا يتصور أن تنشأ فيه حساسيات أو منافسات بين المدن أو البلدات المتجاورة، ويمكن أن ينجح فيه أي نظام إداري إقليمي واسع، كما نجح فيه النظام الاتحادي بجدارة. ومع ذلك، يذكر التاريخ الأمريكي أن الولايات الصغرى اشترطت للدخول في الاتحاد أن تكون السلطة التشريعية العليا بيد مجلس الشيوخ، أي المجلس الذي تُمثَّل فيه الولايات بالتساوي بصرف النظر عن مساحة الولاية وعدد سكانها ومواردها؛ وذلك مخافة أن تبتلعها الولايات الكبيرة. فالحاصل أنه لا وجه للمقارنة بين ليبيا والولايات المتحدة أو فرنسا، وخاصة في مسألة وثيقة الصلة بخصوصيات كل بلد، وطبيعة تكوينه الاجتماعي وروابطه؛ فتنبغي الاستفادة من تجارب الأمم الأخرى وتكييفها بما يلائم خصوصيات المجتمع الليبي، وليس استنساخها وتطبيقها حرفيًّا.

ثالثا – النظام الإداري المحلي الأمثل لليبيا:

يبدأ هذا الجزء بعرض النظام الإداري المحلي المقترح، بما في ذلك مقومات نجاحه واستمراره، ومزاياه، ثم مناقشة بعض ما قد يقال فيه.

أ. عرض النظام الإداري المحلي المقترح:

ولكل ذلك ينبغي لأي نظام إداري محلي أن يأخذ في حسبانه تجنب التعقيد في بنية الإدارة المحلية، والاتسام بالبساطة والسلاسة، ووضوح الاختصاصات، ثم مراعاة خصوصية المجتمع الليبي؛ فيجب تقسيم البلاد بين مجموعة بلديات مستقلة منفصلة عن بعضها، فيكون كل تجمع سكني يصل عدد السكان فيه حدا معيّنا بلدية مستقلة.

ويلاحظ هنا أن البلديات التي كانت قائمة في العهد الملكي لم تكن وحدات إدارية، ولم تكن تتبع المحافظات، كما أن عمدة البلدية لا يتبع المحافظ؛ فالبلدية كيان إقليمي مستقل عن المحافظة، يختص ببعض الشؤون البلدية قليلة الأهمية، كضبط وقائع الأحوال المدنية من ميلاد وإقامة وزواج …إلخ، وإصدار الرخص والرقابة على التجارة ومزاولة المهن، والبناء والتخطيط، وتنظيم النقل داخل البلدية. أما الأجهزة الإدارية بأنواعها المختلفة داخل البلدية فتتبع المدير والمتصرف والمحافظ. وهذا أحد أوجه عيوب هذا النظام؛ ذلك أنه أوجد وحدات إدارية متعددة المستويات وعهد إليها ببعض الشؤون، وأوجد البلديات أيضا واختصّها بشؤون أخرى داخل الرقعة الجغرافية ذاتها من إقليم الدولة.

يبدو أن الحل الأفضل هو الاقتصار على البلديات وحدها، ولكن مع تغيير طبيعتها من ناحيتين؛ الأولى هو جعلها وحدات إدارية تتمتع ببعض السلطات الإدارية أيضا فوق اختصاصها بالشؤون المحلية لتكون بديلا عن المحافظات والمتصرفيات والمديريات، والثانية هو جعلها وحدات لامركزية حقيقية. وهكذا يكون عندنا في الساحل الغربي على سبيل المثال: بلدية زوارة، بلدية صبراتة، بلدية صرمان، بلدية الزاوية، بلدية جنزور، بلدية طرابلس … إلخ، ويكون عندنا في الجبل الغربي: بلدية غريان، بلدية يفرن، بلدية الزنتان … إلخ، وفي الشرق: بلدية بنغازي، بلدية البيضاء، بلدية درنة، بلدية المرج، بلدية طبرق … إلخ –

مع ضرورة أخذ الملاحظات التالية بعين الاعتبار:

1. ليس من الضروري أن تكون البلديات جميعًا على هيكلية واحدة موحّدة في كل البلاد؛ فلا حاجة إلى تقسيم البلديات الصغيرة بين وحدات إدارية أصغر كفروع بلدية أو محلات، بل يمنح القانون كل الاختصاصات المحلية إلى عمدة البلدية والمجلس البلدي والأجهزة الأخرى الممثلة للبلدية ذاتها، أما البلديات الكبيرة والمتوسطة كطرابلس وبنغازي ومصراته فتقسم بين مجموعة من الفروع البلدية لوجود ضرورات عملية تحتم ذلك، فينقل القانون بعض الاختصاصات إلى الفروع البلدية؛ لتوزيع العمل، وتخفيف العبء على المواطنين وعلى البلدية ذاتها.

2. يجب أن يكون إنشاء البلديات وبيان حدودها الإدارية وما إذا كانت تتضمن فروعًا بلدية أو لا بتشريع برلماني أي بقانون وليس بأداة أدنى. تمنح هذه الطريقة المنطقية التَّنْظِيمُ الإداري المحلي استقرارا كبيرا، فلا يطاله التعديل إلا للضرورات القصوى وبعد مناقشات برلمانية مستفيضة تقرر ما إذا كانت هناك حاجة حقيقية إليه أم لا. أما إسناد هذا الاختصاص (إنشاء البلديات وبيان حدودها الإدارية) إلى جهة أخرى كمجلس الوزراء مثلًا فهو خطوة غير منطقية قانونا وتؤدي إلى نتائج خطيرة؛ ذلك أن التسليم لجهة تنفيذية بسلطة إنشاء البلديات أو دمجها أو تحديد اختصاصاتها يقتضي أن تكون لهذه الجهة ميزانية مفتوحة تتصرف بها كما تشاء خلافًا للمبادئ المالية والقانونية الحديثة المستقرة التي تقيّد نفقات الحكومة بميزانية واضحة يقرها البرلمان، ذلك أن إنشاء بلدية جديدة أو فرع بلدي جديد يتطلب الكثير من النفقات لإيجاد مقار لإداراته، وتعيين موظفين به، وتخصيص ميزانية له، وغير ذلك من النفقات اللازمة. وكل ذلك لا يكون إلا بقانون. كما أن ترك هذا الاختصاص الخطير بيد الحكومة قد يدفعها إلى إساءة استخدامه لأغراض شتى؛ كدمج بلدية أو فرع بلدي في بلدية أو فرع بلدي آخر انتقامًا من عمدة هذه البلدية أو رئيس ذلك الفرع لسبب من الأسباب، أو جعل الفروع البلدية لإحدى البلديات أكثر من اللازم سعيًا لزيادة ميزانية البلدية بزيادة فروعها، أو محاباة لبلدية على حساب بلدية أخرى بضم مساحات من الأرض إليها بغير وجه حق إلى غير ذلك من مظاهر الفساد التي كنا نشهدها في النظام السابق الذي جعل هذا الاختصاص بيد المسمى «أمانة مؤتمر الشعب العام» حتى يتسنى له اللعب به إلى أبعد الحدود؛ فهو كان وسيلته لزعزعة الاستقرار الإداري، وضرب القبائل والمناطق المتجاورة بعضها ببعض، وإدخال البلاد في فوضى دائمة، وإضاعة الوقت والجهد، وتبديد المال العام، وعرقلة التنمية، وتعطيل مصالح الناس.

3. ليس من الضروري أن يتم إنشاء البلدية وبيان حدودها الإدارية في خطوة واحدة معًا؛ ذلك أن بيان الحدود الإدارية بين البلديات قد يتطلب تشكيل لجان برلمانية متخصصة، ومراجعة المستندات والخرائط المتوافرة والأحكام القضائية السابقة الصادرة بالخصوص، والاستماع إلى ذوي الشأن، وغير ذلك مما يتطلب وقتًا قد يطول. ولذلك فإن المبدأ هو جعل إنشاء البلديات والفروع البلدية عملية منفصلة عن بيان حدودها الإدارية بدقة التي يمكن معالجتها بقوانين لاحقة ولكل بلدية على حدة – إلا إذا كانت هذه الحدود واضحة وثابتة ومتوافق عليها بين البلديات المعنية.

4. يجب أن ينص الدستور ذاته على المبادئ الأساسية لتنظيم الإدارة المحلية، وأهمها ما يلي:

• تقسيم البلاد بين بلديات، وتقسيم البلديات الكبيرة والمتوسطة بين فروع بلدية أو محلات.

• النص على أن إنشاء البلديات والفروع البلدية وبيان حدودها الإدارية يكون بقانون.

• تمتع كل بلدية بالشخصية المعنوية مع ما تقتضيه من ميزانية مستقلة وحق التقاضي وغيره؛ بما يضمن سير التنظيم الإداري المحلي على أساس لامركزي، والابتعاد عن تركيز السلطة الإدارية بيد الوزارات.

• بيان كيفية اختيار عمدة البلدية، وكيفية تأليف المجلس البلدي (بالانتخاب أو بالتعيين). ولا شك أن المبادئ الديمقراطية الحديثة توجب أن يكون شَغْلُ المناصب الإدارية المحلية العليا بالانتخاب المبني على أساس برامج عمل يضعها المرشَّحون أمام الجمهور، فلا غنى عن الانتخابات البلدية في دولة ديمقراطية حقيقية.

• يجب أن يبيّن الدستور الأسس التي يستند إليها البرلمان عند إنشائه للبلديات والفروع البلدية وبيان حدودها الإدارية؛ ليسهل حل الخلافات التي قد تنشأ بين البلديات المتجاورة في هذا الموضوع، فينص على أن إقليم البلدية يتألف من المناطق التي يقطنها سكانها إضافة إلى الأراضي التابعة لها المملوكة لهؤلاء السكان أو التي تعد من مناطقهم تقليديًّا.

• ولذلك وكنتيجة قانونية ومنطقية لإسناد الدستور سلطة إنشاء البلديات والفروع البلدية وبيان حدودها الإدارية للهيئة التشريعية، ووضع الدستور للضوابط التي ينبغي لهذه الهيئة اتباعها عند قيامها بذلك – فإن الفصل في المنازعات التي قد تحدث بين البلديات المتجاورة بشأن حدودها الإدارية قضائيا لا يكون إلا أمام المحكمة الدستورية العليا؛ لأن هذه الحدود مرسومة بقانون، ووفقًا لأسس وضوابط يضعها الدستور، فإذا ادّعت بلدية ما أن حدودها الإدارية التي بينها القانون غير صحيحة ولا توافق الضوابط الدستورية، فهذا يعني طعنًا بعدم دستورية هذا القانون، والمحكمة الدستورية العليا هي السلطة الوحيدة في الدولة التي يمكنها تقرير ذلك. ولا شك أن إسناد هذه المنازعات التي تحدث كثيرا في ليبيا إلى المحكمة الدستورية العليا دون غيرها يحقق فوائد جمّة؛ منها أن قضاتها من أكثر القضاة خبرةً وكفاءةً في الدولة، وليس من السهل التأثير في عملها أو الضغط عليها بالقياس على بعض المحاكم والجهات الأخرى.

5. بناءً على ما تقدم، يترك الدستور للقانون (قانون البلديات أو الإدارة المحلية) تنظيم الشؤون الأخرى التي تحتاج إلى المراجعة وإعادة النظر بين فترة وأخرى؛

حتى يسهل تعديلها وضبطها، وأهمها:-

• تسمية البلديات والفروع البلدية، وبيان هيكليتها الإدارية (الإدارات والفروع والأقسام الإدارية التي تتألف كل بلدية منها)، وتقسيم العمل بينها.

• تنظيم الشؤون الوظيفية لموظفي البلديات (تعيينهم، ترقيتهم، نقلهم، مرتباتهم، واجباتهم، والنظام التأديبي الذي يخضعون له).

• بيان اختصاصات البلديات واختصاصات الفروع البلدية (إن وجدت)، بما يسهِّل إعادة تقسيم هذه الاختصاصات بين الفروع البلدية والبلديات والوزارات من حين إلى آخر بحسب الحاجة.

ب – فوائد التنظيم الإداري المحلي المقترح:

يحقق هذا النظام المقترح فوائد جَمَّة يمكن تلخيص أبرزها فيما يلي:

1. بساطة التنظيم الإداري المحلي؛ فتكون الإدارة المحلية على مستوى واحد في بعض الجهات، وعلى مستويين اثنين (فروع بلدية وبلديات) في جهات أخرى. يكفل ذلك إبعاد هيكلية الإدارة المحلية عن التعقيد، وعن تداخل الاختصاصات، أي الابتعاد عن البيروقراطية خطوة واسعة إلى الأمام، وتسريع العمل الإداري أيضًا.

2. إبعاد التنظيم الإداري المحلي عن العبث الذي كان يشهده في العهد السابق ومنحه أسباب الاستقرار؛ وذلك بإعادة الأمور إلى نصابها الصحيح بجعل سلطة إنشاء البلديات والفروع البلدية ورسم حدودها الإدارية بيد البرلمان بقانون يقره وفقًا لضوابط يضعها الدستور، وليس بيد السلطة التنفيذية.

3. منح التنظيم الإداري المحلي طابعًا لامركزيا مستندا إلى الدستور نفسه، بما يمنع البرلمان من المغالاة في توسيع السلطة الإدارية للوزارات على حساب البلديات؛ فأسلوب المركزية الإدارية أسلوب سيئ وغير عملي كما ثبت جليًّا في العهد السابق الذي كان يميل إليه بوضوح.

4. إخضاع سلطة إنشاء البلديات والفروع البلدية وبيان حدودها الإدارية إلى رقابة المحكمة الدستورية العليا، أعلى محكمة في البلاد؛ ليكون لذوي الشأن فرصة تدارك أي خطأ قد يقع فيه البرلمان في هذا الشأن. وتتوافر هذه المحكمة – كما تقدم ذكره – على ضمانات قوية تجعلها مؤهلة لتولي هذه الرقابة بجدارة.

5. التغلب على ظاهرة التنافس بين المدن والقبائل المتجاورة التي تعاني منها ليبيا كثيرا، ليكون تركيز البلديات منصبًّا على وظائفها الحقيقية، والمساعدة في تحقيق التنمية والمصلحة العامة – لا على الصراعات والتنافس المبني على الحسابات المناطقية والجهوية والقبلية، أي الدفع بليبيا إلى الأمام، والابتعاد بها عن مخلفات الماضي، لتكون ليبيا الجديدة فعلا.

ج – عيوب قد تذكر بشأن التنظيم الإداري المحلي المقترح:

1. قد يقول قائل بأن إلغاء المحافظات والمتصرفيات والمديريات والاقتصار على البلديات فقط قد يزيد الضغط على الوزارات؛ لأن الوزير الذي كان يتعامل مع عشرة محافظين فقط سيكون مطالبًا بالتعامل مع عشرات من عمداء البلديات، وفي هذا ضغط عليه.

والرد على هذا النقد هو أن بإمكان الوزارة المعنية (وزارة البلديات) توسيع نفسها، وإيجاد أقسام أو إدارات متعددة بها بحسب الحاجة ؛ لتنظيم العمل بالقدر الذي يفي بالطلب، كما يمكن إيجاد نواب عن الوزراء ووكلاء لهم، وليس هذا بمسوّغ حقيقي حتى وإن صحّ، وبخاصة إذا كان البديل هو عودة المنافسات والصرعات المناطقية والقبلية وربما الحرب الأهلية. ثم إن تعامل الوزير مع عمداء بلديات أفضل من تعامله مع محافظين مسؤولين عن رقع جغرافية واسعة قد لا يعرفون ما الذي يجري فيها، أما التعامل مع عمداء البلديات المسؤولين عن رقع جغرافية أصغر وعدد سكان أقل فيجعل الوزير أقرب إلى القاعدة الشعبية، وأكثر معرفة باتجاهاتها ورغباتها.

2. قد يقول قائل بأن ثمة بلدات متناثرة هنا وهناك في بعض المناطق الجبلية والصحراوية لا يمكن، بالنظر إلى قلة عدد سكانها وإمكانياتها ومواردها، أن تكون بلديات مستقلة.

والرد على هذا النقد هو أن الدستور يجب أن يضع شروطا معينة ليكون أي تجمع سكني بلدية مستقلة، كعدد السكان مثلا [5]. فإذا وجدت بلدة ما لا يزيد عدد سكانها عن بضع مئات مثلا، ولا تتوافر فيها الموارد والمباني الإدارية اللازمة لإنشاء بلدية مستقلة، هنا وهنا فقط يمكن دمجها مع غيرها، أي عندما يكون خيار الدمج أفضل من الاستقلال فقط. وإذا وجدت بعض البلدات التي على هذه الحال، فعلينا ألا ننسى وجود عشرات المدن والبلدات الكبرى التي يمكن جعلها بلديات مستقلة بسهولة.

3. قد يقول قائل بأن جعل كل مدينة وكل بلدة بلدية – ولو بشروط معينة – يكثر عدد البلديات إلى حد غير مقبول.

والرد على هذا النقد هو أن بلادنا ليست كثيرة السكان أو كثيرة المدن أو البلدات أو القرى حتى توجد بها بلديات كثيرة، وخاصة إذا علمنا أن عدد البلديات في فرنسا مهد هذا النظام قد بلغ 38 ألف بلدية في بعض المراحل [6]، ونحن لسنا في حاجة إلى مثل هذا العدد طبعًا، ولا يتصور أن يزيد عدد البلديات في ليبيا على بضع عشرات. ثم ما الضير في إنشاء عدد كبير من البلديات إذا كان من شأن النظام البديل، نظام المحافظات العشر، إيجاد ليس عشرات بل ربما مئات المتصرفيات والمديريات؟

4. قد يقول قائل بأن هذا النظام المقترح لا يقضي على النزاعات القبلية في ليبيا على نحو تام؛ إذ يظل الخطر قائما من نشوء مثل هذه النزاعات بين القبائل التي تسكن المدينة الواحدة، أي البلدية الواحدة.

يمكن التغلب على هذه المشكلة مع مرور الوقت بحسن تنظيم الانتخابات، ومن أهم الأشياء الواجب اتّخاذها في هذا الشأن هو أن يفرض الدستور على كل مرشح، سواء في الانتخابات البلدية أم البرلمانية أم الرئاسية أم غيرها، أن يُعِدَّ برنامج عمل تفصيلي ومكتوب يوضح فيه آراءه في القضايا المختلفة الداخلية والخارجية المتصلة بالوظيفة التي يرغب في تقلّدها، ويوجب عليه عرضه على الجمهور قبل الانتخابات بفترة. يضمن هذا الإجراء أن يكون اختيار عدد كبير من الناخبين مبنيًّا ليس على الحسابات القبلية، بل على المفاضلة بين خطط العمل المختلفة التي يعرضها المرشحون. ولا يمكن – بطبيعة الحال – تطبيق هذا الإجراء بنجاح في حالة الانتخابات التي تجري في ظل ولاية أو محافظة مثلًا؛ ذلك لأن الاعتبارات الجهوية تظل الأقوى، وخاصة مع تشابه برامج العمل التي يضعها المرشحون من المدن والبلدات المختلفة في الولاية أو المحافظة.

وفوق ذلك، يقضي النظام الإداري المحلي المقترح على الوجه الأشد خطرًا من وجهي النزاع القبلي والمناطقي في ليبيا، ألا وهو النزاع بين المدن والبلدات المتجاورة، أما الوجه الآخر لهذا النزاع وهو النزاع بين قبائل المدينة والبلدة الواحدة، فيمكن تخفيف حدته شيئا فشيئا مع مرور الزمن. وفي المقابل، يعمل النظام الاتحادي ونظام المحافظات العشر بالعكس على تقوية النزعة القبلية والمناطقية والجهوية كما تقدم بيانه. والنظام الذي يقضي على أحد جانبي المشكلة أفضل قطعا من النظام الذي لا يحل منها شيئا البتة بل يزيدها سوءا.