هادي عزيز علي.. قاضٍ وباحث قانوني

كلما ألمت بالوطن نائبة من النوائب – على كثـرتها-، تنطلق الأصوات هادرة لمطالبة الادعاء العام للقيام بواجباته من أجل التصدي للمجرمين والمساهمين في الجريمة، ومع صمت الادعاء العام – أحيانا – الذي يؤدي إلى ان تكون تلك الأصوات أكثـر حدة ممزوجة بتهمة التقصير، فلا بد والحالة هذه من الوقوف على النظام القانوني للادعاء العام، مقارنة بأحكام النيابة العامة في فرنسا ومصر على سبيل المثال، من خلال الوقوف على اختصاصات الادعاء العام والمركز القانوني له، باعتباره هيئة تكون وظيفتها تمثيل المجتمع للمطالبة بحقوقه وحمايتها ازاء ما يتعرض له من انتهاكات.

ابتداء – نشأت العقوبة في المجتمعات البدائية – وحتى قبل مجتمعات الالتقاط والصيد البدائي – مؤسسة على أساس الانتقام الفردي من الجاني، يقوم به المتضرر مستعيناً بذويه وأهل القربى. وبهذا الفهم فان الادعاء بالحق الشخصي منوط بالمجني عليه وتآزر من ذويه، ويندرج تحت وصف الادعاء بالحق الشخصي، لعدم تبلور فكرة الادعاء بالحق العام حينئذ، اذ ان الوصول إلى مفهوم الادعاء بالحق العام استغرق وقتاً طويلاً، ومر بمخاضٍ عسير حملته البشرية من جيلٍ إلى جيل، حتى تبلورت الفكرة ولاحت ملامحها المتمثلة في نقل وظيفة العقوبة من الانتقام الشخصي إلى الانتقام للجماعة، بعد ان ادركت البشرية بأن الضرر الذي تسببه الجريمة لا يقتصر أثره في المجني عليه، بل ان ذلك ينال من أمن المجتمع واستقراره ومصلحته.
فاذا كان المجني عليه يستطيع المطالبة بالحق الشخصي وعقاب الجاني، جراء ما لحقه من ضرر مادي أو معنوي، فان للجماعة مصلحتها وحقها أيضاً في النيل من الجاني لغرض فرض النظام وحماية المجتمع من آثار الجريمة. وللقيام بالمهمة الأخيرة، لا بد من تشكيل هيئة أو كيان أو مؤسسة تأخذ على عاتقها المباشرة بذلك. ومن هنا برزت الحاجة إلى لزوم وجود جهاز يقوم بذلك، لذا فقد أنيط أمر ذلك لجهاز الادعاء العام أو النيابة العامة، وهما يمثلان مرحلة متقدمة ومتطورة في فلسفة العقاب وجبر الضر اعتمدتها الدول.

لم تكن فكرة الادعاء العام معروفة في العراق، إلا بعد ان تأثر الحكم العثماني بالمنجز التشريعي الأوربي، وعلى وجه الخصوص الفرنسي، إذ أصدر قانون أصول المحاكمات الجزائية العثماني، الذي اعتمد نظام الادعاء العام لأول مرة، وشملت أحكامه العراق على اعتبار أنه جزء من الحكم العثماني. وقد ألغى الاحتلال البريطاني هذا القانون عندما شرع قانون أصول المحاكمات الجزائية البغدادي 1919. وتتالت النصوص القانونية لهذا النظام تعديلاً أو تبديلاً حتى استقرت أحكامه على القانون رقم 159 لسنة 1979، الذي هو أثر من آثار قانون اصلاح النظام القانوني رقم 35 لسنة 1977، الذي اعتمده النظام السابق في فلسفته التشريعية. ومن قراءة لأحكام الباب الثاني من قانون الادعاء العام المدرج تحته عنوان (مهام الادعاء العام) بفصوله الثلاثة، نجده قد جاء بمبادئ عدة، ندرج أدناه أهم المبادئ تلك، وعلى الوجه الآتي:

أولاً – لا يتمتع الادعاء العام بصلاحيات تحقيقية، لكون التحقيق في الجرائم من صلاحيات الجهاز القضائي (قضاة التحقيق) حسب نصوص قانون أصول المحاكمات الجزائية، ولكن قد يقوم الادعاء العام بالتحقيق في الجرائم ويقوم مقام قاضي التحقيق في الكشف عن محل الحادث عند غياب الأخير، وتزول هذه الصلاحية – عن عضو الادعاء العام – عند حضور قاضي التحقيق- المادة 3 من قانون الادعاء العام. أي أن وظيفة الادعاء العام هي المراقبة والمتابعة لإجراءات التحقيق والطعن فيها إذا تولدت القناعة لذلك. يضاف إلى ذلك لزوم حضوره جلسات المحاكم الجزائية (الجنايات والجنح) المادة 9 من القانون. خلافاً للأحكام العامة التي تتمتع بها النيابة العامة في فرنسا ومصر، فهي هناك سلطة تعقيب وتحر، أي أنها سلطة تحقيقية بكامل الصلاحيات، حيث يبدأ عملها من اللحظات الأولى لجمع الادلة والكشف محل الحادث والتحري حتى الحكم على المتهم وتنفيذ العقوبة.

ثانياً – ان رقابة الادعاء العام لا تقتصر على مراقبة التحريات والمساهمة مع محاكم التحقيق والشرطة في جمع الأدلة التي تلزم التحقيق والوسائل المتخذة للكشف عن معالم الجريمة، واحالة المتهم إلى المحكمة المختصة، وحضور جلسات المحاكم الجزائية، بل ان المراقبة العامة للمشروعية المناطة بها تمتد إلى حماية الدولة ونظامها وأمنها وأموالها، فضلاً عن الاسهام في حماية الأسرة والطفولة. وهذا ما يجعل نظام الادعاء العام لدينا يختلف عن نظام النيابة العامة الذي ينحصر اختصاصها في الجانب الجزائي حسب.

ثالثاً – الادعاء العام يساهم مع محاكم التحقيق والشرطة في الكشف السريع عن الجرائم ومرتكبيها واحالتهم إلى المحاكم الخاصة لغرض اصدار الحكم العادل بحقهم وتنفيذه، بما يحقق الأهداف المرسومة لفلسفة العقوبة. أي ان الادعاء العام هنا مجرد (مساهم) في عمل قام به قضاة التحقيق والمحققون القضائين والشرطة، وليس صاحب قرار في الشروع في التحقيق والاستمرار فيه والاحالة – رغم الجانب الرقابي له -، خلافاً لأحكام النيابة العامة التي هي صاحبة القرار في اجراء التحقيق والاستمرار فيه، واحالته إلى المحكمة المختصة، والوقوف في المحكمة المختصة باعتبارها خصماً للمتهم مطالبة بايقاع أقسى العقوبات عليه، لكون النظام القانوني للنيابة العامة مبنيا على أساس (التعقيب والتحري)، وليس على أساس المراقبة.

رابعاً – الادعاء العام لدينا ليس خصماً للمتهم – كما يحلو للبعض تصور ذلك -، فهو مترفع ونزيه عن خصومة المتهم، لأن رائده أولاً وأخيراً تحقيق العدالة – وهذا ما تحكمه النصوص القانونية -، فاذا وجد الادعاء العام – على سبيل المثال – ان مبادئ العدالة توجب الإفراج عن المتهم، لكون الأدلة المقدمة في الشكوى غير كافية للإدانة فإنه ينحاز إلى جانب المتهم يطلب الافراج عنه لعدم كفاية الأدلة، لا بل أنه يطلب الحكم بالبراءة، ابتداء إذا تحققت أسبابها، بخلاف الأحكام المتعلقة بالنيابة العامة التي تتعقب المتهم لآخر مرحلة من مراحل الشكوى. اذ لا نظير لديها لما هو موجود لدى الادعاء العام لدينا، فالمتهم هناك خصم للنيابة العامة، خصم من لحظة المبادرة بالتحقيق، أي من الأدوار الأولى للتحقيق ولغاية الطلب بالحكم عليه أمام محكمة الموضوع وباصرار معهود، رغم ان بعض شراح القوانين الجزائية يحاولون تلطيف الخصومة في سلوك النيابة العامة أزاء المتهم، ويطلقون عليها وصف (الخصومة الحيادية)، إلا أن هذا الوصف لا يلغي الخصومة المعلنة للنيابة العامة ضد المتهم أولاً، ولكون الخصومة انحيازا يخلو من عنصر الحياد . ثانياً. وتأكيداً على مبدأ ان الادعاء العام ليس خصماً للمتهم هي الأحكام المتعلقة برد وتنحي عضو الادعاء العام، اذ بالإمكان المتهم ان يطلب تنحيته أو رده لمجرد خروجه عن الحياد.

خامساً – النصوص القانونية الجزائية تقيد حركة الادعاء العام ان لم تكبلها، فالدعوى بالحق العام المخول باقامتها، لا يمكن للادعاء العام تحريك الشكوى إلا بالأذن من المرجع المختص على وفق ما يتطلبه القانون في أحيانٍ عدة، أي ليس للادعاء العام حرية تحريك الشكوى – رغم نهوض الحق العام فيها – ما لم يكن لديه أذنً من الجهة التي قصدها القانون، وغياب الأذن يعني عدم امكانية اقامة الشكوى بسبب المانع القانوني، وهذا ما تفصح عنه أحكام المادة 2 / أولاً من قانون الادعاء العام هذا من جهة، أما من جهة أخرى فلا صلاحيات لديه لتحريك الشكوى في الجرائم المنصوص عليها في المادة 3 من قانون أصول المحاكمات الجزائية إلا بناءً على شكوى من المجني عليه أو من ينوب عنه قانوناً، ومنها على سبيل المثال جرائم السرقة والاغتصاب واتلاف الأموال وانتهاك حرمة الملك، وسواها من الجرائم الأخرى المنصوص عليها قانوناً.

سادساً – يفهم البعض ان الادعاء العام مخول قانوناً بالتحقيق في الجرائم حال وقوعها. وهذا الفهم لا سند له من القانون لعدم وجود النص القانوني الذي يلزمه بذلك، لكون المباشر بالتحقيق في الجرائم حال وقوعها من صلاحية قضاة التحقيق، او النيابة العامة في الدول التي تعتمدها كما ذكرنا أعلاه. ووظيفة الادعاء العام المساهمة والمراقبة، اذ لا يبدأ عمل الادعاء العام إلا بناء على شكاوى المواطنين المقدمة اليه مباشرة، أو المحالة اليه من الجهات المختصة، إذ يبدأ التحقيق فيها مساهمة مع قاضي التحقيق وليس بشكلٍ منفرد، المادة 7 / أولاً من قانون الادعاء العام.

سابعاً – يمارس الادعاء العام اختصاصاته القضائية أمام المحاكم الجزائية أو أمام المحاكم المدنية أو أمام محاكم الأحوال الشخصية، بشكلٍ مستقل عن الأجهزة القضائية التي يمارس نشاطه أمامها أو الأجهزة الأخرى في الدولة. وهذا يعني ان المحاكم وأجهزة الدولة ذات العلاقة لا يجوز لها التدخل في أعمال الادعاء العام، كما لا يحق لها فرض أي رأي مخالف لقناعات الادعاء العام، كما ليس لها أن توجه نقداً أو عتاباً لعضو الادعاء العام، فضلاً عن انها لا يحق لها تقييد حريته أو منعه من مناقشة الشهود والخبراء، فضلاً عن المتهمين. في حين ان النيابة العامة لا اختصاص لها امام المحاكم المدنية او محاكم الاحوال الشخصية.

من كل ما تقدم فإن الادعاء العام ليس بسلطة مسؤولة عن التحقيق في الجانب الجزائي، بل انه يحرك الشكوى (مشتكي) أو (مخبر) مضاف إلى وظيفته الرقابية والمساهمة والمتصدية لقرارات وأحكام المحاكم الجزائية. وان مطالبتها بالقيام بعمل ما كلما حلت بنا نائبة يجعلها فى حرج كبير أمام المطالبات المشروعة والملحة، لكون النصوص القانونية التي تنظم أعمالها لا تخولها صلاحية المباشرة بالتحقيق كونها ليست جهة تحقيقية، وان التحقيق في الجرائم منوط بقاضي التحقيق وكما هو مبسوط أعلاه.
مما تقدم نستنتج ان التعامل مع الجرائم ومرتكبيها يمر بنظم مختلفة، وهي الادعاء العام والنيابة العامة وقضاة التحقيق، وان نظام التحقيق لدينا وبقضاته لا يقل كفاءة عن نظام النيابة العامة، ومشهود له بالحزم في الكشف عن الجرائم وتعقيب المتهمين. فلدينا قضاة تحقيق يتمتعون بمهنية وحرفية موازية لما يتمتع بها النائب العام في نظام النيابة العامة. ومن أجل نجاعة مبدأ الكفاءة لدى قضاة التحقيق،

ومن أجل أداء أفضل بغية الوصول إلى كشف الجريمة ومرتكبيها، لا بد من تحقق الأمور التالية:
أولاً – تعزيز مبدأ استقلال القضاة، وذلك بمنع التدخل في أعمالهم من قبل السلطتين التنفيذية والتشريعية والأحزاب السياسية ورجال المال ورجال الدين وسواهم، فضلاً عن تدخل رؤسائهم في السلطة القضائية.
ثانياً – تعزيز دور التدريب المستمر لقضاة الإدعاء العام من خلال الدورات التدريبية داخل العراق وخارجه، لتزويدهم بالمهارات المطلوبة لاستخدام أحدث الأساليب العلمية في التحقيق واعتماد التكنولوجيا الحديثة.
ثالثاً – يجب أن لا يبقى قاضي التحقيق في مكان العمل الذي يعمل فيه مدة تزيد على الأربع سنوات، للحيلولة دون ترسخ العلاقات مع الجهات الساعية لثلم استقلال القضاء.