مقال قانوني عن اهمية التحكيم في المنازعات البحرية

عمر مشهور حديثة الجازي*

نشرة التحكيم التجاري الخليجي – العدد 25 – ديسمبر 2002

مقدمــــــة

من المتفق عليه تقسيم أمور الملاحة البحرية إلى أمور جافة (Dry) وأمور غير جافة (Wet) حيث إن المقصود بأمور الملاحة الجافة هي كل ما يتعلق بالاستخدامات التجارية للسفن في حين أن أمور الملاحة غير الجافة هي كل ما يتعلق بالحوادث البحرية. وعليه فإن أمور الملاحة الجافة هي غالباً ما تتعلق بالعقود أما بالنسبة لأمور الملاحة غير الجافة فمنازعاتها في الغالب تقوم على أساس المسؤولية غير العقدية أي التقصيرية (Tort) ومثال على ذلك حالات التصادم بين السفن.

إن للملاحة غير الجافة أربعة أنواع أساسية هي: التصادم (Collision)، المساعدة البحرية والإنقاذ (Salvage)، المصادرة (Arrest)، وتحديد المسؤولية (Limitation). بالنسبة لتحديد المسؤولية فإن مالك السفينة يحق له تحديد سقف مسؤوليته بموجب معاهدة دولية تجاه الخسارة أو الضرر الذي قد يكون مسؤولاً عنه حتى حدود مبلغ معين يحسب حسب حمولة السفينة ذاتها.

أما بالنسبة لأنواع الملاحة الجافة فإن لها عدة أنواع تتباين بين سفن الركاب، حتى سفن الحمولة السائبة أو الجافة مروراً بناقلات المواشي. ومن الناحية العملية فإن معظم المنازعات التي تنتج عن هذه الاستخدامات التجارية تكون محكومة بعقود وهي في الغالب إما أن تكون عقود مشاركة إيجار السفن (Charterparties) سواء لرحلة أو لمدة معينة من الزمن، أو سندات الشحن (Bills of Lading)، أو قد تكون عقود بيع وشراء أو حتى صيانة السفن.

أغلبية التحكيم البحري تتعلق بـ (Tramp Shipping) أي السفن الجوالة غير التابعة لخطوط بحرية منتظمة. كما أن الغالبية العظمى من تحكيم المنازعات البحرية لا تخضع للتحكيم المؤسسي وإنما يتم ذلك عن طريق التحكيم غير المؤسسي (Ad hoc)، وتعتبر لندن ونيويورك من أكثر المدن في العالم التي تحتضن هذا النوع من التحكيم، وتليهما باريس وطوكيو، ففي لندن وحدها يتم إصدار أكثر من أربعمائة حكم تحكيم بحري في كل عام.

أسباب رواج التحكيم البحري:

تاريخياً، أغلب المنازعات الملاحية العقدية كانت تتم تسويتها عن طريق التحكيم لميل أطراف هذه المنازعات للسرية والمرونة في الإجراءات التي يتميز فيها التحكيم عن غيره من وسائل تسوية المنازعات. وقد ساعد على ازدهار التحكيم البحري ورواجه في أسواق التجارة البحرية كنظام قانوني لحل منازعاتها عدة اعتبارات يمكن تلخيصها فيما يلي:

1 – رغبة الممارسين للأنشطة البحرية المختلفة في تسوية المنازعات الناشئة عن علاقاتهم البحرية التعاقدية وغير التعاقدية تسويةً بحريةً عادلةً تنبع من واقع المجال المهني المتخصص الذي يعملون فيه وهو مجال التجارة البحرية.
2 – رغبة أطراف العلاقات البحرية في حل منازعاتهم في سرية لا توفرها لهم المحاكم الوطنية سواء بالنسبة لسرية الإجراءات أو بالنسبة لسرية الحكم الصادر عنها.
3 – رغبة أطراف العلاقات البحرية في حل منازعاتهم بسرعة لا تتوفر لهم في المحاكم الوطنية في الدول المختلفة والتي هي مثقلة أصلاً بأعداد كبيرة من القضايا.
4 – دولية النشاط البحري نظراً لاختلاف جنسية الناقل عن جنسية الشاحن عن جنسية السفينة في أغلب الأحيان، ونظراً لارتباط الأنشطة البحرية بانتقال البضائع والأموال والخدمات من دولة إلى أخرى، صفة الدولية هذه تتماشى مع طبيعة التحكيم ومرونته.
5 – ازدياد تدخل الدولة وأشخاصها المعنوية العامة في ممارسة الأنشطة البحرية بوصفها من أهم الأنشطة الاقتصادية التي قررت الدول المختلفة الدخول فيها، ويترتب على ذلك رغبة أطراف المعاملات البحرية باستبعاد اختصاص القضاء الوطني خوفاً من مسايرة هذا القضاء لمصالح الدول الأطراف في العلاقات البحرية.

المنازعات الناشئة عن العقود البحرية

1 – عقود مشارطة إيجار السفن لمدة معينة (Time Charterparties):
هذه المنازعات غالباً ما تثور حول مسؤولية مالك السفينة أو المستأجر عن خسارة معينة تحققت خلال مدة عقد المشارطة. مثال على ذلك النزاع الذي يثور حول تحديد مسؤولية المستأجر عن ضرر لحق بالسفينة المستأجرة.

2 – عقود مشارطة إيجار السفن لرحلة معينة (Voyage Charterparties):
وقد تثور هذه المنازعات لتحديد مسؤولية مستأجر السفينة أو مالكها بخصوص خسارة معينة، أو بالنسبة لمنازعات سلامة الموانئ والمراسي للشحن والتفريغ، أو حول حالة السفينة عند تسليمها إلى المستأجر، أو المنازعات المتعلقة بغرامات التأخير (Demurrage).

3 – عقود النقل (Contracts of Affreightment):
بموجب عقد النقل يتعهد الناقل بتنفيذ عدة إرساليات بحرية على سفينة واحدة أو أكثر خلال مدة زمنية متفق عليها وبالتالي قد يثور النزاع حول سلسلة من عقود مشارطة إجارة السفن لرحلة معينة.

4 – سندات الشحن (Bills Of Lading):
يعتبر سند الشحن إحدى وسائل إثبات عقد النقل ذاته بين الناقل وصاحب البضاعة. وبالتالي فإن أكثر النزاعات التي تثور تحت سند الشحن هي تلك المتعلقة بالخسائر والأضرار التي تلحق بالبضاعة خلال الرحلة أو التأخير في وصولها أو عدم وصول البضاعة أو التسليم الخطأ للبضاعة. وقد تثور في هذا الصدد مشكلة إحالة سند الشحن إلى مشارطة الإيجار الصادر بموجبها والمشتملة على شرط التحكيم وما إذا كانت الإحالة العامة إلى نصوص المشارطة تكفي لاندماج السند في المشارطة أم تلزم الإحالة الخاصة لشرط التحكيم الوارد بها؟ بالرجوع إلى نصوص قانون التحكيم الأردني الجديد رقم (31) لسنة 2001 نجد أن نصوص هذا القانون تؤكد على أنه إذا كانت الإحالة واضحة وصريحة إلى الوثيقة المتضمنة لشرط التحكيم، فإن شروط التحكيم الموجود في مشارطة إيجار السفينة تسري على سند الشحن، وبموجب هذه الإحالة يعتبر سند الشحن متضمناً لاتفاق التحكيم. أما إذا كان الأمر يتعلق بإشارة عامة وغير صريحة فهذا لا يكفي للإحالة. فالقاعدة إذن هي ضرورة توافر نص يشير إشارة واضحة وصريحة للإحالة وذلك يستفاد من نص المادة (10/ ب) من القانون السالف الذكر التي اعتبرت كل إحالة في العقد إلى أحكام عقد نموذجي أو اتفاقية دولية أو أي وثيقة أخرى تتضمن شرط تحكيم جزءاً من هذا العقد شريطة أن تكون هذه الإحالة واضحة وصريحة. لا بد من الإشارة هنا إلى نص م/ 215 ن قانون التجارة البحرية حيث نصت الفقرة (ب) من هذه المادة على بطلان كل شرط واتفاق ينزع اختصاص المحاكم الأردنية في النظر في الخلافات الناشئة عن وثائق الشحن أو النقل البحري. والتساؤل الذي يطرح نفسه هنا هل تعتبر المادة عائقاً أمام أطراف العملية البحرية في اللجوء إلى التحكيم عوضاً عن القضاء الأردني أم أنهم يستطيعون تجاهل هذا النص القانوني وتسوية منازعاتهم البحرية عن طريق التحكيم باعتبار أن المادة المذكورة لا تعتبر من النظام العام وبالتالي يمكن مخالفتها. الإجابة على هذا التساؤل تتلخص بأنه لا يعقل أن يكون هذا النص عائقاً أمام إرادة الأطراف الحرة في الاتفاق على التحكيم كوسيلة لفض منازعاتهم البحرية، خصوصاً أن الأردن يرتبط بمعاهدات دولية تسمو على القانون الوطني وهي بدورها تؤكد مبدأ سلطان الإرادة في هذا المجال وتعززه وهذا ما استقر عليه الفقه والقضاء بشكل عام.

5 – بيوع السفن المستعملة (Second – hand ship Sales):
غالباً ما يكون هناك عقود نموذجية تستخدم من أجل هذا النوع من البيوع مثل العقود النرويجية (Norwegian Saleform)، وأكثر النزاعات في هذه الحالة تدور حول حالة السفينة عند تسليمها إلى المشتري.

6 – عقود بناء السفن وإصلاحها (Shipbuilding Contracts):
والنزاعات تثور هنا حول مدى مطابقة السفينة عند الانتهاء من بنائها لمواصفات العقد المتفق عليها مسبقاً بين طرفيه.

7 – عقود التأمين وإعادة التأمين (Insurance):
قد تثور بعض المنازعات المتعلقة بالجوانب التأمينية خصوصاً بين المؤمنين الذي يحلُّون محل المستفيدين الأصليين عملاً بمبدأ الحلول في التأمين (Subrogation).

8 – منازعات ملاحية أخرى (Associated Marine Matters):
قد تثور منازعات أخرى لها علاقة بالأمور الملاحية مثل الدعاوى ضد مزودي السفينة أو المنازعات مع سلطات الموانئ.

المنازعات الناشئة عن الحوادث البحرية

1 – التصادم البحري (Collision):
بسبب طبيعة التصادم البحري لا يتخيل المرء وجود عقود مسبقة بين الأطراف تلزم بتسوية النزاع عن طريق التحكيم في حالات التصادم البحري، وعليه فإن تسوية هذه النزاعات تتم باللجوء إلى المحاكم المختصة. وهناك مسألتان أساسيتان تبرزان عند حدوث أي تصادم بحري هما: المسؤولية والتعويضات. فبالنسبة للمسؤولية فإن النزاع يثور حول تحديد هوية السفينة المتسببة بالتصادم موضوع الدعوى بناءً على البينات المتوفرة، ففي إنجلترا مثلاً يحدد القاضي المختص بالمنازعات البحرية هذه المسألة بمساعدة أهل الخبرة المعينين إلى جانبه للمساعدة في هذه المسألة حيث يطلق عليهم تسمية (Elder Brethern). وبعد ذلك يتم تحديد المبالغ الملائمة للتعويض عن الأضرار الناتجة عن التصادم البحري.

2 – المساعدة البحرية والإنقاذ (Salvage):
الغالبية العظمى من عمليات المساعدة والإنقاذ البحري تتم من خلال عقود نموذجية مخصصة لذلك مثل (Lloyd’s ” LOF ” Standard Form of Salvage Agreement)، حيث يعتبر توقيع ربان السفينة على هذا النموذج إقراراً بمسؤولية مالك السفينة عن دفع نفقات هذا الاتفاق دون تحديد قيمة هذه النفقات والتي غالباً ما يتم تحديدها عن طريق التحكيم الذي يجرى حسب القواعد المقررة لذلك والمرفقة غالباً بهذا النموذج (LOF).

3 – تحديد المسؤولية (Limitation):
قد يرغب صاحب السفينة بتحديد مسؤوليته الناتجة عن حادث معين، وعليه تثور المنازعات حول تحديد هذه المسؤولية.
4 – المنازعات الخاصة بتسوية الخسارات البحرية المشتركة (Average Loss):
فقد تثور بعض المنازعات بخصوص تحديد هذا النوع من الخسارات.

دولية المنازعات البحرية

يندر أن يكون أطراف المنازعات البحرية من جنسية واحدة، وغالباً ما يكون أطراف النزاع غرباء عن مكان التحكيم المختار. ففي الناحية العملية تكون السفينة حاملة لعلم دولة غير الدولة التي تتبعها الشركة المالكة للسفينة، وفي الوقت نفسه تقوم السفينة ذاتها بنقل بضائع بين موانئ دول أخرى. لهذه الأسباب مجتمعة يمكننا القول بأن التحكيم البحري هو بحق تحكيم دولي.

أطراف التحكيم البحري وتمثيلهم

في معظم الحالات يكون مالكو السفينة ومستأجريها هم أطراف هذا النوع من التحكيم وفي بعض الحالات قد يكون بائعو السفن أو مشتريها وبالمقابل قد تكون نوادي الحماية والتعويض (Protecting and Indemntiy Clubs ‘P & I’) طرفاً في التحكيم البحري حيث تقوم هذه النوادي بتوفير التأمين ضد الغير ومثال على ذلك التأمين ضد الضرر أو الخسارة التي قد تلحق بالبضائع، أو التأمين البحري ضد الحوادث البحرية المختلفة. ونظراً لطبيعة الغطاء التأميني الذي توفره نوادي الحماية والتعويض وحيث إن معظم نشاطاتها تتعلق بدعاوى المسؤولية التقصيرية أو المنازعات الناتجة عن عقود لا تشتمل عادةً على بنود تحكيمية فإن هناك القليل من هذه المنازعات التي تتم تسويتها عن طريق التحكيم. وعلى العكس فإن نوادي الدفاع (Defence Clubs) لا تقوم بتأمين هذا النوع من المسؤولية، حيث تقوم هذه النوادي بتأمين النفقات القانونية لأعضائها في حالة إقامة الدعاوى أو الدفاع. وفي هذا الصدد فإن أعضاء هذه النوادي لا يملكون الحق المطلق في هذه النفقات القانونية حيث تخضع هذه النفقات للسلطة التقديرية لنوادي الدفاع.

شروط التحكيم

معظم العقود الملاحية قائمة على عقود نموذجية أو عقود سابقة أًبرمت أصلاً استناداً إلى هذه العقود النموذجية، ومعظم هذه العقود تحتوي على شروط تحكيم، التي تحدد بدورها عدد المحكمين وطريقة تعيينهم، ومكان التحكيم، والأمثلة على هذه الشروط كثيرة منها:
The Baltime Clause, the Centrocon Clause, the New York Produce Exchange Form Clause, the Asbatankvoy Clause, the Norwegian Saleform Clause, and the LMAA Clause.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، ما هو شرط التحكيم الأمثل للمنازعات البحرية ؟
للإجابة على هذا التساؤل لا بد من التأكيد بأنه لا شك أن تعيين محكم منفرد للنظر في النزاع البحري يساهم إلى درجة كبيرة في سرعة الإجراءات والتوفير في النفقات. وهناك بعض شروط التحكيم التي تنص على تعيين محكمين اثنين وفيصل. وفي كثير من القضايا قد يتفق الطرفان على تسوية النزاع عن طريق المحكمين المسميين من قبلهما دون تعيين رئيس لهيئة التحكيم حيث يتم الاتفاق على الحكم عن طريق الوثائق فقط دون عقد جلسات وهذا الإجراء يستخدم في ما يقارب 80 % من التحكيم البحري في لندن والبعض الآخر من الشروط تنص على شروط يجب توافرها في المحكم المعين وسنحاول أن نستعرض فيما يلي أهم مراحل إجراءات التحكيم البحري.

طلب التحكيم

بعد تشكيل هيئة التحكيم البحري وذلك باختيار أعضائها بواسطة أطراف النزاع أو بواسطة الغير وفقاً لشروط لا بد من توافرها في المحكم البحري أهمها: تخصص المحكم البحري واستقلاله وحيدته، بعد هذا كله تبدأ إجراءات التحكيم البحري وذلك بتقديم طلب تحكيم بواسطة طالب التحكيم الذي يقوم بدور المدعي في الإجراءات التحكيمية. وتختلف إجراءات تقديم طلب التحكيم تبعاً لنوع التحكيم، سواء أكان التحكيم البحري مؤسسياً (Institutional) أو حراً (Adhoc).

وعادةً ما يتضمن الطلب على بيانات مختلفة منها تحديد موضوع النزاع بإيجاز، وتعيين المدعى عليه، ويرفق به كذلك بياناً بكافة المستندات التي توضح سبب تقديم الطلب وطلبات المدعي وذلك في عدد من النسخ مساوٍ لعدد أطراف النزاع. وينبغي على طالب التحكيم أن يقدم طلبه هذا في الميعاد المقرر قانوناً أو اتفاقاً، وذلك حتى لا يتعرض حقه في تقديم الطلب للانقضاء بمضي المدة أو التقادم.

مكان التحكيم

يقصد بمكان التحكيم ذلك المكان الذي يجب أن يصدر فيه حكم التحكيم البحري، والذي هو عادةً مكان اتخاذ الإجراءات التحكيمية. أما إذا تم التحكيم في أماكن متعددة، فإنه يجب اختيار مكان واحد للتحكيم قانوناً وهو مكان إصدار حكم التحكيم. ولاختيار مكان التحكيم أهمية متعددة؛ منها ما يمكن أن يشكله هذا المكان كعامل حاسم في تحديد جنسية حكم التحكيم الصادر وما يتبع ذلك من نتائج قد تمس عملية تنفيذ حكم التحكيم. كما يشكل مكان التحكيم عاملاً مهماً في تحديد القانون الواجب التطبيق على عدد من المسائل الهامة التي يثيرها التحكيم حيث قد يعترف لقانون مكان التحكيم بالفصل فيما إذا كان اتفاق التحكيم صحيحاً، وكيفية تشكيل هيئة التحكيم، وكيفية إدارته، كذلك يشكل مكان التحكيم عاملاً هاماً في تقدير حجم العلاقة بين المحاكم الوطنية والتحكيم، ومدى تدخل هذه المحاكم في إجراءات التحكيم سواء بالمساعدة كما هي الحالة في اتخاذ الإجراءات التحفظية أم بالإشراف كالفصل في صحة العقد الأصلي.

وفي أغلب الحالات في الممارسات التحكيمية البحرية يتم تحديد مكان التحكيم بواسطة الأطراف مباشرةً أو بالعهود بالتحكيم إلى مركز تحكيم بحري مؤسسي يجرى التحكيم في مقره، أو بموجب لائحة تحكيم مركز تحكيم بحري تحدد هذا المكان، فإرادة الأطراف المشتركة هي العامل الأساسي في تحديد مكان التحكيم في الممارسات التحكيمية البحرية.

تحديد مهمة المحكم البحري واختصاصه

ينبغي على هيئة التحكيم، وقبل النظر في النزاع، أن تحدد مهمتها واختصاصها من حيث وجود هذا الاختصاص وصحته ونطاقه من حيث الأشخاص والموضوع، وذلك بالاتفاق مع مركز التحكيم المؤسسي أو مع الأطراف أو مستشاريهم، ومن خلال الوثائق والمستندات المقدمة، فإن تم الاتفاق على كل ما سبق ذكره تم البدء في نظر النزاع، وواصلت إجراءات التحكيم سيرها حتى إصدار حكم التحكيم. وإذا لم يتم الاتفاق فإن هيئة التحكيم تكون أمام عقبات تهدد اختصاصها ويمكن إرجاع ذلك إلى سببين:

السبب الأول: وهو المنازعة في وجود أو صحة العقد الأصلي الذي يحوي شرط التحكيم بين بنوده، والادعاء بتأثير عدم وجود أو عدم صحة العقد الأصلي على شرط التحكيم المعتبر بنداً من بنود هذا العقد غير الموجود أو غير الصحيح لارتباط مصيره بمصير العقد الأصلي، وهذه العقبة تتم مداراتها عن طريق الاعتراف باستقلالية شرط التحكيم البحري عن العقد الأصلي (Severability)، وقد أخذت معظم لوائح وأحكام التحكيم البحري بهذا المبدأ،

أما السبب الثاني فيتمثل بالخطر المتمثل بالمنازعة في عدم وجود أو عدم صحة اتفاق التحكيم ذاته الذي يستمد منه المحكم البحري ولايته واختصاصه، أو المنازعة في تجاوز المحكم لاختصاصه نتيجة عدم شمول اتفاق التحكيم للمنازعة المنظورة. وهذا السبب يدعو للتساؤل عن جواز فصل هيئة التحكيم في ولايتها أو اختصاصها عن طريق فصلها في المنازعة في عدم وجود أو عدم صحة اتفاق التحكيم نفسه، أو في المنازعة في نطاق هذا الاختصاص والذي لو أجيز فإنها حول هذه المنازعات إنما تفصل في وجود اختصاصها أو في نطاقه وهو ما يعرف بمبدأ الاختصاص بالاختصاص (Competence – Competence) والذي أخذت به المعاهدات الدولية إلى جانب قوانين التحكيم الوطنية الحديثة، كما اعترفت به معظم لوائح التحكيم البحري.

سير إجراءات التحكيم البحري

هناك بعض المبادئ المستقرة التي تحكم سير إجراءات التحكيم البحري، يمكن تلخيصها بما يلي:
أولاً: حرية الأطراف في الاتفاق على القواعد التي تحكم هذا السير سواء أكان التحكيم البحري مؤسسياً أم حراً. وقد ضمن قانون التحكيم الأردني الجديد هذا الحق في المادة (24) منه حيث أجازت لطرفي التحكيم الاتفاق على الإجراءات التي تتبعها هيئة التحكيم بما في ذلك حقهما في إخضاع هذه الإجراءات للقواعد المتبعة في أي مؤسسة أو مركز تحكيم في المملكة أو خارجها.

ثانياً: حرية هيئة التحكيم البحري في تسيير هذه الإجراءات عند عدم اتفاق الأطراف، وهي في تسييرها لهذه الإجراءات لا تتقيد أساساً بالإجراءات المعمول بها في المحاكم الوطنية، وذلك لأن مصدر سلطات المحاكم الوطنية هو القانون في حين يجد المحكم مصدر سلطاته في اتفاق الأطراف.

ثالثاً: قيام علاقة تعاون بين هيئة التحكيم البحري والمحاكم الوطنية، وذلك فيما لا تستطيع هيئة التحكيم تنفيذه من اتخاذ إجراءات وقتية أو تحفظية.

القانون الواجب التطبيق على موضوع النزاع البحري

يتمتع أطراف المنازعات البحرية بحرية كاملة في تحديد القانون الواجب التطبيق على موضوع النزاع، وذلك في اتفاق التحكيم المبرم بينهم. ولعل اختيار الأطراف لهذا القانون هو تطبيق للمبادئ المقررة في معظم التشريعات المقارنة عند معرض تنظيمها لقواعد تنازع القوانين في العلاقات التعاقدية ذات العنصر الأجنبي، إذ تقر هذه التشريعات الأولوية إرادة الأطراف المتعاقدة الصريحة أو الضمنية لاختيار القانون الواجب التطبيق على موضوع النزاع طالما لا ينطوي ذلك على مخالفة للقواعد الآمرة والمتعلقة بالنظام العام في الدولة المعنية أو أن يكون هذا الاختيار مشوباً بالغش تجاه القانون الذي كان من المفروض تطبيقه على موضوع النزاع. وهكذا تلتزم هيئة التحكيم البحري بتطبيق القانون الذي اتفق الأطراف على وجوب تطبيقه على موضوع النزاع صراحةً، فإذا لم يتفقوا على هذا القانون صراحةً في اتفاق التحكيم جاز لهيئة التحكيم أن تبحث عن الإرادة الضمنية لهؤلاء الأطراف.

أما إذا لم يحدد أطراف العلاقة البحرية القانون الواجب التطبيق على موضوع النزاع صراحةً أو ضمناً، انتقلت الحرية التي كانت موكولة إليهم في هذا الشأن إلى هيئة التحكيم البحري حيث تتمتع بحرية تحديد هذا القانون الذي ربما يكون قانوناً وطنياً أو غير وطني طبقاً لما تراه هيئة التحكيم مناسباً للفصل في موضوع النزاع. ولكن هذه الحرية الموكولة لهيئة التحكيم في هذا الشأن قد قيدت بواسطة معاهدة هامبورج لعام 1978 المتعلقة بالنقل البحري الدولي للبضائع والتي تعد أول نص دولي يتعلق بالتحكيم البحري بوجهٍ خاص. وهذا القيد يتمثل بما نصت عليه الفقرة الرابعة من م/ (22) من المعاهدة التي ألزمت هيئة التحكيم البحري بتطبيق قواعد المعاهدة على التحكيم، وحيث إن معاهدة هامبورج هي معاهدة دولية بشأن النقل البحري الدولي بسند شحن، فإن نطاق تطبيقها يشمل جانباً واحداً فقط من المنازعات محل التحكيم البحري في حين تبقى الحرية للمحكم البحري في تحديد القانون الواجب التطبيق على موضوع النزاع في غيرها من المجالات البحرية الأخرى. وتجدر الإشارة هنا أن الأردن قد صادق على معاهدة هامبورج في 10 أيار 2001 وقد دخلت المعاهدة حيز التنفيذ في 1 حزيران 2002.

ويمكن القول في هذا الخصوص إن مسألة تحديد القانون الواجب التطبيق على موضوع النزاع البحري لا تثير مشاكل كبرى كما هي الحالة عند تحديد القانون الواجب التطبيق على موضوع النزاع التجاري بصفة عامة وذلك للأسباب الآتية:

أولاً: أن المجال البحري هو مجال غني بالمعاهدات الدولية البحرية، والتي جاءت موحدة لكثير من القواعد البحرية بين الدول المختلفة في المجالات البحرية المختلفة. كما أن هذه المعاهدات تلبي حاجات أطراف النزاع البحري ليس باعتبارها قوانين وطنية بل باعتبارها تشريعات دولية تعد مصدراً من مصادر القانون البحري الدولي.

ثانياً: أن المجال البحري مجال مهني متخصص يتميز بنوع النشاط الذي يدور فيه، وهو نشاط له خصوصيته واستقلاله والتي تفرقه عن غيره من المجالات الأخرى. وهذه الخصوصية أدت بالمجتمعات القائمة على المجال البحري إلى تذليل الصعوبات الناشئة عن الملاحة البحرية بتجميع القواعد الواجب مراعاتها في جميع فروع النشاط البحري.

ثالثاً: أن المجتمع البحري مجتمع مغلق ساعدت الظروف التاريخية على سيطرة بعض المراكز التي يتركز فيها هذا النوع من النشاط، واتخاذها عنواناً لأعمال التحكيم البحري كلندن ونيويورك وباريس.

حكم التحكيم البحري الدولي

إذا تم إقفال باب المرافعة قامت هيئة التحكيم البحري بمفردها أو بالتعاون مع مركز التحكيم البحري المؤسسي بإجراء المداولات والمناقشات السرية لإعداد الحكم وإعادة صياغته شكلاً وموضوعاً، فإذا تم إعداده قام المحكمون أو مركز التحكيم البحري المؤسسي بإصداره وإعلامه للأطراف في الميعاد المقرر لذلك اتفاقاً أو قانوناً.

ويتمثل موضوع حكم التحكيم البحري الدولي في النزاع البحري المعهود به إلى المحكمة بموجب اتفاق التحكيم، وقد جرت العادة على أن يفصل المحكمون في نفس الحكم في مصروفات وتكاليف عملية التحكيم. ويترتب على إصدار حكم التحكيم البحري أن يستنفذ المحكمون ولايتهم في الفصل فيما فصل فيه الحكم، الذي يكتسب حجية الأمر المقضي، ويلقي على عاتق الأطراف التزاماً بتنفيذه بعد صيرورته نهائياً.

وتعد مرحلة تنفيذ حكم التحكيم البحري الدولي من المراحل الهامة التي يمر بها التحكيم حيث يسعى الطرف الرابح إلى استرداد حقوقه التي كان ينازعه فيها الطرف الخاسر الذي إما أن يمتثل للحكم الصادر بالفصل في هذه الحقوق وينفذه طواعيةً واختياراً، أو يرفض هذا التنفيذ الاختياري مما يضطر الطرف الرابح إلى اللجوء إلى القضاء الوطني في الدولة التي يرغب التنفيذ فيها طالباً الأمر بتنفيذه جبراً على الطرف الخاسر.

خاتــــــمة

نخلص إلى القول بأن التحكيم البحري هو نظام قانوني أساسي لا غنى عنه في تسوية المنازعات البحرية وقد تم تطويره من أجل دفع عجلة التجارة البحرية الدولية إلى مزيد من التقدم والازدهار. وقد أضحى هذا النوع من التحكيم فرعاً هاماً من فروع التحكيم التجاري الدولي لكونه يتمتع بالصفة التجارية غالباً وذلك وفقاً للمعايير الضيقة لتجارية الأعمال البحرية المستمدة من طبيعة النشاط البحري، وصفة القائمين بممارسته وكونهم تجاراً ويتمتع بهذه الصفة دائماً وفقاً للمعيار الاقتصادي الواسع لتجارية الأعمال البحرية المستمد من الصفة الاقتصادية لموضوع العلاقة البحرية وكونها تتعلق بعملية تجارية دولية أي بانتقال الأموال والبضائع والخدمات عبر حدود أكثر من دولة، سواء بوشرت هذه العلاقة بين أشخاص خاصة، أو بينهم وبين أحد الأشخاص المعنوية العامة.

دكتور في الحقوق
محامٍ مزاول ومحاضر جامعي غير متفرغ في الأردن