الإشهاد في البيوع لدى كاتب العدل

قبل الحديث عن موضوع المقال أشير إلى موضوع آخر مرتبط به، ما حكم كتابة وثيقة البيع أصلا ؟ ، يرى جمهور العلماء أن كتابة الوثيقة مندوب إليه ورجح ذلك القرطبي وغيره، الجامع لأحكام القرآن ( 3/ 383 ) المنهج الرائق للونشريسي ص 199، ويرى بعض العلماء أن كتابة الوثيقة واجب على كل حال وهو اختيار الطبري في تفسيره (3/119)، ومن العلماء من رجّح وجوب الكتابة إذا كان البيع بدين، وهذا مذهب ابن عمر وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما. وقد استدل الجميع بقوله تعالى: “يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه” حيث ورد في هذه الآية أكثر من أمر بالكتابة، ويرجح الطبري ومن معه بأن هذا الأمر على ظاهره للوجوب، ويقصر أصحاب القول الثالث الوجوب على الصورة الواردة بعينها وهي إذا كان البيع بدين إلى أجل.
وأما الجمهور فإنهم يرون أن الأمر ليس للوجوب بل هو للندب، والصارف لذلك هو أن هناك تعاملات كثيرة من النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته ولم توثق، مما يرجح أن الأمر للندب وليس للوجوب. وقال الشنقيطي في أضواء البيان: “هو أمر إرشاد لا إيجاب” لقوله: “وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتباً فرهان مقبوضة” لأن الرهن لا يجب إجماعاً وهو بدل من الكتابة عند تعذرها في الآية، فلو كانت واجبة لكان بدلها واجباً (1/228).
وفيما يتعلق بموضوع المقال وهو الإشهاد على البيع فقد اختلف الفقهاء أيضا في حكمه هل هو واجب أو مندوب، فمن العلماء من رأى وجوب ذلك وهو قول ابن عمر واختاره الطبري، وقال: “ولا يحل لمسلم إذا باع وإذا اشترى إلاّ أن يشهد وإلا كان مخالفاً كتاب الله”. واستدلوا بظاهر قوله تعالى: “واشهدوا إذا تبايعتم” وأن الأمر هنا للوجوب، ويرى جمهور العلماء أن الإشهاد مندوب إليه غير واجب وهو اختيار ابن العربي والقرطبي وغيرهما، قال القرطبي: “.. وقد باع النبي صلى الله عليه وسلم ولم يُشهد واشترى ورهن درعه عند يهودي ولم يُشهد ولو كان الإشهاد أمراً واجباً لوجب مع الرهن”، كما قرر القرطبي أن هناك صورا صريحة في السنة في ترك الإشهاد .

ومما سبق يظهر أن جمهور العلماء يرون أن كتابة الوثيقة أمر مستحب وأن الإشهاد على البيع كذلك من المستحبات، وقد باع النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته ولم يشهدوا. وهذا الاستعراض لبيان الإطار الفقهي للمسألة، وهو يدل أن الأمر المشار إليه يراد منه حفظ الحقوق بين المتعاملين وحثهم على العمل بما يضبطها، لتقليل المنازعات والمشاحنات بين الناس وهو مقصد إسلامي سام وبالذات في الأحكام المتعلقة بالحقوق. وهذه المسالة ومثلها كثير تعتبر من المسائل المتغيرة من زمن لآخر فينظر فيها إلى المقصد لا إلى الوسيلة التي تمظهر وتشكل فيها المقصد وقت النبي صلى الله عليه وسلم فضلا عن العصور اللاحقة له، فالمقصد- في هذه الصورة – الحفظ والضبط لقطع المنازعات، والوسيلة هي كتابة الوثيقة والإشهاد والرهن في ذلك الوقت.
وتطبيقا على ما سبق يمكن القول – فيما يتعلق بالإشهاد- إنه إذا حصل البيع بين شخصين خارج الدوائر الرسمية فإن السنة – على قول الجمهور – هي الإشهاد على البيع، ويتأكد في عصرنا هذا لما هو معلوم من ضعف الديانة وكثرة إنكار الحقوق، أما إذا كان البيع أمام كاتب العدل فلا حاجة لذلك، لأن التوثيق حصل من موظف رسمي شرعي، وفي دائرة رسمية، ووثق البيع بوثيقة رسمية ووقع عليها وختمها بخاتم الدائرة، وسجلها في سجلاتها، فأي حاجة للشهود حينئذ، وإذا تطلب الأمر- لدى القضاء – بيان بعض الملابسات في البيع فيكتب لكاتب العدل وما يرد منه أقوى – برأيي- من شهادة الشاهدين، كونه هو من وثق البيع كما أنه مختص وعالم بأحكام البيوعات أكثر من الشاهدين، أما إذا كانت الشهادة على واقعة تمت قبل البيع أو بعده فهي خارجة عن محل الصورة التي نشير إليها، وهو مدى الحاجة للشهود أمام كاتب العدل، أما نظاما فلابد من ذلك .