مبدأ المساواة أمام القضاء ليس إهانة
محمد بن سعود الجذلاني

يعتقد بعض الناس خطأ أن القضاء الشرعي في الإسلام يراعي ذوي الهيئات ومن لهم مكانة دينية أو دنيوية، أو وجاهة لسبب من أسباب الوجاهة، وينطلق هذا الفهم الخاطئ من عدة منطلقات غير صحيحة, إذ يحتج أحياناً بالأثر المعروف: ”أنزلوا الناس منازلهم”, أو ينطلق من وجوب توقير أهل الديانة والصلاح، أو العلماء أو العباد. وهذا كله مناف للأساس الذي تقرره الشريعة الإسلامية وأطبق على القول به فقهاء الإسلام دون منازعة, ومضى على العمل به قضاة المسلمين منذ عصر النبوة إلى الخلافة الراشدة وما بعدها من القرون المفضلة, والتابعون لهم بإحسان – رضي الله – عن الجميع ورحمهم ونحن معهم.

وإن من أقبح صور الجهل ما يحدث أحياناً في بعض مجالس القضاء من أناس محسوبين على أهل العلم والديانة, أو ممن يرون لأنفسهم حقاً على القاضي أن يهش َّ لهم ويبش ّ ويقف لهم احتراماً عند دخولهم أو يخفض صوته عند أصواتهم, ولو فعل ذلك لعدّوه من العارفين المحبين لأهل الصلاح, أما إن خالف ظنهم وعدل بينهم وبين خصمهم في المعاملة, ولم يميز أحد الخصمين على الآخر لديانته أو علمه أو انتسابه لأي طائفة لها فضل أو مكانة, فإنهم يصِمونه عند ذلك بأقذع الأوصاف, ويعلنون الإنكار عليه في مجامع الناس ووسائل الإعلام ويدعون إلى بغضه في الله! وكم رأيت أيام عملي في القضاء ورأى غيري من القضاة من يأنف ويتأفف ويضجر حين يرى القاضي يعامله بما يقضي به واجب العدل والتسوية بين الخصمين في مجلس القضاء.

كما رأيت بعضهم يكون داعية معروفاً أو قاضياً سابقاً فيجلس أمام القاضي بكل ثقة واضعاً إحدى رجليه على الأخرى يسوق أقوال الفقهاء في المسألة محل النزاع بطريقة توحي بأنه يعتقد أفضليته وتفوقه على القاضي في العلم والفهم, وتوحي بأنه يرى ضمناً أن القاضي إن خالفه في اجتهاده يكون قد شذ في الفهم وجانبه الصواب, هذا إن لم يتهم القاضي في نزاهته وحياده لأنه يرى من جانبه أن الاجتهاد الذي أخذ به القاضي غير سائغ ولا مقبول. ولا يدري من يتصف بهذه الصفة أنه أحق وأولى من القاضي بوصف عدم الحياد, لأنه يندر أن يتحرر من حظ نفسه وداعي مصلحته الشخصية ويبحث المسألة بتجرد تام دون تأثير لهواه في اجتهاده, خاصة إذا تعلق الأمر بأمله الحصول على أموال تُذهب بعقل اللبيب. وإذا كانت هذه النظرة الفوقية للناس والشعور بالفضل عليهم وانتظار الحصول على تبجيلهم واحترامهم والضجر من فوات ذلك؛ إذا كانت هذه الصفات مذمومة وقبيحة بالرجل العادي فإنها بالمنتسب إلى العلم أو الديانة أقبح ومنه أعظم.

كما أنها إذا كانت في الأحوال العادية قبيحة فإن تطلّبَها في مجلس القضاء والسعي إليها وقت الوقوف إزاء خصم ليس له هذه الحظوة والمكانة أسوأ أثراً وأكثر ظلماً. فقد حرصت الشريعة الإسلامية على الترفع بمجلس القضاء وبأحكامه عن الحيف والجور, وأكدت ضرورة أن يحرص القاضي على البعد عن كل سلوك يطمع الظالم َ في حيفه وييئس المظلوم من عدله.

ومن نفائس ما يروى في هذا الباب أن علياً – رضي الله عنه – خاصم يهودياً إلى عمر – رضي الله عنهما – فحضر الخصمان فنادى عمر علياً بقوله: ” قف يا أبا الحسن – ليقف بجانب اليهودي ـ فبدا الغضب على وجه علي – رضي الله عنه – فقال عمر – رضي الله عنه: أكرهت أن نسوي بينك وبين خصمك في مجلس القضاء؟ فقال: لا, لكني كرهت منك أن عظمتني في الخطاب وناديتني بكنيتي”, كما روي عن عمر بن الخطاب وعن ابن أبي كعب رضي الله عنهما أنهما اختصما في حادثة إلى زيد بن ثابت، فألقى لعمر بن الخطاب وسادة: فقال عمر رضي الله عنه: ”هذا أولُ جورك”, وجلس بين يديه ولم يجلس على الوسادة.

فكيف يبتغي بعد ذلك أي أحد أن يحظى في مجلس القضاء الشرعي بميزة أو زيادة ِ بشاشة وترحيب من القاضي؟! كما أشرت, فإن بعض الناس يحمله الإعجاب بعلمه وفهمه, أو رؤيته لنفسه لما يظنه فيها من الصلاح, أن يأنف من مقارعة الحجة بالحجة في مجلس القضاء, ولا يقبل من خصمه أن يكذب حديثه أو يرد عليه, ويزيد أنفة وامتعاضاً إذا تدخّل القاضي لإعادة الحق إلى نصابه وإلزامه بالصمت في موضع الصمت, أو نهاه عن مقاطعة خصمه أو محاولة الاستيلاء والاستئثار بالحديث أمام خصم قد يكون ضعيفاً أو قليل رأي, أو عامياً لا يعرف ما يقوله هذا المخاصم من أقوال فقهية ونصوص شرعية, ولا يعرف غير الواقعة التي كانت سبباً للنزاع ويشعر بأنه فيها مظلوم أو معتدى عليه .

وفي هذا الجانب يحسن التأكيد على مسألة لها أهميتها العظمى, وهي أن بعض المحامين أو أطراف الخصومات يركزون مرافعتهم على سوق النصوص الشرعية والأقوال الفقهية, ويستنبطون منها لأنفسهم أحكاماً توافق مصالحهم ويختارون من الاجتهادات ما يخدم توجهاتهم, وهذا خطأ وغلط فاحش, إذ يقتصر دور أطراف الخصومة أن يعرضوا على القاضي الواقعة والأحداث المادية التي نشأ بسببها النزاع ويقدموا من البينات الشرعية ما يثبت تلك الوقائع أو ينفيها حسب موقف كل طرف في الخصومة, ثم يدعون للقاضي بحث المسألة من النواحي الشرعية والنظامية وإنزال الحكم الشرعي المناسب عليها, فهذا هو صلب عمل القاضي ومحض اختصاصه الذي ينبغي ألا ينازعه فيه أحد, ويخضع هذا الاجتهاد فيما بعد لرقابة المحكمة الأعلى حسبما رسمته الأنظمة.

وهي وحدها صاحبة السلطة في توجيه القاضي ومراجعته في اجتهاده أو انتقاد ذلك الاجتهاد. ولا يمنع ذلك من أن يسهم المحامي المدرك العارف مع القاضي في بحث بعض وجوه المسألة, والتنبيه على أبرز ما قيل فيها من آراء فقهية, أو الدلالة على نصوص نظامية تحكم المسألة, أو يظن أنها تحكمها, لكن لا يكون ذلك بطريق إملاء الاجتهاد والسعي إلى الإلزام بالرأي الذي يراه على القاضي. كما أن مما يؤسف له أن يصدر تشويه القضاء الشرعي والحملة على رجاله العاملين المحتسبين من أصحاب الفضيلة القضاة, الذين أكدت سابقاً وأؤكد كل مرة, أنهم والله محتسبون في أعمالهم وفي صبرهم على لأواء هذه الوظيفة ثقيلة التبعات, وفي مقابلة إساءة الناس لهم والنيل من أعراضهم دون أن ينالهم أي مقابل يوازي هذه المعاناة, ما كان سبباً في نفور ِ كثير من المميزين عن القضاء وتسرب كثير من القضاة من السلك القضائي واتجاههم إلى ميادين أكثر راحة وأوفر حظاً دنيويا .

أقول إن مما يؤسف له أن يصدر التشويه للقضاء الشرعي من أناس محسوبين على أهل العلم أو الديانة أو الفضل, وممن يخشى تأثر الناس بهم في الاستعداء للقضاء الشرعي وبغضه وبغض القائمين عليه من حملة الشريعة. وذلك إذا ما قام هذا الشخص بالذم للقضاء والقضاة بطريقة فيها تعميم ٌ ومبالغة لمجرد موقف شخصيِ حصل له لا يدري عن حقيقته, وعن صوابه من خطئه, وينسى أن الغالب الأعم من أصحاب الفضيلة القضاة في بلادنا هم من ذوي الفضل والديانة, ومن العاملين بصمت وصبر على ضغوط هذه الوظيفة, وممن يسهرون ليلهم ويكابدون نهارهم للوصول إلى حكم عادلٍ موافقٍ للحق يبرئ ذممهم, لا يراقبون في عملهم هذا أحداً ولا يرجون من أحد ٍ جزاء ولا شكوراً إلا ما يستشعرون من رقابة ِ الله – عز وجل – عليهم, وكفى بالله رقيباً سبحانه, الملك العدل الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم.

وختاماً, فإني أعلم أن كثيراً ممن يقلُّ علمهم وتضعف بصيرتهم سيحملون كلامي على غير محامله ـ كالعادة ـ وأنهم سيقرأونه على أنه تزكية ٌ للقضاة بالجملة, وأنه إنكار لوجود تجاوزات أو أخطاء أو مخالفات من بعض القضاة, وهذا المعنى ليس مقصوداً لي بأي وجه, وإنما لكل مقام مقال, ولكل حالة حكمها, ولا يجوز التعميم في الحكم وإن جاز فقد يجوز التعميم في حكم الخير لا حكم السوء, لأن الحكم للأعم الأغلب, أما النادر أو القليل أو الشاذ من الأحوال والأشخاص فله حكمه, وفي أحكام الشريعة وأنظمة القضاء ما يكفل معالجته.

وإن من واجب كل مسلم يرجو الله والدار الآخرة, فضلاً عن أهل العلم والصلاح, أن يحذر من أن يكون سهماً موجهاً للقضاء الشرعي القائم على تحكيم كتاب الله وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم – أو أن يكون داعية إلى إسقاط هيبة القضاء والقضاة التي هي أساس العدل وصمام أمان الحق وكما قال عمر – رضي الله عنه: ”إلى الله أشكو جَلَد الفاجر وعجز الثقة”, وهذا ينطبق على تعظيم غير المسلمين لقضائهم وجعلهم جانب القضاء حمى محميا, بينما يسعى بعض المسلمين إلى تقويض أركان القضاء المستمد من الشريعة الذي يقوم عليه أناس هم من أصلح أفراد الأمة والمتخصصون في علوم الشريعة, فالله المستعان. وختاماً أسأل الله أن يوفق أمتنا لرشدها وهداها, وأن يقضي لها ما فيه صلاح دينها ودنياها, والحمد لله أولاً وآخراً هو حسبي ونعم الوكيل.

إعادة نشر بواسطة محاماة نت