ديوان المظالم .. مني وأنا منه
من الحقائق الثابتة أن من أهم أسباب النجاح لأي مشروعٍ من مشاريع التطوير والنهضة في أي مجالٍ من المجالات أن يؤمن القائمون على هذا المشروع بأنهم حين يضعون خططهم ويرسمون مناهجهم التي يعتقدون أنها تؤدي إلى تحقيق غاياتهم في التطوير، أن هذه الخطط لا يمكن لها أن تحيط بكل الاعتبارات والاحتمالات التي تطرأ عند التنفيذ، وذلك لأنه يوجد دائماً حقائق غائبة وجوانب غير مأخوذة في الحسبان، وهذا من طبيعة الأعمال البشرية مهما كان إتقانها أو تفوق وإدراك القائمين بها، لذا فإن مما يجب أن يؤمن به كل من يضع خططاً للتطوير حين يبدأ بتنفيذها أن هذه الخطط والمناهج أمورٌ قابلةٌ للمراجعة، ومفتقرة إلى التصحيح وإعادة التقييم بشكلٍ مستمر، وبغير ذلك فإن مصير هذا المشروع أو خطة التطوير غالباً إلى الفشل والخذلان.

وإذا ما سلمنا بهذه الحقيقة فإن من أهم عوامل التصحيح والمراجعة قبول الانتقادات والملاحظات على هذا المشروع سواءً كانت صادرةً من أفراد الناس الذين يمس المرفق حقوقهم وحاجاتهم، أو من المختصين المطلعين على سلبيات وإيجابيات هذا المشروع التطويري، أو من المتصدين للحديث في الشأن العام من كتابٍ وصحافيين ووسائل إعلام، ما دام هذا النقد صادراً في حدودٍ موضوعيةٍ ومبنياً على حقائق واقعية، وهو ما يوجب على القائمين على تطوير المرفق أن يلتفتوا إلى هذه الانتقادات والملاحظات فما كان منها حقاً ومشتملاً على رأيٍ صائبٍ أخذوا به وما كان غير ذلك فلا يُعنَّفُ صاحبُ الرأي ولا يُغلق بابُ النقد بحيث يكون عندنا حساسيةٌ مفرطة تجاهه وخطوطٌ حمراء كثيرة تقيد حركة الإصلاح وحرية الرأي.

كما أن من المشاهد دائماً أن القائمين على المشاريع التطويرية حين يضعون خططهم للتطوير، يكونون غالباً تحت تأثير الرؤية المستغرقة في الأمل، المستعجلةِ لتحقيق النتائج، مما قد يوقعهم في الغفلة عن التأني في وضع خططهم ومراعاة كافة التأثيرات المحتملة في سير العمل أثناء تنفيذ هذه الخطط والبرامج. وكلما كان القائمون على العمل التطويري أكثر ذكاءً وطموحاً ورغبةً في الوصول السريع إلى التطوير والنهوض بهذا العمل، كانوا أكثر تعرضاً لظهور الإشكالات والملاحظات على أدائهم. وعند الحديث عن مشروع تطوير القضاء والذي تناولته في مقالي السابق فأوردت بعض الانتقادات على طريقة سيره الحالية وتأثيرها في إيجاد شيءٍ من الارتباك في أداء الأجهزة القضائية عموماً وديوان المظالم خصوصاً مما قد يؤثر سلباً في ضمان حقوق المتقاضين في هذه المرحلة، وقد تلقيت بعد المقال أصداءً وردود أفعالٍ كثيرة متباينة ما بين مؤيدٍ ومعارض، فالمؤيد منها يؤكد وجود ما أشرت إليه من ملاحظات وأن لها تأثيراً سلبياً ملموساً واقعاً، والمعارضون للمقال لم ولن ينكروا وجود الملاحظات التي تضمنها وأنها واقعية ويتفقون معي أنه لا يمكن قبولها والرضا بها؛ إلا أن اعتراضهم ينحصر في وجهة نظرٍ أحترمها ولا أتفق معها وهي أنه لا ينبغي انتقاد القضاء في وسائل الإعلام، وأن الأولى الكتابة بما لدي من ملاحظات إلى القائمين على القضاء دون أسلوب الكتابة العلنية. وقد غاب عنهم أن القلم الذي أكتب به ليس قلمي الشخصي، فأنا لم أكتب مقالاً خصصته لانتقاد القضاء، وإنما أنا كاتبٌ من كتاب جريدة «الاقتصادية» الذين يعتبرون خبراء ومختصين ومهتمين بمجالاتٍ ومعارف متنوعة، وأن كتاب الرأي في سائر وسائل الإعلام عليهم واجبٌ في الحديث عن شؤون الناس العامة وطرحها ومعالجتها بما يتفق مع تطلعات المجتمع نحو الإصلاح والتطوير، ومن وسائل ذلك النقد الهادف البناء الموضوعي الذي يسهم في تقويم أداء المرافق العامة والأجهزة الحكومية كلٌ في مجاله وبما هو مطلعٌ عليه.

غير أن مما أسفتُ له كثيراً أن كلامي السابق تمَّ حملهُ على غير محامله وأخذتْ الظنون في تفسيره تذهب ذات اليمين وذات الشمال، وكان مما اطلعتُ عليه في هذا الصدد تعليقٌ لأحد القراء الكرام في موقع صحيفة «الاقتصادية» الإلكتروني، حيث علَّق على مقالي السابق بقوله: (إذا كان القضاء يمر بهذه الوضعية التي شخصها قاض مطلع على قدرات أقرانه حيث خالطهم من كثب وأدرك بواطن الأمور). فقد فهم مني هذا القارئ أني أحط من قدر القضاء والقضاة وأني أتهم قدرات مشايخي وزملائي أصحاب الفضيلة قضاة ديوان المظالم، وأنا أعلن البراءة من هذه التهمة وأعتذر لمشايخي الكرام عنها وإن لم تصدر مني، فما أشرت إليه من ملاحظات محصورةٌ في حالة الارتباك المرحلية التي يمرُّ بها الديوان حالياً وطالبت بوضع ضوابط لها بحيث لا تؤثر في إطالة أمد التقاضي وإشغال القضاة عن مهمتهم الأصلية وهي الفصل في الخصومات. أما ما أشرت إليه من وجودِ أحكامٍ لا ترقى للمستوى المشرِّف الذي عُرف عن ديوان المظالم، فقد أوضحت أن سبب ذلك إقحامُ القضاة المعينين حديثاً في العمل القضائي المتخصص مباشرةً وتشكيلُ بعض الدوائر بقضاةٍ قليلي الخبرة وهذا بلا شك سببٌ للغلط والخطأ. وهذه الملاحظات لا يجوز أن تفهم على أنها إهدارٌ لما يجب لقضاء وقضاة ديوان المظالم من واجب التقدير والإجلال والثناء والإشادة على ما يقومون به من دورٍ جليلٍ سامٍ في تحقيق العدل ورفع الظلم وحماية للمشروعية الإدارية ومحاربة للفساد الإداري. فديوان المظالم كان وما زال وسيبقى – بإذن الله – قلعة للعدل والقضاء النزيه المستقل.

إذ يضم بين جوانبه نخبةً من أصحاب الفضيلة القضاة الذين يحق للدولة ولكل مواطنٍ أن يفخر بهم وأن يدعو لهم بالتوفيق، ضربوا أروع الأمثلة في النزاهة والاقتدار، وكانت الدولة منذ إنشاء ديوان المظالم وهي تُسند إليهم أضخم َالمهام وأصعبَ المسؤوليات فيقومون بها على أحسن الوجوه، ولم يكن لهم مشاركةٌ في لجانٍ أو فعالياتٍ داخليةٍ أو خارجية إلا كانوا محل إعجاب وثناء الآخرين على مستوى علمهم وحسنِ تعاملهم.

وإذا مرَّ ديوان المظالم في ذاكرة العدالة فلا ننسى معالي الشيخ منصور بن حمد المالك القاضي الإداري الأول في المملكة ورجل القضاء والإدارة الذي قضى في ديوان المظالم قرابة 40 عاماً وكان خلال أكثر من نصفها يقود دفة الديوان نائباً للرئيس ثم رئيساً مكلفاً فكان طيلة هذا العمر المديد – حفظه الله ومتعه بالعافية – مثلاً يحتذى في العلم والفهم وفي حسن الإدارة والتعامل وفي إنزال الناس منازلهم، يقضي بالحق ويوجه بالعدل، يعلم الجاهل ويحلم على السفيه ويتجاوز عن المخطئ. قضى سنواتٍ طويلةً من العمل في القيادة دون أن يغلق على نفسه باب مكتبه فكان بابُه مفتوحاً لكل داخلٍ من منسوبي الديوان وغيرهم، بل كان من تواضعه أنه ما دخلت عليه يوماً وهو جالس على كرسي المكتب وإنما يجلس على الكنبة المجاورة ليجلسَ الداخلُ عليه بجواره. وكان مع ذلك من أكثر الناس وأسرعهم إنجازاً.

كما كان من أبرز صفاته القيادية التي أبهرت الجميع معرفته التامة والدقيقة بخصائص ومواهب كل قاضٍ من قضاة الديوان فكان يحيل إلى القاضي ما يعرف أنه يحسنه ويتفوق فيه سواءً في القضايا أو في المشاركات في اللجان والمهمات الخارجية، حتى نتج عن ذلك أن تخرج على يديه عددٌ من قضاة الديوان المشهود لهم بالكفاية والمقدرة وحسنِ القضاء كلهم تخرج في جامعة الشيخ منصور المالك. وكان يتعامل حتى مع مخالفيه بحكمةٍ ورحمةٍ، ولا يمكن أن تُسمع منه الكلمةُ النابية أو يعلو صوتُه على أحدٍ أبداً. حتى ذُكرَ أنه دخل عليه ذات مرةٍ أحدُ شيوخ القبائل ليراجعه في قضية، فبقي عنده وقتاً لا يعلم أنه هو رئيس ديوان المظالم وذلك لسهولة دخوله عليه ولما رآه من بساطته وتواضعه.

بل حتى مخالفي معاليه عرفوا قدره منذ غادر الديوان وأيقنوا بما له من الفضل وافتقدوا ما عرفوه من صفاته القيادية وحسنِ تعامله فجزاه الله عنا خير الجزاء. كما أخرج ديوان المظالم أفذاذ القضاة وأفاضل الرجال الذين لا يتسع المقام لذكرهم وما زال يحفل الديوان بكوكبة ٍ منهم وفقهم الله لمرضاته ونفع بهم. لقد استطاع ديوان المظالم أن يقف بكل حزمٍ في وجه من يحاول استغلال نفوذه أو سلطته في مصادرة حقوق الآخرين، أو التسلط عليها بأي شكلٍ من الأشكال، مهما كان موقعه من المسؤولية، أو السلطة، وبدعمٍ ومؤازرةٍ غير محدودة من ولاة أمر هذه البلاد – غفر الله لميتهم وحفظ الحي منهم – وها هي أحكام ديوان المظالم بين أيدينا أكبر دليلٍ على ذلك. وعلاوةً على ذلك فقد شهد الجميع من أصحاب الحقوق والمتقاضين والمحامين بأن قضاة ديوان المظالم معروفون بالسمت الحسن والأخلاق الفاضلة الكريمة وسعة الصدر واحتمال الجاهل والصبر على الأذى وأنهم وسعوا الناس بأخلاقهم وبعثوا الطمأنينة في نفوس المتقاضين.

وما أشرت إليه من ملاحظاتٍ في مقالي السابق، فإنها مع واقعيتها وقناعتي التامة بصواب انتقادي لها إلا أنها ليست سوى قطرةٍ في بحر حسنات ديوان المظالم وقضاته وقضائه، وأنها دليلٌ على قوة حركة التطوير التي يشهدها الديوان وإنما كنت أنادي بوضع ضوابط لها لئلا تؤثر سلباً في حقوق المتقاضين. وبهذا فإني أعيب نفسي وأنتقص قدري إن أنا عبتُ أو انتقصت ديوان المظالم فهو مني وأنا منه وسأبقى وفياً له ولما استفدته منه من علمٍ وخبرة، ولا أقول لمن أساء فهم كلامي فحمله على غير محامله إلا كما أمر الله – عز وجل: سبحانك هذا بهتانٌ عظيم. والله المستعان وهو حسبي ونعم الوكيل.

الكاتب:
د. محمد بن سعود الجذلاني
إعادة نشر بواسطة محاماة نت