حرية المعتقدات الدينية في القانون العراقي / القاضي ناصر عمران الموسوي

يظل القانون ضابطا ً مهما في تنسيق الأنموذج البشري لأي جماعه اجتماعية وهو ما توصلت إليه من خلال تأريخها الطويل في فوضى البحث عن ذاتيتها، فأعلنت عقدها الاجتماعي بين الحاكم والمحكوم وأياً تكن وجهات النظر الأخرى، فان البشرية في ظل معرفة القانون خطت باتجاه إنسانيتها خطوات مهمة وخطيرة حيث أمكنها تأسيس تشكيلات تنظيمية تنتمي إلى الإنسان، وبخاصة بعد الاختلاط والتو اشج والتعامل والحياة المشركة علائقياً بين أفراد هذا الكون، وبعد التطورات التقنية التي أعلنت إن الكون الكبير ما هو إلا قرية صغيرة، أزالت بذلك هيمنة المسافة و أطفأت نيران البعد و الفراق وحل الوصال التقني فالتقى مشرق الأرض بمغربها، ولأن الفرد نتاج بيئته وحصيلة بُنيتها الصغيرة المتمثلة بالأسرة،وهذه الأسرة ليست مجموعه من الأفراد تربطهم ببعض وشائج القرابة والارتباط فقط،وإنما هي منظومة صغيرة تزداد اتساعاً لتشمل المجتمع الذي تتشكل فيه، فهي أي الأسرة منظومة من العادات والتقاليد وطريقة الحياة وثقافة الرؤية باتجاه وجودية العالم، ولان الدين كان المنظم والراعي الأول لبداء البشرية فان الشعور الديني استقر ليشكل جزءأ مهماً وخطيراً من أي شخصية بشرية، فظهرت الأديان علامة تمدن وتحضر نحو الارتقاء بالنوع البشري، فكل التعاليم البشرية تسعى لرؤية الإنسان المحب للخير والسلام الساعي لبناء مجتمع بعيداً عن نوازع الشر والشيطان.

والمجتمع العراقي واحد من هذه المجتمعات البشرية الذي كانت محطة مهمة لرسالة الأديان ومسرحاً كبيراً للاحتراب الديني وغيره،وما تَركَته الحضارية، إلا عبارة عن تفويض ديني من الآلهة لأبنائها البشر لوضع قوانين الحياة المشتركة وتنظيم شؤونهم ووضع العقاب الدنيوي على كل من يخالف هذه القوانين، حتى خط الحرف الأول والتشريع الأول والقوانين التي أعطت التفوق لابناء الرافدين في مجال القانون والتشريع،وما كانت الأرض العراقية حكراً على طيف واحد او جماعة معينه، كان التنوع ديْدنها أمام تداعيات الحدث الراهن التاريخي، فعلى أرضه تحققت الانتصارات الكبيرة وشيدت المعاجز العمرانية، ويقينا إن كل ذلك لم يأت بدون تضحيات،ومثلما احتل جانبه العظيم والرائع التقدم الحضاري فان أرضه أيضا كانت أرضاً خصبة لنزق الحكام المتهورين بدماء شعوبهم، ومثلما منحت الديانات قدرا كبيرا من التحرر للعقائد والطقوس الدينية فإنها جاءت في مراحل تاريخية لتكون قامعا لذلك، ومنذ تأسيس الدولة العراقية أشارت دساتيرها وقوانينها إلى ضرورة احترام الحرية والمعتقد الديني، وقد سبق الدساتير بيان المحاكم رقم 6 لعام 1917 ولم يزل نافذا إلى الآن وهو الذي ينظم شؤون الأحوال الشخصية للطوائف الدينية في العراق قبل صدور قانون الأحوال الشخصية العراقي رقم 188 لسنة 1959،كما إن هناك طوائف لما تزل تعيش غبنها التشريعي في تنظيم عقائدها الدينية،وبعد التغيير النيساني ، كانت ولادة الدستور العراقي الدائم وباستفتاء شعبي ليترجم رؤية العراق الجديد للتنوع العقائدي ولأثني فهو يشير في مادته (3) إلا أن ( العراق بلد متعدد القوميات والأديان والمذاهب…..)

وقبلها أشارت الفقرة (ثانيا ) من المادة (2) منه و التي نصت ( يضمن هذا الدستور الحفاظ على الهوية الإسلامية لغالبية الشعب العراقي، كما ويضمن كامل الحقوق الدينية لجميع الأفراد في حرية العقيدة والممارسة الدينية، كالمسيحيين،والإيزيديين، والصابئة المندائيين.) كما تضمنت المادة (10) من الدستور الضامن الحقيقي لحماية المقامات الدينية والعتبات ألمقدسه باعتبارها كيانات حضارية تؤكد الدولة على صيانتها والالتزام بضمان ممارسة الطوائف الدينية لشعائرها وطقوسها بحرية تامة،ولم يقف الدستور عند هذا الحد بل راح يؤكد في باب الحقوق والحريات وهو الباب الثاني من أبواب الدستور، وجاءت نصوصه أما بالتأكيد أو بالإشارة إلى تعزيز حرية المعتقد الديني، فالمادة (14) نصت على المساواة بين العراقيين أمام القانون دون تمييز بسبب الجنس أو العرق أو القومية أو الأصل أو اللون أو الدين أو المذهب أو المعتقد أو الرأي أو الوضع الاقتصادي أو الاجتماعي .

ولم تختلف المادة (15) التي منحت كل فرد عراقي الحق في الحياة والأمن والحرية و لا يجوز الحرمان من هذه الحقوق وتقييدها إلا بنص القانون . وهذه المادة بلا شك داعم لحرية المعتقد الديني يضاف إلى أن المادة (17) أشارت إلى احترام الدستور لخصوصية الشخص والحق بحريته الشخصية على أن لا يتنافى ذلك مع حقوق الآخرين والآداب ألعامه . وفي الفصل الثاني وهو فصل الحريات نصت المادة(41) التي لما تزل تثير خلافا كبيراً والتي نصت (العراقيون أحرار في الالتزام بأحوالهم الشخصية،حسب دياناتهم أو مذاهبهم أ ومعتقداتهم أو اختياراتهم، وينظم بقانون ) وهي تأكيد جديد على رؤية مهمة باتجاه حرية المعتقد الديني ونصت المادة (42) بما يلي (لكل فرد حرية الفكر والضمير والعقيدة ) والمادة (43) بفقرتيها

أولا: أتباع كل دين أو مذهب أحرار في

أ_ممارسة الشعائر الدينية بما فيها الشعائر الحسينية

وثانيا : تكفل الدولة حرية العبادة وحماية أماكنها

وكل هذه النصوص التي جاءت في متن الدستور هي نتاج التأثير المهم لثورة العالم في الحريات وحقوق الإنسان التي ألزمت الدول على تضمين مبادئ الشرعة الدولية للحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية التي أقرت عام 1966 والمواثيق والعهود الدولية التي أكدت على ضمانات الحقوق والحريات وقد اعترفت الأمم المتحدة بأهمية حرية الديانة أو المعتقد في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي اعتمد عام 1948، حيث تنص المادة 18 منه على أن “لكل إنسان حق في حرية الفكر والوجدان والدين ويشمل ذلك حريته في أن يدين بدين ما، وحريته في اعتناق أي دين أو معتقد يختاره، ومثلما ضمن الدستور في صلب وثيقته هذه الحقوق فان هناك عقوبة مقدرة لمن يقوم بانتهاك المشاعر الدينية والعقائدية لإفراد طائفة أو دين أو معتقد،فقد جاء قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنه 1969 المعدل وفي باب الجرائم الاجتماعية الفصل الثاني تحت عنوان (الجرائم التي تمس الشعور الديني) وخصصت لها المادة (372) من قانون العقوبات العراق والتي نصت ( يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على ثلاث سنوات أو بغرامة لا تزيد على ثلثمائة دينار:

1- من اعتدى بإحدى طرق العلانية على معتقد لإحدى الطوائف الدينية أو حقر من شعائرها

2- من تعمد التشويش على إقامة شعائر طائفة دينية أو على حفل أو اجتماع ديني او تعمد منع او تعطيل اقامة شيء من ذلك

3- من خرب او اتلف او شوه او دنس بناء معد لاقامة شعائر طائفة دينية أو رمز أو شيئا آخر له حرمة دينية

4- من طبع أو نشر كتابا مقدسا عند طائفة دينية أذا حرف نصه عمدا تحريفا بغير معناه أو إذا استخف بحكم من إحكامه أو شيء من تعاليمه

5- من أهان علنا رمزا أو شخصا هو موضع تقديس أو تمجيد أو احترام لدى طائفة دينية

6- من قلد علنا نسكا أو حفلا دينيا بقصد السخرية منه

إن النص العقابي لجريمة المس بالمشاعر الدينية لم تكن وليدة الوقت الراهن وإنما ترجع في تشريعها إلى صدور قانون العقوبات العراقي رقم 111لسنة 1969 وهذا يؤكد إن حرية المعتقد كانت مكفولة بنص القانون، وان أي خرق شهده المجتمع كان بفعل التعطيل الذي تمارسه السلطة المتجاوزة لحدودها التنفيذية بحيث تكون الدولة لا السلطة فقط حكرا على القائد والحزب، وان النص القانوني ليس بمعية المشرع القانوني والمطبق القضائي فحسب إنما يمتد ليشمل الجميع وبخاصة السلطة التنفيذية التي تكون المنفذ للتشريع والتطبيق، إن وجود حاضنة رؤوم للنص القانوني هو من يحقق الانسجام التام بين المادة القانونية وتطبيقها وتنفيذها وهذا هو الأساس الذي تبنى عليه دولة القانون والمؤسسات وحقوق الإنسان والحريات والتي يشكل المعتقد الديني جوهرا مهما في تحقيق صورتها الديمقراطية.

إعادة نشر بواسطة محاماة نت