الــدولـــــــــــة مصادر الشرعية ومستند المشروعية
حبيب عيسى

على الرغم من أن اليابسة التي تتكون منها الكرة الأرضية، إضافة إلى مساحات هائلة من البحار والمحيطات، وأجواء واسعة من الغلاف الجوي، وأغوار سحيقة تحت القشرة الأرضية وفي أعماق البحار.. مقسمّة بين دول، تبسط سيادتها في كل الاتجاهات أفقيًا وعموديًا إلى أن تتجاور السيادات بعضها مع بعض، وفي أغلب الأحيان تتنافس وتتصارع إلى أن تستقر حدود تلك السيادات؛ حتى نكاد لا نعثر على شبر واحد من اليابسة لا يحمل هوية دولة معينة، أو هو موضوع صراع بين أكثر من دولة لبسط السيادة عليه.

وعلى الرغم من أن البشر بمختلف ألوانهم وأحجامهم وأعراقهم ولغاتهم ينتمون إلى هذه الدولة أو تلك؛ حتى نكاد لا نعثر على كائن من كان من البشر على سطح الكرة الأرضية، لا يحمل هوية دولة بذاتها، وينتسب إلى جنسيتها، حتى أن نسبته إلى تلك الدولة تعادل في بعض المواقف، وتفوق أغلب الأحيان، نسبته إلى والديه، وتضاهيها بما يترتب على هذه النسبة من التزامات وحقوق.

وإذا كانت الدولة على هذا المستوى- غير المنكَر من أحد- من الأهمية؛ فإن من الأهمية بمكان تحديد مفهوم الدولة، ومشروعيتها، وسيادتها، وحدود هذه السيادة، إضافة إلى أن الدولة أساس لكم هائل من القوانين الملزمة، والأنظمة المتشعبة التي تشمل مختلف جوانب الحياة البشرية، وهذا يعني أن تحديد المقاييس القانونية لمشروعية الدولة مهم جدًا؛ لأن اصدار قرار بلا مشروعية دولة، ما يعني أن منظومة كاملة من القوانين والأنظمة التي ترتبت على تأسيس تلك الدولة مشوبة بالبطلان، بناءً على القاعدة القانونية الثابتة : “ما بني على باطل فهو باطل”.

(2)

ابتداء؛ لا بد من أن نبحث موضوع الدولة من خلال مكانتها في السياق العام لتطور المجتمعات البشرية، ذلك؛ أن الدولة المعاصرة جهاز استدعته الحاجة الاجتماعية، بعد أن استنفذت التكوينات السابقة عليها القدرة على تلبية حاجة المجتمعات البشرية، وقد استقطب موضوع الدولة جهد الفلاسفة والمفكرين ورجال القانون؛ لرسم ملامحها، ووضع نظمها القانونية، وتعددت الرؤى بتعدد المصادر الفلسفية والفكرية لتلك الرؤى، ونكاد لا نعثر على منهج فلسفي لم يركّب عليه أصحابه، أو دعاته، صورة معينة “لدولة الأمل” التي يحلمون بها، من مدينة أفلاطون الفاضلة، إلى الدولة الرأسمالية، وصولًا إلى الدولة “الماركسية” لينينية، أو ماوية، أو… وتطلعًا إلى الدولة الحلم التي تُبنى على أنقاض الأفكار، والمناهج التي بدأت تنقرض، وما دولة العالم الواحدة إلا حلم، ولا نعرف إن كانت ستبقى حلمًا مثلما بدأت مدينة أفلاطون حلمًا وما زالت، وكما بدأت دولة الشيوعية الأممية ممكنة التحقيق تتجه إليها مجتمعات كثيرة تبدو الآن، وكأنها تنكفئ إلى حلم آخر.

(3)

وهكذا، فإن الموقف من الدولة يختلف بحسب المصدر الفكري، والفلسفي، والقانوني الذي يصدر عنه هذا الموقف، فالبعض اعتبرها مصدر كل الشرور، ولا بد بالتالي من النضال للخلاص منها، وبعضهم يعدّها وسيلة مثالية لتنظيم المجتمعات البشرية.. وحقيقة الأمر أن الدولة المعاصرة جهاز أبدعه العقل البشري في فترة حاسمة من التطور البشري لتلبية حاجة التنظيم، والإدارة، والدفاع عن الجماعة وحقوقها، والدولة بهذا المعنى ليست جهازًا خيّرًا، أو جهازًا شريرًا، فالخير والشر في هذه الحالة يُنسب إلى الذين يستخدمون هذا الجهاز “الدولة”، وفي أي اتجاه؟ وهي “الدولة” بذلك ككل الأجهزة، والقوانين الوضعية التي أبدعها البشر، وطوروها، إذ يمكن أن يستخدمها البشر لتنظيم المجتمع، وتحقيق العدالة بين أفراده، وفتح السبل أمام تطورّه، والدفاع عنه، وصوغ قاعدة قانونية ملزمة للجميع ثم صوغ القوانين الدولية الناظمة للعلاقة بين دول المجتمعات البشرية؛ لتحقيق أكبر قدر من التوازن والعدالة بين البشر الذين يتقاسمون سبل الحياة على سطح الكرة الأرضية، وعلى النقيض من ذلك، يمكن للبشر أن يستخدموا الدولة لفرض السيطرة، والعسف، والاستغلال، ونشر الخوف، والذعر في عصب الجماعة البشرية، فتعيق التطور الاجتماعي، وتفتت البنية الاجتماعية، وتعطل دينامية التطور، وعلى الصعيد الخارجي يمكن استخدام الدولة أداة للعدوان على الصعيد الدولي، وتعطيل التطور الدولي باتجاه تقارب الحضارات الإنسانية، وعكس الاتجاه؛ لتسعير صراع الحضارات، وربما لتدمير الحضارات.

هكذا، وبأكبر قدر من الجدية، نريد أن نؤكد أن الدولة سلاح إذا وُضع بيد المجرم فهو أداة للجريمة، وإذا استخدمته الجماعة بإيجابية، وحصنتّه من اختطاف القراصنة هو أداة لحماية المجتمع وتحقيق العدالة. فالدولة سلاح استدعته الحاجة الاجتماعية، للمجتمعات البشرية، ولتلبية تلك الحاجة الاجتماعية طورّته عبر العصور إلى أن وصل إلى ما هو عليه الآن.. وعبر العصور أيضًا جرى استخدامه لتلبية الحاجات الاجتماعية، والتنظيمية، والاقتصادية، والإنسانية للتطور البشري، تارة، واستُخدم سلبيًا من آخرين لارتكاب الجرائم بحق المجتمع حينًا، وبحق البشرية، أحيانًا أخرى، للحد من تطور المجتمعات البشرية.

(4)

هكذا تتعدد مصادر المشروعية، وتتصارع في أغلب الأحيان، فما يبدو مشروعًا بالنسبة إلى هذا المصدر مثلًا.. يفقد مشروعيته بالنسبة إلى مصدر آخر. وهكذا يدور الصراع عبر العصور بين شرعية تبحث عن مكان لها في مواجهة مشروعية قائمة لا تتردد في إطلاق نعوت شتى: التمرد، واللا قانونية.. على كل من يتحداها، وإذا كان هذا كله يعني صعوبة تحديد مستند الشرعية، ومشروعية ما يصدر عنها، فإنه لا يعني أن الهروب من تحديد الإجابة “المشروعة” ممكن في أي وضع، فلكل شرعية مستند لا بد من تحديده وتأطيره، وفي مجال الدولة لا بد من صوغه قاعدة أساسًا لقواعد متعددة تستند إليه، ويمكن الرجوع إليه في كل شأن، معيارًا ثابتًا يتقرر على أساسه أولًا مشروعية ما ينسب إليه من قوانين، ونظم. “فلقد فهمت الشرعية في مختلف عصور الانتماءات أنها تحمل مسؤولية بناء الأسس، أي: إنها مما، وممن يُلقى عليها عبء تسويغ، أو تعقيل، أو تشريع ما يولد منها، أو ما يُدعى ارتباطًا بها، واحتكامًا إليها”(1).

وإذا كان لا بد لكل شرعية من مُستند، فإن المستند لا بد من أن يكون مشروعًا في الأصل، فمن أين يُستمد مشروعيته؟ من ذاته؟ أو من عصره وأوضاعه؟ أو منها جميعًا…؟ ثم ما “الهيئة المشروعة” التي تقره مستندًا شرعيًا لمشروعيات ستبنى عليه…؟، وإذا كان المجال هنا لا يتسع للانسياق وراء تداعي الأسئلة “المشروعة”، فمن المهم الاعتراف “بسلطة مطلقة للإسناد”، لأن السند يغدو في النهاية أصل “الشرعية”، وعبارة: “شرعي” في اللغة العربية تقابل: “نهجي”، فالشرع هو: الطريق. والطريق ليس كل درب. بل إن لفظته تلك تحمل معياريته، لأنه ليس هو هذا الدرب الذي يُطرق عفوًا، إنما يُختار، ويُصطفى، ويُفضّل على سواه، بل يكتسح ما سواه، ويمسحه، إن لم يكن على صعيد الواقع، فعلى صعيد التفضيل، والمضاهاة، ولكن يظل مع ذلك أصل الطريق، علاقة نصية، يعني الطريق، والسير فيه، معًا.

فهنا، إذن؛ ليست الشرعية “إيقونة” تُقنى مرة واحدة، وإلى النهاية، بل هي سير في طريق، إنها ما تُكتسب اكتسابًا، ولا تُنال عفوًا، أو عبر فعل واحد متقطع “(2).

وإذا كانت مشروعية قوانين، وأنظمة، وأوضاع تستند إلى شرعية اختارت من الطرق أفضلها، فإن مشروعية ما يسند إلى تلك الشرعية يتأتى من كونه على الطريق المحدد “الأفضل” الذي اختطته تلك الشرعية لا يحيد عنه. فعلى الرغم من أن لفظة المشروعية في اشتقاقها من الشرعية تعني الانتهاء من عملية الاختيار بكل مراحلها “المشروعية.. إلا أن الصيغة النحوية تظل مجرد اشتقاق. وعلاقة اللفظة يظل لها إسنادها الأقوى؛ لأنها تبقى على خط الفعل منفتحًا، لا تدورّه في دائرة مغلقة”(3).

“وفي لغة التداول الشائعة في مؤسسات المجتمع المدني، تحوز الشرعية على أهم مرجعية، بل إن صفة المجتمع المدني ما كانت لتجوز له، إلا لأنها هي التي تحقق حركة الإسناد المنظمة، إلى الشرعية مرجعيةً – أخيرة أو أولى -. ولكن التمييز الذي صار متعارفًا عليه بين الشرعية، والمشروعية فصل بين ما يؤسس للشرعي، وما يؤسس للمشروع. وكان هذا الفصل الذي عده (ماكس فيبر) بنية وحيدة للمجتمع المدني، يفترض قيام سلطة شرعية في الأصل، ثم أن القوانين التي تصدر عن هذه السلطة تحوز صفة المشروعية، فالقانون في حد ذاته لا يطرح مسألة الشرعية، ولكنه يطلب من المواطنين الالتزام بنصوصه حتى تغدو أفعالهم مشروعة”(4).

شرعية الدولة -إذن- هي مصدر مشروعية القوانين، والأنظمة النافذة الصادرة عنها، لكن: ما مستند شرعية الدولة…؟

(5)

مهما اختلفت الآراء، وتعددت، فإن الاتفاق يكاد يكون مطلقًا بين المفكرين، والفلاسفة، ورجال القانون على أن الحق هو مستند الشرعية، ثم، وبعد هذا الاتفاق على مستند الشرعية، يعود الاختلاف للبروز حول ماهية الحق، وما زاد الأمر تعقيدًا هو أن تعدد الآراء وتصارعها لاختيار الطريق الأفضل، واكتشاف الحق مستندًا لشرعية ما.. لم يكن يتحقق في حلبة البحث العلمي، والقانوني، والإنساني، والفلسفي، وحسب، وإنما كانت الأوضاع التي تحيط بالحلبة تفرض نفسها على مقدمات البحث، والحوار، والنتائج، فعبر العصور لم يتمكن الحكماء الباحثون عن الحق، والشرعية من طرح الشرعية، والحق منفصلة عن القوة، فغالبًا ما تحاول القوة أن تفرض مشروعية سائدة لقوانين، وأنظمة نافذة يُستبعد البحث عن مستندها الشرعي تحت ركام سلسلة من “مشروعية” قوانين، وأنظمة، واقعية، وقد طبع هذا الصراع بين الحق والقوة حقبًا متلاحقة من تاريخ البشرية ، وقليلة هي اللحظات التي استطاع فيها الحق أن يطوّع القوة ، ويُسند مشروعية منظومتها القانونية إلى الشرعية المستندة إلى الحق.

وإن كان الصراع ما زال مستمرًا، وإن كان الحلم سيبقى مشروعًا في أن تنضوي القوة أخيرًا تحت إرادة الحق، وتستمد منه سندها: “فالخلط في المواقع بين الشرعية، والمشروعية ساعد دائمًا في تفجير الثورات، والحروب الأهلية، والإقليمية، فما يحدث في هذه الحالات هو قلب المفهومات، إذ تغدو المشروعية مآل أو مرجع الشرعية، في حين لا يتبقى للشرعية أي واقعية تذكر.. ويغدو طابع القسر وحده يشكل قناع القانون. فما إن تصبح كمية القسر غالبة، في منطوق القانون وتطبيقاته، على أفضلياته العقلية والحقوقية؛ حتى يقع الانفصال بينه والصالح العام. وعندئذ يصير طلب الشرعية يعادل تمامًا الانفكاك عن حاصل المشروعية القائمة، ومعارضتها؛ وحتى الانقضاض على مؤسساتها ومحاربة رموزها المسيطرة… “(5).

لا بد -إذن- من مقاومة محاولات التضليل الفكري، والسياسي التي تسعى إلى مقايضة مشروعية واقعية تستند إلى القوة “السلطة” لاستبعاد وطمس شرعية أصلية أصيلة تستند إلى الحق، فالناس مثلما يقول بوردو: “اخترعوا الدولة؛ لكيلا يطيعوا الناس، جعلوا منها المركز والسند للقدرة التي يشعرون دائمًا بضرورتها، وبوزنها، ولكن ما إن تُنسب هذه القدرة إلى الدولة؛ حتى تسمح لهم بالخضوع لولاية لا تُرد، دون أن يشعروا مع ذلك أنهم مرتهنون لإرادات بشرية”(6).

وإذا كان الناس يسلمّون مصيرهم، وأمورهم للدولة، فإن من المصيري بالنسبة إليهم أيضًا أن تُسند هذه الدولة إلى الحق، حقهم في الحياة، والتطور، والأمن، والاستقرار، وألا يسمحوا -في أي وضع- أن تُفرض عليهم دولة مصطنعة من خارجهم؛ لخدمة أهداف ومصالح ليست -في أي حال- أهدافهم، ولا مصالحهم.

مراجع وهوامش:

(1) مطاع صفدي- الفكر العربي المعاصر- بيروت- عدد 72-73) صفحة (7).

(2) و (3) المصدر السابق- صفحة (8).

(4) المصدر السابق- صفحة (9) ماكس فيبر: الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية.

(5) المصدر السابق- صفحة (11).

(6) جورج بوردو- الدولة- صفحة (11).

إعادة نشر بواسطة محاماة نت