المقولات المؤسسة لفكرة حقوق الإنسان في الإسلام

زكي الميلاد

ذكرت في المقالة السابقة أن هناك أربع مقولات أساسية، هي المقولات المؤسسة لفكرة حقوق الإنسان في الإسلام، وتحدثت في تلك المقالة عن مقولة استخلاف الإنسان في الأرض، والمقولة الثانية هي مقولة الكرامة الإنسانية.
وردت هذه المقولة في النص القرآني في قوله تعالى (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا)، وتعد هذه الآية من أكثر الآيات القرآنية تداولا وحضورا في الكتابات الإسلامية التي تناولت فكرة حقوق الإنسان، وذلك لشدة بيانها وظهورها في الدلالة على المراد، ولا يكاد يوجد كتاب يتحدث عن حقوق الإنسان في الإسلام ولم يأت عن ذكر نص هذه الآية.

فقد أصلت هذه الآية لقاعدة هي أهم قاعدة مصدرية في مجال حقوق الإنسان، وهي قاعدة أن الأصل في الإنسان هو الكرامة، وهي صفة ملازمة للإنسان بما هو إنسان، بغض النظر عن لونه وعرقه، لغته ولسانه، دينه ومذهبه، ولا يجوز سلب هذه الصفة وهتكها، أو تحقيرها والانتفاص منها، فالإنسان إنسان بكرامته، وبدونها ينتقص الإنسان من إنسانيته، أي أن الإنسان كائن مكرم، ولا يكون إلا بكرامته.

والقرآن الكريم في هذه الآية كان بليغا للغاية حين استعمل وصف بني آدم عند حديثه عن الكرامة، ليؤكد على أمرين متلازمين، على أن الكرامة هي صفة أصيلة في النوع الإنساني، وعلى أن هذه الصفة تشمل جميع الناس بدون استثناء الذين يرجعون في أصلهم الإنساني إلى بني آدم، وليس هناك صنف من البشر خارج عن هذا الأصل الإنساني المشترك.
والحكمة من هذا الوصف أن الكرامة صفة سابقة على كل ما يظهر في الإنسان لاحقا من عوارض اللون أو اللسان أو الدين أو غيرها، وأن هذه العوارض مهما كانت طبيعتها لا تسلب الكرامة من الإنسان، ولا ينبغي أن تنتقص منه.
كما اعتبرت هذه الآية أن الله سبحانه هو مصدر الكرامة للإنسان والذي فضله على كثير ممن خلق تفضيلا، وهذا يعني ضرورة أن يتمسك الإنسان بهذه الكرامة ولا يتخلى عنها أبدا تحت أي ظرف من الظروف، وأمام أي ضغط من الضغوط، لأنها من الله وليس منة من أحد كائنا ما كان.

وهناك من وجد في هذه الآية ترجيحا لمفهوم الكرامة الإنسانية على مفهوم حقوق الإنسان عند الذين شككوا في هذه التسمية واعتبروها تسمية تنتمي إلى المجال الغربي، وهذا الرأي في نظري ليس راجحا, وليس بمقدوره مزاحمة مفهوم حقوق الإنسان وإزاحته والإحلال مكانه.
وأرى أننا لسنا بحاجة إلى هذه المزاحمة، أو هذه المفاضلة لأننا بحاجة ملحة لكلا هذين المفهومين، وبطريقة يعاضد فيها كل مفهوم المفهوم الآخر، وهما كذلك في الأصل، فهما قريبان ومتحدان مع بعضهما ولا يفترقان أو يتعارضان.
ووجه العلاقة بين هذين المفهومين أن الكرامة الإنسانية هي التي أوجبت حقوقا للإنسان تحفظ له هذه الكرامة، لأنه مخلوق مكرم، ولأن الله سبحانه هو الذي كرمه وجعله من أفضل مخلوقاته.

ومن هذه الجهة يرى الدكتور محمد عابد الجابري في كتابه (الديمقراطية وحقوق الإنسان) أن حقوق الإنسان في الإسلام هي جميع الأمور المادية والمعنوية التي تجب له بموجب تكريم الله له وتفضيله إياه على سائر خلقه.
وهذا التصور له أساس حتى في الفكر الإنساني حيث نرى أن الكرامة هي أصل وجوهر حقوق الإنسان، وقد تجلى هذا التصور بوضوح كبير في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي اتخذ من الاقتران بين الكرامة والحقوق أساسا وتأسيسا له، ودلت على ذلك الإشارة التي وردت في السطر الأول من ديباجة الإعلان، وفي المادة الأولى من مواد الإعلان.
ففي الديباجة ورد ما نصه (لما كان الاعتراف بالكرامة المتأصلة في جميع أعضاء الأسرة البشرية، وبحقوقهم المتساوية الثابتة هو أساس الحرية والعدل والسلام في العالم)..

وجاء في المادة الأولى من الإعلان ما نصه (يولد جميع الناس أحرارا متساوين في الكرامة والحقوق، وقد وهبوا عقلا وضميرا وعليهم أن يعامل بعضهم بعضا بروح الإخاء).

وكانت للشيخ محمد علي التسخيري ملاحظة على مفهوم الكرامة الوارد في هذه المادة، أشار إليها في المقارنة التي أجراها بين إعلاني حقوق الإنسان الإسلامي والعالمي، حيث فصل بين الكرامة الذاتية وبين الكرامة المكتسبة التي هي أعلى درجة من الكرامة الأولى، معتبرا أن الإعلان العالمي أشار إلى الكرامة الذاتية، ولم يتطرق إلى الكرامة المكتسبة بخلاف الإعلان الإسلامي الذي التفت إلى هذا الجانب، وحسب رأيه الذي يشرح فيه ما يقصده بالكرامة الذاتية والكرامة المكتسبة يقول الشيخ التسخيري: إن الإعلان الإسلامي يفصل بحق بين أصل الكرامة أو الكرامة التي يحصل عليها الإنسان باعتبار انتمائه الإنساني فقط، والكرامة المكتسبة التي ينالها الإنسان عبر سيره التكاملي المعنوي وعمله الصالح في خدمة الخلق، فإن أي وجدان يدرك الفرق بين عالم كبير كابن سينا مثلا، وفرد عادي يعيش لنفسه دون أن يترك أثرا في الحياة.

وفي كتابه (دستور الأخلاق في القرآن) قسم الدكتور محمد عبد الله دراز مفهوم الكرامة في القرآن الكريم إلى أربعة أقسام هي: كرامة الإنسانية، وكرامة الاستخلاف، وكرامة الإيمان، وكرامة العمل، مستدلا على كل قسم من هذه الكرامات الأربع بآيات قرآنية مبرهنة عليها.
من هنا يتبين أن الكرامة الإنسانية هي مقولة أصيلة في التأسيس لفكرة حقوق الإنسان على المستويين الإسلامي والإنساني.