بقلم عثمان التاوتي

طالب باحث بماستر “القضاء الإداري” كلية الحقوق سلا

يقول نيكولا ميكيافيللي أن “على الأمير أن يمتنع عن سلب الناس أمواهم، لأنه من السهل على الإنسان أن ينسى وفاة والده، من أن ينسى ضياع إرثه أو ممتلكاته”[1] من هذه القولة التي يعتبرها البعض اشمئزازية لكنها حقيقية، يتبين لنا مدى أهمية الملك لدى متملكه وكيفما كانت قيمته.

فحق الملكية هو حق دستوري، منصوص عليه في الفصل 35 من الدستور، بل هو من الحقوق الطبيعية التي انبنت عليها نظرية العقد الإجتماعي.

ويتفرع عن حق الملكية مجموعة من الحقوق والتي نظمتها مدونة الحقوق العينية.

وما يهمنا في هذا الموضوع هو حق الارتفاق لأنه حق يرتبط بأكثر من ملكية.

وقد عرفته المادة 37 من مدونة الحقوق العينية بأنه: “الارتفاق حق عيني قوامه تحمل مقرر على عقار من أجل استعمال أو منفعة عقار يملكه شخص آخر” كما تنص المادة 38 من نفس القانون على أنه “ينشئ الارتفاق إما عن الوضعية الطبيعية للأماكن أو بحكم القانون أو باتفاق المالكين”

وبالتالي فليس حق الملكية هو وحده الذي يحتاج الى التنظيم القانوني، بل أيضا الحقوق التي تتفرع عنها.

والجدير بالذكر أن العلاقة التي تربط بين الأملاك الخاصة ويدخل في حكمها حتى أملاك الدولة الخاصة، هي ليست نفس العلاقة التي تربط بين الأملاك الخاصة والأملاك العامة، نظرا لكون الأولى ترتبط بمنفعة شخصية خاصة، أما الثانية فهي مخصصة إما للمنفعة العامة أو لحماية مرفق عام، ومن تضرر يتقاضى ولا يطالب بغير التعويض، لكونه الجبر الوحيد لضرره ما دام مرتبطا بالتخصيص.

وتبرز أهمية موضوع علاقة الأملاك العامة بالملكيات المجاورة، في تحديد أساس هذه العلاقة أولا ثم معرفة طبيعتها وكذا حقوق وواجبات أطرافها، علما أن الأطراف يحكمهم قانون لامساواة، وبالتالي كيف سيكون موقف القضاء من خلال اجتهادات المحاكم الإدارية في هذه العلاقة.

كما أن هذه العلاقة تحكمها مجموعة من النصوص المشتثة والتي يصعب الإطلاع عليها جميعها، مما يصعب تحديد علاقة الملك العام بالملك المجاور.

ولعل الإشكال الذي يمكن طرحه في مناقشة هذا الموضوع هو مدى كفاية معيار التخصيص لتحمل الملكيات المجاورة ارتفاقات ادارية تحد من التصرف المطلق في الملكيات الخاصة، ومدى تدخل القضاء لحماية استمرار التخصيص وحماية حقوق مالك العقار المجاور للملك العام من الضياع.

ولمناقشة هذه الإشكالية نقترح التصميم التالي:

المبحث الأول: أساس العلاقة بين الأملاك العامة والأملاك المجاورة
المطلب الأول: تحقيق المنفعة العامة
المطلب الثاني: حماية المرفق العام
المبحث الثاني: الحماية القضائية للارتفاقات الإدارية
المطلب الأول: تقييد حرية استغلال الملك المجاور للملك العام
المطلب الثاني: فرض ارتفاقات إدارية على الأملاك المجاورة للملك العام

المبحث الأول: أساس العلاقة بين الأملاك العامة و الأملاك المجاورة

إن أساس العلاقة التي تربط اﻷملاك العامة باﻷملاك المجاورة هي الارتفاقات المقررة في القانون العام و هي قيود على اﻷملاك الخاصة تسعى لتحقيق المنفعة العامة من جهة و حماية الملك العمومي من جهة أخرى. و قد ترد هذه الارتفاقات مقررة بنصوص خاصة أو في النصوص المنظمة لقواعد التعمير، كل هذا من أجل تخطيط حضري و عمراني محكم.

ارتفاق التعمير بأنه : L’HUILER و قد عرف الفقيه
“تلك التكاليف الموضوعة لتحقيق المنفعة العامة و تتحملها اﻷراضي حسب موقعها داخل مختلف مناطق المدينة و هدفها هو تخطيط و تنظيم هذه اﻷخيرة[2].”

و يستشف من خلال هذا التعريف أن العلاقة بين الملك العمومي و الأملاك المجاورة تنبني على أساسين اثنين يتمثل الأول في تحقيق المنفعة العامة و يتم ذلك بطرق متعددة ( المطلب الأول ) أو بضرورة حماية المرفق العام بالحفاظ على استمراريته (المطلب الثاني).

المطلب الأول: تحقيق المنفعة العامة

ما دمنا نتحدث عن علاقة بين اﻷملاك العامة و اﻷملاك المجاورة فلكل صنف من هاته اﻷملاك الحق في إقامة ارتفاقات على اﻵخر. وقد ذهب الفقه إلى جواز اكتساب حقوق ارتفاق على الملك العام، ما دام مالك العقار المرتفق قد التزم الحدود القانونية أو التنظيمية لهذا الملك.

و كان التكليف مطابقا للمنفعة التي خصص لها هذا الملك فالمشرع المغربي و إن لم يورد صراحة نصا في هذا المجال فإنه ذكر عدة تطبيقات من بينها تلك التي جاءت متضمنة في الفصلين 139 و 140 من ظهير 19 رجب 1333 من جواز فتح مطلات و شبابيك على الطريق العام…[3]

و الفصل 141 حيث يمكن للمالك أن يقيم سقوف بنائه بكيفية تجعل مياه المطر تسيل إلى الطريق العام[4].

فإن هذا الفقه قد اختلف في تحديد طبيعة التكاليف المقررة للملك العام على ملكية خاصة كما وجد صعوبة في ترتيبها و تصنيفها بالنظر إلى كثرة أنواعها، فذهب اتجاه إلى اعتبار هذه الحقوق مجرد تكاليف عينية يكون مصدرها القانون أو النصوص التنظيمية، و موضوعها هو تحقيق المصلحة العامة، تفرض على عقارات معينة في أي يد كانت، بسبب موقعها بالنسبة للملك العام، أو ﻷن وضعيتها تجعلها ضرورية ﻹنجاز أعمال تتعلق بالنفع العام[5].

في حين يرى البعض أنه نظرا لكون هذه الحقوق لا تفترض وجود عقار مرتفق. فهي لا تنشئ أي حق لعقار على عقار آخر، و هو اﻷساس الذي يقوم عليه حق الارتفاق، فإنها في حقيقتها قيود تقيد سلطة المالك في استعمال حقه لتأمين منفعة عامة في حين يعتبرها البعض حقوق ارتفاق إدارية تتعلق بالحقوق اﻹدارية أكثر منها بالحقوق المدنية[6].

ويمكن القول أن هذه القيود المفروضة على الملكية للمصلحة العامة ، إن كانت لا تستحق كلها وصف حقوق الارتفاق، فإن منها ما يستحق فعلا هذا الوصف، ذلك أنه يجب التمييز في هذا الصدد بين التكاليف التي يفرضها القانون أو النصوص التنظيمية على بعض الملكيات الخاصة لاعتبارات مختلفة تتعلق بالنفع العام دون أن تؤدي إلى خدمة عقار معين من اﻷموال العامة، كنزع الملكية من أجل المنفعة العامة، و الاستيلاء المؤقت، و هي ليست حقوق ارتفاق، و بين التكاليف العينية المقررة على بعض العقارات المملوكة للأفراد لمنفعة عقارات داخلة في اﻷملاك العامة على بعض العقارات المملوكة للأفراد لمنفعة عقارات داخلة في الأملاك العامة و هي حقوق يتوفر لها عناصر حق الارتفاق.

فوجه الشبه بين هذا النوع من الارتفاقات و قيود الملكية، أن مصدرهما معا هو إرادة الدولة، و يشكلان عبئا على الملك الخاص، و يخضعان لقوانين و ضوابط خاصة بهما و هي تتميز بكونها تتقرر لفائدة ملك عام يستفيد منه فهي تسمى ارتفاقات لوجود عقارين، مكلف و مستفيد، و تتقرر لمنفعة عامة يملك المشرع وحده حق تقريرها.

و ارتفاقات المصلحة العامة هي ذات طبيعة إدارية واضحة، حيث أنها تعرف بالارتفاقات الإدارية وتظهر هذه الطبيعة اﻹدارية في إنشائها[7]، كما تظهر في ممارستها، فعندما يقتصر القانون على تقرير إنشاء ارتفاق معين للمصلحة العامة، دون أن يحدد العقارات التي تخضع له أو دون أن يحدد آثاره، فإن مثل هذا التحديد و ذلك يصدر بقرار إداري[8]، و من ثم ثار خلاف حول إجراءاته أو مدى مطابقته للقانون، فإن الفصل في هذا الخلاف أو في طريقة ممارسة هذا الحق يكون من اختصاص القضاء اﻹداري.

و نستعرض فيما يلي بعض الارتفاقات المقررة للمنفعة العامة :

من أهم هذه الحقوق حقوق الارتفاق المقررة على الملكيات المجاورة لمجاري الماء و البحيرات و القناطر المائية و ﻷنابيب الماء و لقنوات الري أو التطهير المخصصة لاستعمال عمومي، حيث تتحمل هذه الملكيات بمقتضى المادة 31 من القانون 10_95[9] المتعلق بالماء في حدود عرض أربعة أمتار تحسب انطلاقا من الضفاف الحرة، ارتفاقا يكون الغرض منه تمكين أعوان و آليات اﻹدارة أو وكالة الحوض من حرية المرور، و كذا من وضع مواد أو من إنجاز منشآت و أشغال و تكتسي طابع المنفعة العامة.

أما فيما يخص حماية السير على الطرقات[10]
كل ما يتعلق بالسير العمومي مثل ارتفاقات عدم البناء بجوار الطرق للمحافظة على اﻷمن و عدم حجب الرؤيا على مستعملي الطريق و ارتفاقات الرؤيا المحدثة بظهير 29.10.1937 التي تهدف إلى إزالة الجدران و هدم المرتفعات و اقتلاع اﻷشجار. و قد أحدث المشرع المغربي على الملكيات المجاورة للطرق السيارة ارتفاق منع البناء على منطقة يساوي عرضها عشرون مترا من جانب الطريق السيار.[11]

الارتفاقات المتعلقة بمصلحة الخطوط الهاتفية و البرقية
ينظمها ظهير فاتح يوليوز 1914 المتعلق بالملك العام و بمقتضاها يتحمل أصحاب اﻷملاك الخاصة المجاورة للملك العمومي ارتفاق وضع و تمرير اﻵلات اللازمة ﻹحداث اﻷسلاك التلغرافية و التليفونية و اﻷبنية المعدة للتليفون اللاسلكي و إذا كان حق تمرير الخيوط البرقية و الهاتفية مضمون قانونا، فإن الملاك المجاورين للملك العمومي المتحملين للإرفاق المذكور لا يملكون الحق في المطالبة بإزالتها[12].

الارتفاقات المقررة لمصلحة الخطوط الكهربائية [13]
ينظمها ظهير 24.10.1962 و ظهير 14.9.1977 المتمم بظهير 1963 و بمقتضى ذلك فإن المكتب الوطني للكهرباء باعتباره مؤسسة عمومية تملك حق امتياز ﻹقامة دعائم و أجهزة لتثبيت الناقلات الجوية في القطع اﻷرضية التي ليس فيها بناء و غير محاطة بجدران، كما يمكنه وضع قنوات أرضية و ناقلات كهربائية جوية مع دعائمها فيما يخص اﻷرض غير المبنية و أثناء قيامه في ذلك لا يحتاج لسلوك مسطرة نزع الملكية على العقار المعني.

و يحق لمالكي اﻷراضي المقام فوقها أو تحتها المنشآت، المطالبة بالتعويض.
و بالرجوع إلى قواعد التعمير نجد أنها تنظم ارتفاقات التعمير و ذلك من خلال مجموعة من المخططات المتعلقة بالمخطط التوجيهي للتهيئة العمرانية و الذي يعطي اﻹطار العام بخصوص التعمير و يحدد المناطق المتعلقة بالارتفاقات كعدم البناء و التعلية و الارتفاقات الخاصة. ثم تصميم التهيئة باعتباره دليلا للسلطات العمومية في مجال التخطيط الحضري و التوسع العمراني و أداة لترجمة توجهات المخطط التوجيهي للتهيئة الحضرية على أرض الواقع و كذا تحديد اﻹجراءات التنظيمية المتعلقة بعمليات التعمير و كيفية استعمال اﻷراضي[14].

كل هاته المخططات و المنظمة بقانون 12.90 تهدف إلى تحقيق النفع العام، إضافة إلى الارتفاقات الناشئة عن قانون التجزئات العقارية و المجموعات السكنية والمنظمة بقانون 25.90 و الذي جاء متضمنا لمجموعة من الارتفاقات الواجب مراعاتها في التجزئات والمجموعات السكنية تحت طائلة عدم تسليم شهادة التسليم المؤقت أو النهائية[15]. من بينها إقامة المساحات المخصصة للتجهيزات الجماعية و المنشآت ذات المصلحة العامة التي تقتضيها متطلبات التجزئة من مركز تجاري ومسجد و حمام وفرن و مدرسة و مستوصف و مساحة معدة للنشاطات الرياضية و إقامة الخطوط اللازمة لوصل قطع التجزئة بالشبكة العامة للاتصالات السلكية و اللاسلكية العمومية.

المطلب الثاني: حماية المرفق العام

و تحدث ارتفاقات قد تكون بنصوص خاصة أو بالنصوص المتعلقة بوثائق التعمير من طرف المشرع بهدف حماية الملك العمومي و تدبيره و استغلاله، و على الرغم من كونها تتعلق أساسا بالملك العمومي فإنها تفرض على العقارات الخصوصية المجاورة له تحت طائلة المنفعة العامة و تتباين الارتفاقات و تختلف حسب أغراضه.

الارتفاقات المتعلقة بالمحافظة على المباني التاريخية[16]
إن حماية المباني التاريخية يتطلب فرض ارتفاقات على العقارات المجاورة المملوكة للخواص و هي لا تستفيد من حق الارتفاقات تلك إلا بخضوعها لمسطرة التقييد و الترتيب، ويترتب على ذلك طبقا للإجراءات والضوابط المنصوص عليها بظهير 25.12.1980 أنه لا يجوز ترميمه أو إنجاز أي بناء جديد عليه إلا بناءا على رخصة بذلك دون اﻹخلال برخصة السلطة الجماعية المختصة عند الاقتضاء.

كما لا يمكن إدخال أي تغيير كيفما كان نوعه ولاسيما عن طريق التجزئة أو التقسيم على مظهر اﻷماكن الواقعة داخل دائرة العقارات المترتبة إلا بعد الحصول على رخصة إدارية من طرف وزارة الثقافة التي يتوقف تسليم رخصة البناء أو التجزئة عليها من طرف السلطات الجماعية المختصة.

الارتفاقات المتعلقة بالمناطق العسكرية
ينظمها ظهير 1934 و الارتفاق الناتج عنها هو منع البناء و الزراعة بالمناطق المملوكة للخواص المحيطة بالبنايات أو المنشآت العسكرية و تحدد مساحة المناطق المثقلة بالارتفاق ذاك المذكور إما بقانون أو بقرار إداري و لا يعوض المتضررون من حق الارتفاق إلا في حالة ما إذا كان الضرر حالا و مؤكدا.

و إذا كان يمنع البناء أو إقامة التجزئات بالمناطق المستغلة بحق الارتفاق المذكور، فإنه يكون من حق السلطات العسكرية منع إيقافه حتى و لو حصل المعني باﻷمر على ترخيص قانوني بالقيام بالبناء أو بالتجزئة.

الارتفاقات المتعلقة بالمناطق المخصصة للطيران و الملاحة الجوية.
و ينظمها ظهير 1938 .4.26 و بمقتضاه يمنع على أصحاب اﻷراضي المجاورة للمطارات أو قواعد الطيران و حتى مساحة معينة وفقا للأنظمة الدولية الجارية بها العمل إقامة أي منشأة أو بناية على عقاراتهم أو رفع هاته البناءات أكثر من علو معين، و ذلك لتوفير الرؤيا و درء المخاطر و رفع الإشارات للطائرات قصد ضمان هبوطها بسلام.

إن إحداث ارتفاقات الرؤيا و الحد من اﻹشهار و ارتفاق عدم البناء ضمان سلامة مستعملي الطريق العمومية أي تحقيق السلامة الضرورية للسير العمومي فإن هذه السلامة لا تكتمل إلا بتوفير طريق في حالة جيدة وللمحافظة على الطرق العمومية و جودتها أحدث المشرع ارتفاقات خاصة لحماية هذا النوع من عناصر الملك العمومي و يتعلق اﻷمر بارتفاقات تتعلق بشروط إنجاز الاحتفارات و ذلك باحترام مسافة معينة عن هذه الطرق من أجل استغلال المقالع و يتم تحديد ذلك حسب كيفية استغلال المقالع[17].

ثم البحث عن المناجم و استغلالها فإذا كانت المعادن تدخل في الملك الخاص للدولة فإنها تكون موضوع رخص للبحث عنها أو امتيازات لاستغلالها تمنح للخواص و قد ألزم المشرع أصحاب الرخص أو أصحاب الامتيازات بعدم القيام بأعمال البحث أو الاستغلال على سطح اﻷرض داخل منطقة 50 مترا على جوانب الطرق العمومية[18].

كما تلعب الارتفاقات المحددة في وثائق التعمير دورا كبيرا في حماية الملك العام و الحفاظ عليه و على جماليته و نستدرج فيما يلي بعض الارتفاقات المحددة بتصميم التهيئة و المنصوص عليها بالمادة 19[19] و من بينها حدود الطرق و المسالك و الساحات و موقف السيارات الواجب الحفاظ عليها حدود المساحات الخضراء العامة المواقع المخصصة للتجهيزات العامة كتجهيزات السكك الحديدية و التجهيزات الصحية و الثقافية و المباني اﻹدارية و المساجد و المقابر، اﻷحياء و اﻵثار و المواقع التاريخية و اﻷثرية.

المبحث الثاني: دور القضاء في حماية الارتفاقات الإدارية

من المسلم به أن حق الملكية هو حق دستوري، بل يعتبر من الحقوق الطبيعية، ونظرا لأهميته فإنه يحظى بحماية خاصة، لكن هذه الحماية تجد حدا لها حينما يرتبط الملك الخاص بالمنفعة العامة، ما يجعل الملك العام يقيد حرية استغلال الملك الخاص المجاور له، بفرض ارتفاقات قانونية عليه، ومقررة بنصوص خاصة.

المطلب الأول: تقييد حرية استغلال الملك المجاور للملك العام
يستفيد مالك العقار من مجموعة من الحقوق على ملكه، وقد حددتها مدونة الحقوق العينية، لكن قد يترتب على ممارسة صاحب العقار المجاور للملك لحقوقه إضرار بالمنفعة العامة أو ضرر بمرفق عام، لهذه الغاية نجد أن الأملاك العامة تثقل بعض الارتفاقات على الأملاك المجاورة لها.

فبالنسبة للارتفاقات التي تفرضها المرافق العسكرية على الأملاك المجاورة لها، نجد أن ظهير 7 غشت 1934، كما ذكرنا سابقا، يمنع على صاحب الملكية المجاورة للمناطق العسكرية من البناء والزراعة، في جزء من العقار المجاور لها، وتحدد مساحة الأجزاء المثقلة بارتفاقات إما بموجب قانون أو بقرار إداري.[20]

والتساؤل الذي قد يطرح في هذا الصدد، هو الحالة التي يحصل فيها مالك العقار المجاور على رخصة من السلطات الجماعية بالبناء، أو رخصة بأي استغلال كان لملكه، وكانت هذه الرخصة تتعارض مع المحافظة على المرفق العسكري، هل سيزول الارتفاق، أم أن إدارة الملك العام المعني ستتصدى لهذه الرخصة وتمنع البناء وغيره، لكونه مرفق له طابع خاص، يقتضي السرية، وبالتالي منع أي تجسس على أنشطتها وأجهزتها بريئا كان أو غير بريء.

الجواب على هذا التساؤل نجده في حكم المحكمة الإدارية بوجدة، بتاريخ 13/03/1996 حيث قضت بما يلي:

“وحيث أنه بوجود عقار المدعية بقرب التكنة العسكرية بمسافة أقل من 37 متر، يكون القرار بمنعها من بناء قطعتها الأرضية شرعيا ومطابقا للقانون وذلك بالإستناد الى الفصلين 1 و2 من ظهير 7/8/1934.

وحيث إن الطاعنة وان كانت تتوفر على رخصة البناء مسلمة من البلدي، فإن الترخيص لا يحول دون تطبيق الأنظمة والقوانين الخاصة ومنها الظهير المذكور.”

” إن قرار السلطة العسكرية القاضي بمنع البناء، حتى ولو توفر المالك على رخصة للبناء يعتبر قرارا إداريا، ورخصة البناء المسلمة من المجلس البلدي لا تحول دون تطبيق الأنظمة والقوانين الخاصة، وخصوصا ظهير 07/08/1934 المتعلق بالحرمات الدفاعية.[21] “

أما بالنسبة للارتفاقات المتعلقة بالمحافظة على المباني التاريخية، والتي تهدف إلى حماية المباني التاريخية من الملكيات المجاورة المملوكة للخواص، فقد صدر حكم في شأنها عن المحكمة الإدارية بفاس بتاريخ 06/08/1997، عندما أصدر وزير الشؤون الثقافية قرار إيقاف أشغال تجزئة عقار بمحاذاة مبنى تاريخي بمدينة تازة على الرغم من حصوله على رخصة بتجزئته من طرف السلطة الجماعية المختصة. حيث قضت المحكمة بأن قرار وزير الشؤون الثقافية بتوقيف البناء، هو قرار يستند على سبب مشروع وصحيح، ولو أنه بناء مرخص له من طرف السلطة الجماعية المختصة، طالما أن هذه الرخصة لم توافق عليها السلطة المكلفة بالشؤون الثقافية.[22]

إننا ومن خلال حكم المحكمة الإدارية بوجدة في مسألة منع البناء بجوار المناطق العسكرية لصيانة الحرمات الدفاعية، وكذا حكم المحكمة الإدارية بفاس القاضي بإيقاف البناء بجوار المآثر التاريخية للحفاظ على هذه الأخيرة. نستنتج أن السلطة الجماعية المختصة تتحمل المسؤولية الإدارية عن فعلها، لأن الظهيرين المنظمين لهذه المرافق يفرضان موافقة السلطة العسكرية والشؤون الثقافية كل في مجال اختصاصه على رخصة البناء أو الاستغلال، هذه الموافقة تكون بقرار إداري، يدرج ضمن الوثائق الواجب تقديمها للسلطة الجماعية.

وقد اعتبر الأستاذ محمد القصري أن المالك الذي استفاد من الرخصة لاستغلال ملكه المجاور للملك العام، يتحمل هو أيضا جزء من المسؤولية طبقا لقاعدة “لا يعذر أحد بجهله للقانون”[23].

وفي حكم آخر للمحكمة الإدارية بفاس، والذي يتعلق بتجزئة عقار يعود لملكية خاصة، حيث اعتبرت المحكمة أن تخصيص مساحة فارغة من البناء كمحطة لوقوف السيارات ومساحة للمرور في تجزئة مسلمة رخصة إحداثها من قبل المجلس الجماعي، وأنجزت وفقا للتصميم المصادق عليه، يضفي بالضرورة بعد إنجاز مشروع التجزئة المذكورة إلى اكتساب هذه المساحة صبغة الملك العام تنتفع وتستفيد منها كافة القطع الأرضية المخصصة للبناء في هذه التجزئة[24].

نستنتج من هذا الحكم أن صاحب الملكية العقارية الخاصة، يتمتع بملكيتها في شموليتها دون اقتطاع أي جزء أو مساحة منها، لكن هذا قبل تجزئتها، لأنه عند تسلمه رخصة التجزئة والشروع في التقطيع. فإن ما يخصصه من عقاره للمنفعة العامة من ممرات وحطة لوقوف السيارات، ينتقل للملك العام وهذا صائب، لأن كل ما يخصص للمنفعة يجب أن ينقل للملك العام، حفاظا عليه من الاعتداء وكذا استفادته من الحماية المدنية والجنائية.

وما يجب الإشارة إليه أن هذه الارتفاقات التي تحد من سلطة مالك العقار في التصرف الكامل، يجب ألا تتجاوز المسموح به، حيث اعتبرت المحكمة الإدارية بوجدة في قضية نور الدين ضد رئيس المجلس البلدي لجماعة سيدي ادريس القاضي، أن حيازة جزء من عقار المدعي من طرف الإدارة لتوسيع طريق عمومي، في إطار تصميم التهيئة دون استئذان القضاء ومن غير تحديد التعويض المستحق من طرف الجهة المختصة، يجعل عملها غصبا يستوجب التعويض الكامل.[25]

لكن المسلم به أن المعني بالأمر الذي فقد جزء من عقاره لصالح طريق عمومي لا يمكنه استرجاع خاصته، وبالتالي ينتقل مركزه القانوني من مالك لكل العقار، الى مطالب بالتعويض عن الجزء الذي أصبح ملكا على الشياع. وهذا ما أكدته المحكمة العليا بمصر، حيث قضت: “الارتفاقات الإدارية المقررة لخدمة الملك العام، تعتبر أملاك عامة لتعلقها بالملك العام الذي تخدمه، فيكون لها كذلك ما للأملاك العامة، من خصائص وحصانة، وتبقى ما بقي الملك العام المحدد مخصصا للمنفعة، ولا تنقضي إلا بانتهاء تخصيصه لهذه المنفعة، أبتخصيصه لجهة نفع أخرى، غير تلك التي من أجلها تقرر الارتفاق”[26]

المطلب الثاني: فرض ارتفاقات إدارية على الأملاك المجاورة للملك العام
[27]

سنتناول في هذه النقطة ارتفاقات إدارية يفرضها الملك العام على الأملاك المجاورة، وهي شبيهة نوعا ما لحق الارتفاق الذي يمارس بين عقارات الأشخاص العاديين، لأن الملك العام في هذا النوع من الارتفاق لا يجبر مالك العقار المجاور على عدم الإستفادة من مساحة معينة في ملكه كما رأينا سابقا، وإنما يفرض عليه ارتفاقات للمنفعة العامة لا تحد من استغلاله الكلي لملكه إلا في حالات معينة، وسنكتفي بالحديث عن التوجهات القضائية فيما يخص على تمرير أعمدة الكهرباء بأراضي الأغيار المجاورة للملك العام، وكذا وضع الأسلاك التلغرافية والتيليفونية والأبنية الحديدية المعدة للتلغراف اللاسلكي والمواصلات الكهربائية.

بالنسبة لارتفاق تمرير أعمدة الكهرباء بأراضي الأغيار، فهو ارتفاق يخول تعويض المتضرر عن الأضرار الناشئة عن الأشغال اللازمة لإقامة وتركيز أعمدة كهربائية على صاحب الملك.[28] بل أصبح القضاء المغربي يأخذ بالحسبان الأضرار التي يمكن أن تتسبب فيها هذه الأعمدة الكهربائية، ونستنتج ذلك من خلال حكم المحكمة الإدارية بمراكش بتاريخ 23 يناير 2006، حيث قضت بما يلي: “وحيث الضرر الحقيقي والثابت الذي لحق المدعي في نازلة الحال ينحصر في حرمانه من جزء من العقار المملوك له والذي وضع العمود فوقه، وفي الأخطار التي قد يسببها تواجد عمود كهربائي بهذا الحجم بمحاذاة منزل أحد الخواص،

وناقص القيمة الذي أصاب ملكه جراء عدم احترام المكتب المدعى عليه لمسافة الأمان التي كان ينبغي مراعاتها حين وضعه لذلك النوع من الأعمدة التي تحمل الخيوط الكهربائية ذات الضغط المتوسط والتي تؤثر سلبا على صحة الإنسان ويؤدي سقوطها الى إضرار فادحة على الجوار، وقيامه بوضع إحداها أمام منزل المدعي بشكل يقلل من قيمته ومن امكانية التصرف فيه بكامل الحرية…”[29]

لكن رغم الضرر الذي يلحق بالمعني بالأمر، فإنه لا يخول له الحق في إزالته، أو حتى إبعاده، وهذا ما جاء به حكم المحكمة الإدارية بوجدة في حكمها الصادر بتاريخ 6 أكتوبر 1999، عندما اعتبرت أن المكتب الوطني للكهرباء حين وضعه للأعمدة والناقلات قد طبق مقتضيات الفصل الثاني من ظهير 5 غشت 1963.

وبما أن القانون يعطي للمكتب الوطني للكهرباء امتياز وضع أعمدة كهربائية على أملاك الخواص، فإن طلب هدم الأعمدة وإزالتها على ملك صاحب الطلب يعد غير مؤسس[30]

بالعودة الى ظهير فاتح يوليوز 1914، وبالضبط الفصل الثالث منه نجده ينص على ما يلي: ” يجب على من له ملك خاص، أن يتحمل الواجبات المتعلقة بالمرور والجولان في ملكه ويجعل جميع أنواع الحالات اللازمة لإحداث الأسلاك التلغرافية والتيليفونية والأبنية الحديدية المعدة للتلغراف اللاسلكي والمواصلات الكهربائية الداخلة في عداد الأسلاك العمومية” ومن خلال النص فإن إزالتها من المالك المعني يعد عمل وتصرف غير قانوني، بل إنه لا يملك حق المطالبة بإزالتها، وهذا ما أكدته المحكمة الإدارية بوجدة في قضية لبيض ضد إدارة البريد، حيث قضت بأن المطالبة بإزالة خط هاتفي ملصق بحائط منزل الطالب يتنافى وحق الارتفاق المقرر بمصلحة الخطوط البرقية والهاتفية بمقتضى القانون.

لكل ذلك، يبقى الحق الوحيد لمالك العقار المثقل بارتفاقات، والمتضرر منها ضررا مباشرا أن يستحق التعويض في حدود الضرر الذي لحق به. غير ذلك فإنه لا يحق له أن يطالب بحق آخر، لكن هناك نظرية قد يستفيد منها المتضرر إذا كان ضرره ناتج عن مقتضى قانوني، وهذه النظرية تسمى بمسؤولية الدولة عن القوانين.

وفي هذا الإطار يميز “دوجي” بين نوعين من القوانين، تلك التي تتصل بالنظام العام وتحرم نشاطا ضارا بالمجتمع وهنا لا تلتزم الدولة بالتعويض، وبين القوانين التي تحرم نشاطا أو عملا غير ضار بالمجتمع ولا يتنافى مع الأخلاق الحميدة، فينبغي تعويض الأفراد المتضررين منها استنادا لمبدأ المساواة أمام الأعباء العامة[31].

وبهذا فإن دوجي يقر بأحقية ملاك الأملاك المثقلة بارتفاقات في المطالبة بالتعويض على أساس مسؤولية الدولة على القوانين والمساواة أمام الأعباء العامة، لأنه من غير المنطقي أن يتحمل شخص، ما يتطلب تحقيق المنفعة العامة على حسابه، وبالتالي تعويضه على ضرره.