امتهان الدعاوى الكيدية

بعض ضعاف النفوس همه تحصيل المال بأي طريق, ولو بأسلوب جرجرة الناس إلى المحاكم بغير وجه حق, وبعضهم لا يريد تحصيل المال, وإنما التنفيس عن حقده الدفين تجاه هذا أو ذاك, حتى أصبحت المرافعة عند هؤلاء أشبه بالصنعة, ولو غاب عن الحضور إلى المحكمة لأسبوعين أو ثلاثة لافتقده القضاة وموظفو المحكمة, وأحدهم لو لم يجد شخصاً يخاصمه لاتجه إلى المحكمة, وترافع أمام القاضي, وخاصم نفسه, مدعياً أنها فشلت في توريط خصم ثامن وتاسع, طالباً الحكم على نفسه بنكال..! ورافضاً القناعة بحكم القاضي؛ لئلا يكتسب الحكم القطعية إلا بعد مروره بمحكمه التمييز, وبهذا ينجح في إشغال المحاكم العادية ومحاكم التمييز, ويكون خصماً بامتياز لأصحاب الفضيلة, كان الله في عونهم.! وكم شقي العديد من الناس من أولئك الذين لا هم لهم إلا افتعال الخصومة معهم, وإشغالهم عن همومهم اليومية, وقضاياهم الرئيسة, ليكونوا ضحايا بالمجان لأصحاب الكذب والمكيدة..! حتى إن بعضهم ليرفع في الوقت الواحد عدة قضايا لدى مجموعة من القضاة.!
وكم من ضحايا هذه الدعاوى الكيدية, ممن اكتووا بنار السجن, أو بسوط العقوبة, وهم منها براء, وذلك بسبب ما ينسجه أصحاب هذه الدعاوى من كذب وزور, مع ما أوتوا من لحن في الحجة, وقدرة على التدليس والتلبيس, اكتسبوها مع طول التجربة, وسعة الخبرة.!

وهذا الواقع المر لا يمكن علاجه إلا بتعزير أصحاب مثل هذه الدعاوى التي تلحق الضرر بالناس, وتطيل أمد الترافع, وتشغل المحاكم بالنظر فيما لا طائل من ورائه, سوى إشغال القضاة, والإضرار بالناس, وجلب مصالح شخصية لذلك الخصم المدعي, ولهذا كانت لائحة نظام المرافعات صارمة تجاه هؤلاء المتلاعبين, بإعطاء القاضي صلاحية التعزير بما يردع أصحاب هذه الدعاوى, ويحد من تلاعبهم, فقد جاء في لائحة نظام المرافعات في الفقرة الخامسة من المادة الرابعة ما نصه: “إذا ثبت لناظر القضية أن دعوى المدعي كيدية, حكم برد الدعوى, وله الحكم بتعزير المدعي بما يردعه” فبينت هذه الفقرة أنه ثبت لدى القاضي أن الدعوى كيدية (وهي الدعوى التي لا يقصد من ورائها مصلحة مشروعة, وإنما يقصد من ورائها الكيد بالخصم؛ لأخذ ماله ظلماً, أو لمجرد إلحاق الأذى به, أو إزعاجه) أنه إذا ثبت ذلك لدى القاضي, فيتخذ إجراءين رئيسين:

1- رد الدعوى.
2- الحكم على المدعي الكاذب بنكال, أي عقوبة رادعة.
وهذا الإجراء من شأنه أن يقلل بشكل كبير من حجم القضايا المعروضة في المحاكم لو تم تفعيله كما جاء في اللائحة.
أما لو ثبت للقاضي أن الدعوى كيدية, فرد الدعوى, لكنه لم يحكم عليه بعقوبة تعزيرية تردعه وأمثاله, فهذا يؤدي إلى أمور, منها:
1- استمرار هذا المدعي في رفع دعاواه الكيدية.
2- إشغال المحاكم بقضايا كاذبة.
3- إلحاق الأذية بالناس, وإزعاجهم بهذه القضايا.
ولا ريب أن كثيراً من القضاة يحجم عن الحكم بنكال على أصحاب هذه الدعاوى؛ لانشغالهم بقضايا كثيرة”مع قلة الكوادر القضائية” فيكتفون برد هذه الدعوى, ولا سيما أنه يصعب إثبات الكيدية في الدعوى, حتى أصبحت هذه الفقرة من الفقرات المطمورة في اللائحة, مع كونها ملائمة لمقصد الشارع, الذي اعتبر أعراض الناس وأموالهم من الضرورات الخمس, ولهذا فإنه من وجهة نظري يمكن أن تفعل هذه الفقرة من اللائحة, وذلك بالأخذ بالقرائن القوية كوسيلة من وسائل إثبات الدعاوى الكيدية, ولا سيما على ذلك المدعي الذي يوشك أن يتوطن المحكمة.! وإذا تأكد تفعيل هذه الفقرة من اللائحة على قضاة محاكم المدن الكبرى, فقضاة المدن الصغرى والقرى من باب أولى؛ لقلة القضايا الواردة إليهم, ولو استدعى الأمر بالأخذ بشرط الخلطة عند المالكية بتفاصيله؛ لئلا يكون هذا النوع من الدعاوى سوطاً يجلد به ظهور الناس, وأجزم أنه لو تم الحزم مع أصحاب هذه الدعاوى لخفت القضايا المعروضة في المحاكم بنسبة 20 في المائة على أقل تقدير, وبهذا يخف العبء على القاضي- في المدى البعيد – وينحسر أمد المواعيد, ويحمل أصحاب هذه الدعاوى الكاذبة على امتهان مهنة أخرى شريفة.