مقال قانوني حول أركان جريمة الرشوة

أ/ حنين نصار

علة تجريم الرشوة :-

الشارع الجنائي لا يجرم فعل ويقرر له عقابا إلا بغرض إضفاء الحماية اللازمة على مصلحة أو حق يراه جديرا بهذه الحماية ويكون في إتيان هذا الفعل مساسا بتلك المصلحة أو الحق أو تهديدا له .
والموظف العام وكل من بيده قدرة من السلطة العامة هو رمز للجهة الإدارية التي يتبعها ونموذجا وممثلا لها في ذهن ونظر جمهور المتعاملين معها .

وعلة تجريم الرشوة تكمن في رغبة الشارع في شمول حمايته للوظيفة العامة بأن يقيها صورة السلوك المختلفة التي تصدر عن شاغلها ويكون من شأنها التعريض بنزاهتها والدنو بهيبتها والحط من وقار الدولة ومكانتها في نظر جمهور المتعاملين مع مرافقها ومؤسساتها .
فالموظف المرتشي لا يسئ على نفسه بقدر إساءته للجهة الإدارية التي يمثلها أمام المستفيدين من خدماتها ن لأنه في سبيل تحقيق نفع مادي شخصين عن طريق اتجاره في الوظيفة ، يخلق لدى الجمهور
شعورا بعدم الاطمئنان وفقدانا للثقة الواجبة في الجهة الإدارية بأسرها

تعريف الرشوة الأصلية :-

يمكن تعريف هذه الجريمة بأنها ” جريمة الموظف العام الذي يطالب أو يقبل أو يأخذ وعدا أو عطية لأداء عمل من أعمال أو للامتناع عنه أو للإخلال بواجبات الوظيفة في أية صورة ، ولا يقدح في ذلك إتجاه نية الموظف إلى عدم الوفاء بمقابل الرشوة المطلوب منه.

تقوم جريمة الرشوة الأصلية على أركان ثلاثة :-

الركن الأول : الركن المفترض صفة الموظف العام ) .
الركن الثاني : الركن المادي .
الركن الثالث : الركن المعنوي .
ونتناول بالبيان تفصيل كل ركن من هذه الأركان الثلاثة فيما يلى :-
الركن الاول : الركن
المفترض صفة الموظف العام :-

المقصود بالموظف العام :-

ولم يضع الشارع الجنائي تعريفا للموظف العمومي ( العام ) الذي قصده بنصوص التجريم السابقة مما حد ا بالفقه الجنائي غلى الركون في ذلك إلى الركون في ذلك إلى معناه المعرف به في المجال الإداري .
وجرى والفقه القضاء الإداري في مصر على أن المقصود بالموظف العام : “كل من عين في خدمة مرفق عام تديره الدولة أو أحد أشخاص القانون العام بطريق مباشرة ” .

وطبقا لهذا التعريف فإنه يعتبر موظفا عاما من تتوافر فيه العناصر التالية :-

العنصر الأول :- العمل في خدمة مرفق عام سواء كان مرفقا عاما ( قوميا ) يشمل نشاطه الدولة بأسرها أو ( إقليميا ) قاصرا في نشاطه على جزء أو منطقة معينة م ن الدولة

العنصر الثاني : إدارة المرفق العام بالأسلوب المباشر ويقصد بذلك أن تتولى الدولة بنفسها ( الحكومة المركزية) أو عن طريق وحدتها المحلية العامة ( اللامركزية ) إدارة المرفق العام مستعينة في ذلك بأموالها وموظفيها ومستخدمة وسيلة القانون العام .

العنصر الثالث :- التعيين من قبل السلطة المختصة لا تكتسب صفة الموظف العام إلا بالنسبة لمن إستوفى أداة التعيين قانونا بأن صدر له قرار بذلك من الجهة الإدارية المختصة .
وعلى الرغم من ذلك فإن الفقه والقضاء الإداريين يعتبران ( موظفا فعليا ) من باشر عملا في مرفق عام يدار مباشرة بموجب قرار تعيين باطل ( الموظف الفعلي في الظروف العادية ) أو بدون قرار تعيين مطلقا ( الموظف الفعلي في الظروف الاستثنائية ) .

ما لا يؤثر في ثبوت صفة الموظف العام :-

إذا توافرت العناصر الثلاثة السابقة اكتسب الموظف صفة العمومية مما يصح معه قانونا اعتباره فاعلا في جريمة الرشوة . ولا يقدح في ثبوت صفة الموظف العام لفاعل الرشوة أي من الاعتبارات التالية :
1- مستوى الوظيفة التي يشغلها فسواء أن تكون الوظيفة من وظائف التوجيه والقيادة أم من الوظائف الدنيا التي يطلق على شاغليها مسمى ( العمال ) أو المستخدمين .
2- صفة الوظيفة من حيث الديمومة أو التوقيت فسواء أن تكون الوظيفة من الوظائف الدائمة التي ينقطع فيها الموظف لخدمة الدولة أو كانت عارضة مؤقتة .
3- نوع القانون الذي يحكم الوظيفة العامة 00فسواء أن يكون الموظف خاضعا للقانون العام الذي يحكم الوظيفة العامة ( قانون العاملين المدنيين بالدولة ) أو يحكم وظيفته قانون خاص .
4- أن يتقاضى الموظف راتبا من عدمه00 فسواء في اكتساب الشخص صفة الموظف العمومي أن يشغل وظيفة مقرر لها مقابل مادي في صورة أجر أو راتب أم كان لا يتقاضى عنها أيا من ذلك ومثال ذلك المأذون والعمدة .
5- أن يعمل الموظف في إحدى سلطات الدولة المركزية التشريعية أو التنفيذية أو القضائية أم في سلطاتها اللامركزية سواء كانت إقليمية ( هيئات الإدارة المحلية ) أو مصلحيه ( كالمؤسسات والهيئات العامة ) .
6- أن يكون الموظف حين تقاضيه الرشوة في غير أوقات العمل الرسمي أو خارج مقره لا تسقط صفه الموظف العام إلا بإحدى الطرق المحددة قانونا الاستقالة بلوغ سن المعاش العزل من الوظيفة الإحالة إلى الاستيداع الوفاة .. الخ .

الركن الثانى : الركن المادي :-
أن الركن المادي في جريمة الرشوة الأصلية يقوم على عنصرين :-
العنصر الأول : سلوك يباشره الموظف في سبيل حصوله على الرشوة .
العنصر الثاني : مقابل يطلب من الموظف نظير الرشوة .
وسوف نوالى توضيح ذلك :-

اولا : صور سلوك الموظف :-
يسلك الموظف وهو بصدد سعيه إلى الحصول على الوعد أو العطية موضوع الرشوة أحد أنماط سلوكية ثلاثة حصرتها المواد القانونية السابقة في أفعال : الطلب ، أو القبول ، أو الأخذ .
الصورة الأول :-

الطلب :-
اهو دعوة للإرشاد موجهة من الموظف إلى أحد أو بعض أصحاب المصالح من جمهور المتعاملين معه بصفته الوظيفية يعرض بموجبها ذمته للبيع ويعبر بها عن إتجاه إرادته إلى الاتجار في الوظيفة العامة والإثراء غير المشروع على حساب هيبتها وكرامتها .
وبمعنى آخر فإن الطلب هو إيجاب بالرشوة صادر من الموظف العام بإرادته المنفردة وموجه إلى الغير من أصحاب المصالح لديه فإذا قبله هذا الأخير وقعت الرشوة تامة ولو لم يحصل تسليم للجعل بالفعل .وليس بلازم أن يلاقي هذا الإيجاب قبولا من لدن الموجه إليه فتقع جريمة الرشوة بمجرد حصول الطلب من الموظف حتى ولو لم يلق استجابة ممن وجه إليه ، بل حتى ولو سارع هذا الأخير بإبلاغ السلطات العامة بأمر هذا الطلب .

والسبب في اعتبار الرشوة قد وقعت تامة بمجرد فعل الطلب من الموظف أن معاني الإتجار بالوظيفة والإخلال بموجبات الثقة العامة اللازمة في شاغليها التي هي علة تجريم الرشوة والعقاب عليها تكون متوفرة في حق الموظف الذي يتدنى بطلب الرشوة.

وقد ساوى الشارع بين أن يحصل طلب الرشوة للموظف نفسه أو لغيره وسواء في هذا الغير أن يكون منقطع الصلة بالوظيفة العامة كزوجة الموظف أو أحد أبنائه أو أقاربه أو معارفه .
ولم يتطلب الشارع شكلا معينا يلزم أن يفرغ فيه الطلب الذي تقوم به جريمة الرشوة فسواء أن يكون كتابة أو شفاهة أو أن يحصل بإشارة أو رمز ذي دلالة عليه في العرف الاجتماعي السائد .

الصورة الثانية :
القبول :-
يقصد بالقبول تعبير الموظف عن إرادته في الموافقة على عرض الرشوة أو الإيجاب بها الصادر عن صاحب المصلحة الراشي فالقبول يفترض سبق حصول إيجاب بالرشوة من قبل الراشي يصادف هو في نفس الموظف المعني وفي ذلك يختلف القبول عن الطلب من حيث أن الإيجاب بالرشوة في هذا الأخير يكون صادرا عن الموظف لا الراشي .
وتقع الجريمة تامة بمجرد قبول الموظف للإيجاب بالرشوة المطروحة عليه00 دون أن يكون قد حصل بالفعل على الوعد أو العطية محل هذا الإيجاب لأنه لو حصل عليه بالفعل كان ذلك أخذ تتحقق به الصورة الثالثة . وسواء في الإيجاب بالرشوة المقدم من الراشي أن يكون جديا حقيقيا أو هزليا أراد به صاحب المصلحة أن يغري الموظف ويعبث براسه ويسيل لعابه حتى ينهي له خدمته أو أراد به الإيقاع بالموظف لدى جهات الضبط المختصة مادام أن هذا الإيجاب قد لقي قبولا جديا من قبل الموظف .
وتطبيقا للمعنى المتقدم فقد قضت محكمتنا العليا بأنه : ” لا يؤثر في قيام أركان جريمة الرشوة أن تقع نتيجة تدبير لضبط الجريمة ، وأن لا يكون الراشي جادا في عرضه على المرتشي متى كان عرضه الرشوة جديا في ظاهره وكان الموظف قد قبله على أنه جدي منتويا العبث بمقتضيات وظيفته لمصلحة الراشي .

الصورة الثالثة :
الأخذ :-
تتحقق هذه الصورة بحصول الموظف المرتشي على الوعد أو العطية موضوع الرشوة وصيرورته خاضعا لهيمنته على نحو يمكنه من ممارسة سلطات الحائز عليه 00وغني عن البيان أن الأخذ بهذا المفهوم ينطوي بالتأكيد على معنى القبول كذلك فلا يكون الأول متصور بغير حصول هذا الأخير إما سابقا عليه زمنيا أو معاصرا له .
وتختلف الطريقة التي يتم بها فعل الأخذ بحسب طبيعة الوعد أو العطية موضوع الرشوة وهل هو شيء مادي أو معنوي فاذا كان شيئا ماديا ملموسا في العالم الخارجي نقود ، سيارة ، أجهزة ، أي نوع ، ملابس ، مفروشات … الخ فإن أخذها يتحقق بتسلم الموظف لها وضمها إلى حيازته . وسواء في هذه الحالة أن يحصل التسليم إلى الموظف من قبل الراشي أو عن طريق وسيط أو بطريق البريد أو غير ذلك من وسائل .
وسواء كذلك أن يحصل التسليم إلى الموظف المرتشي شخصيا أو الى شخص آخر يعين لهذه المهمة من قبل الراشي أو المرتشي .
ويكون التسليم حكميا في الأحوال التي تكون العطية فيها موجودة سلفا بين يدى الموظف المرتشي بوصفه حائزا حيازة مادية ناقصة ثم يتفق مع الراشي على قلب حيازته غلى حيازة تامة بحيث يظهر عليها بمظهر المالك لها المتصرف فيها ومثال ذلك أن يكون الموظف مستأجرا قطعة أرض أو شقة من الراشي أو متسعيرا سيارته أو مدينا له بمبلغ من النقود فيملكه الأخير العين المؤجرة أو السيارة أو يبرئه من الدين مقابل العبث بوظيفته لمصلحة الراشي .
الشروع في الرشوة :-
الرشوة الأصلية من الجنايات والقاعدة في هذه الأخيرة أنه يعاقب على الشروع فيها طبقا لما هو مقرر .
يبد أن تقرير الشارع العقاب على الشروع في الجنايات كمبدأ عام يفترض معه مكنة تصور الشروع في الجناية بمفهومه القانوني وطبقا للوضع الذي يتخذه السلوك المادي فيها فهل يكون الشروع متصورا قانونا في جريمة الرشوة الأصلية إذا استعرضنا صور السلوك الثلاثة السابقة التي تتحقق بأي منها ماديات الجريمة فإنه يمكن القول بإستبعاد إمكانية حصول الشروع في فعلى ( القبول و الأخذ لأنه من المتعذر تجزئة إيهما ماديا على نحو يمكن معه القول بتصور حصول البدء في التنفيذ بمعناه المعروف في الشروع فكلا الفعلين غير قابل بطبيعته للتبعيض أو التجزئة ، فإما أن يقع تاما وإما ألا يقع على الإطلاق .
أما فعل الطلب فالامر بشأنه محل خلاف فمن الشراح فريق يرى أن الطلب يتم بمجرد صدور فعل من الموظف المرتشي يعبر به عن إرادته المنفردة في الإيجاب بالرشوة دون لزوم وصول هذا الإيجاب إلى علم صاحب المصلحة وطبيعي أن يساير هذا الفريق من الشراح وجهته هذه منتهيا إلى القول بعدم تصور الشروع كذلك في فعل الطلب شأنه في ذلك شأن سابقيه .
ومن الشراح من يذهب إلى القول بعدم حصول الطلب تاما قانونا ما لم يصل بالفعل إلى علم صاحب المصلحة المخاطب به دونما إعتبار لموقف هذا الأخير حيال الطلب رفضا أو قبولا .
وطبيعي أيضا أن ينتهي هذا الفريق من الشراح إلى القول بإمكانية تصور الشروع في الرشوة في صورة فعل الطلب وذلك في الأحوال التي يصدر فيها الطلب عن الموظف إلا أنه لا يصل بالفعل إلى علم صاحب المصلحة لأسباب خارجة عن إرادة الموظف فيعتبر شارعا في الرشوة الموظف الذي يفرغ طلبه للرشوة في رسالة يوجهها إلى صاحب المصلحة إلا أن الرسالة تقع في يد السلطات المعنية قبل وصولها غلى هذا الأخير وكذلك الحال بالنسبة للموظف الذي يطلب من وسيط إبلاغ إيجابه بالرشوة إلى صاحب المصلحة فلا يفعل ويبلغ الجهات المختصة .

ونحن أميل إلى إعتناق هذه الوجهة الأخيرة من فريق الشراح بسبب ما تتسم به من واقعية ونطقية ولأن في الأخذ بالنظر الأول توسعا في تفسير معنى الطلب الذي عناه الشارع في جريمة الرشوة وهو توسع في غير صالح المتهم مما يخالف ما هو مستقر عليه من ضرورة التزام التفسير الضيق لنصوص التجريم .

الوعد أو العطية موضوع الرشوة :-

ينصب سلوك الموظف في أي من صوره الثلاث السابقة على وعد أو عطية يكون هو موضوع الرشوة التي يطلبها أو يقبلها أو يأخذها .
ولم يتطلب الشارع في الوعد أو العطية موضوع الرشوة أية صفة أو طبيعة أو مسمى خاص فأنه لا عبرة في الوعد أو العطية بالمسمى الذي يطلب عليه فسواء أن يسمى اتعابا أو عمولة ، أو هدية أو مكافأة أو عربون صداقة ومحبة أو هبة أو بقشيش أو غير ذلك من مسميات لا تقع تحت حصر .
ولا عبرة بطبيعة الوعد أو العطية فسواء أن يكون ماديا ملموسا أو معنويا حسيا ، على ما بينا سلفا وسواء أن يكون ظاهرا أو يقدم في صورة مستترة ومثال ذلك أن يقدم الراشي شالية يملكه أو يستأجره إلى الموظف لقضاء عطلة الصيف أو الشتاء تدون أن يتقاضي مقابلا عن ذلك أو يدعوه لقضاء نزهة خارج البلاد أو داخلها ، أو يصنع له أثاثا أو يصلح له شيئا دون مقابل يدفعه الموظف أو أن يخل الراشي بواجبات وظيفته بافتراض أنه هو الآخر موظفا عاما لصالح الموظف المرتشي مقابل ما يؤديه هذا الأخير للأول من أمر مماثل وفي هذه الحالة يعد كلا الطرفين راشيا ومرتشيا في ذات الوقت إذ يكون بصدد جريمتي رشوة أصليتين مرتبطتين ماديا بما لا يقبل التجزئة .

والرأي عندنا أن عدم الإعتداد بقيمة الوعد أو العطية لا ينبغي أن يقود إلى القول بقيام جريمة الرشوة في جميع الأحوال بالغا ما بلغت تفاهة وضالة قيمة الوعد أو العطية فجسامة العقوبة المقررة جزاء للجريمة يدعونا إلى القول بضرورة ألا تدنو قيمة الرشوة إلى الحد الذي لا يتصور معه وصفها بأنه ( فائدة ) بالمعنى الذي قصده الشارع خاصة إذا كان العرف الاجتماعي السائد مقرا لها فلا يصدق على السيجارة مثلا أو قلم بسيط يقدمه صاحب المصلحة إلى الموظف ليكتب به أوراقه أو شيء مما توزعه الشركات والمؤسسات على المتعاملين معها كدعاية لنشاطها أو بمناسبة بدء العام الجديد لا يصدق على أي من هذه الأمور وما شابهها وصف الوعد أو العطية المقصود في معنى الرشوة .

ثانيا : مقابل الرشوة :-

يقصد بمقابل الرشوة ما يقوم به الموظف العام المرتشي أو ما يطلب منه القيام به من عبث وظيفي نظير ما يطلبه أو يقبله أو يأخذه من وعد أو عطية فمن غير المتصور أن يوصف سلوك الموظف بكونه إرتشاء قانونا مالم يكن مرتبطا سببيا بعبث بموجبات الوظيفة تتحقق به مصلحة الراشي على أي نحو ويمثل غرض هذا الأخير ومبتغاه من الرشوة .

صوره :
يتخذه المقابل المطلوب من الموظف المرتشي القيام به نظير الرشوة في إحدى صور ثلاثة :
– أداء عمل من أعمال الوظيفة
– الامتناع عن عمل من أعمال الوظيفة
-الاخلال بواجبات الوظيفة .

تنويه :-
قبل عرض صور مقابل الرشوة الثلاثة المذكورة نود التنبه ألى أن جريمة الرشوة تقع تامة في مادياتها بمجرد حصول فعل الطلب أو القبول أو الأخذ شريطة أن يقع أي من هذه الأفعال مرتبطا سببيا بإحدى صور المقابل أنفة الإشارة فلا يعد مرتشيا الموظف الذي يطلب أو يقبل أو يأخذ وعدا أو عطية منبت الصلة تماما بوضعه الوظيفي ، كأن يحصل ذلك على وجه من أوجه التبرع أو الشفقة على الموظف أو المساعدة المادية له من شخص لا مصلحة له على الإطلاق مع الموظف بصفته هذه .
الصورة الأولى : أداء عمل من أعمال الوظيفة :-
يتحقق مقابل الرشوة في هذه الصورة عندما يتعهد الموظف المرتشي أو يطلب منه القيام بعمل من أعمال وظيفته فيه مصلحة للراشي ففي هذه الصور ة يأتي الموظف سلوكا إيجابيا توصلا إلى تحقيق مقابل الرشوة المطلوب ومن أمثلة ذلك إصدار القاضي لحكم قضائي أو أن يقرر وكيل نيابة حفظ التحقيق أو يصدر الموظف ترخيصا ما أو بطاقة إثبات شخصية أو جواز سفر أو توصيل خدمة مرفقية مياه كهرباء ، غاز تليفون بما يحقق مصلحة الراشي .
وإذا كان الغالب أن يكون العمل المطلوب من الموظف أدائه مقابلا للرشوة عملا غير مشروع إلا أن ذلك ليس بشرط لازم .

الصورة الثانية : الإمتناع عن عمل من أعمال الوظيفة :-

تتحقق هذه الصورة خلافا لسابقتها بسلوك سلبي يأتيه الموظف المرتشي يمتنع بموجبه عن القيام بعمل تملى عليه واجبات وظيفته أدائه بلوغا إلى تحقيق مصلحة الراشي . ومن أمثلة ذلك : أن يتغاضى الجمارك عن ضبط مخالفة جمركية أو يمتنع رجل المرور عن تحرير محضر لشخص أرتكب مخالفة مروريه أو يتجاهل طبيب بيطري بالسلخانة التعليمات التي توجب إتلاف الذبائح الفاسدة التي لا تصلح للإستهلاك الأدمي أو يتجاوز مراجع حسابات إحدى الجهات الحكومية عن خطأ مالي أو يمتنع رجل شرطة عن القبض على محكوم عليه أو متهم في جريمة ، أو يمتنع محضر عن إعلان خصم بصحيفة دعوى أو إنذار قضائي …. وهلم جر .
وليس يلازم في الامتناع أن يقع تاما مطلقا فيكفي لتحقيقه مجرد التاخير في أداء العمل الواجب حتى ولو كان القانون لا يرسم أجلا محددا يلزم إنهاء العمل خلاله أو كان يرسم أجلا لذلك تمت مراعاته مادام أن التأخير قد حصل بتأثير من الرشوة وكانت ملحوظة فيه .
فيعتبر إمتناعا في هذه الصورة تراخي رجل الشرطة في الانتقال إلى مسرح جريمة ومعاينته ريثما يتمكن راشيه من العبث بالأدلة وتأجيل القاضي إصدار حكم في قضية جاهزة لذلك تمكينا للراشي من الهرب أو تهريب أمواله وتأخير المحضر في إعلان ورقة التكليف بالحضور لأحد الخصوم حتى آخر يوم في الموعد القانوني لئلا يتمكن من الحضور أو تحضير دفاعه .

الصورة الثالثة :
الإخلال بواجبات الوظيفة :

الإخلال بواجبات الوظيفة كصورة لمقابل الرشوة الذي يطلب من الموظف المرتشي أدائه وتساوت بين هذه الصور وسابقتيها من حيث كفاية أيها في توافر مقابل الرشوة . وغني عن البيان أن أداء الموظف عملا من أعمال الوظيفة الصورة الأولى أو إمتناعه عنه الصورة الثانية متأثرا في ذلك بطلب الرشوة أو قبوله لها أو أخذ أياها ، هو مما يعد بحسب ظاهر الأمر من الإخلال بواجبات الوظيفية .
بيد أن الوقوف عند حد المدلول اللفظي لهذه الصورة من شأنه رمي الشارع بالتكرار غير المفيد ن فلو كان هذا هو مقصده لكان حريا به الإكتفاء بالنص على الإخلال بواجبات الوظيفة دون حاجة للصورتين السابقتين .
ألا وأن شارعنا قد عدد هذه الصور وتنزيها له عن الرمي بالتكرار غير المفيد فلا مراء أن يكون قد قصد بالنص على الإخلال بواجبات الوظيفة شيئا آخر مخالفا لآداء عمل من أعمالها أو الإمتناع عنه

شرط الإختصاص بالعمل أو الإمتناع أو الإخلال :-

نوهنا سلفا أنه يكفي في مقابل الرشوة في أي من صور الثلاثة السابقة أن يكون مرتبطا سببيا بأفعال الطلب أو القبول أو الأخذ الصادرة عن الموظف فتقع الرشوة تامة بأي من هذه الأفعال الأخيرة سواء أدى الموظف العمل أو الإمتناع أو الإخلال الذي هو مقابلها أو يؤديه بل حتى ولو كان لا ينتوي القيام به إبتداء .
إلا أنه لزاما في جميع الأحوال وعلى ما بين من صريح نصوص المواد السابقة المنظمة لأحكام جريمة الرشوة الأصلية أن يكون الموظف المرتشي مختصا بالعمل المطلوب منه أدائه أو الامتناع عنه أو الإخلال به والمرجع في تقرير قيام شرط الاختصاص هذا غلى ما تقرره القوانين واللوائح والتعليمات التي تنظم مسالة الاختصاص والوظيفي .

وليس بلازم لقيام شرط الاختصاص إنفراد الموظف واستئثاره وحده بالعمل المطلوب أدائه مقابلا للرشوة وإنما يكفي أن يكون له فيه نصيب من الاختصاص يسمح له بتنفيذ الغرض من الرشوة .

وقد قضت محكمة مصر العليا في هذا الخصوص بأنه :” ليس ضروريا في جريمة الرشوة أن تكون الأعمال التي يطلب من الموظف أداؤها داخلة ضمن حدود وظيفته مباشرة بل يكفي أن يكون له علاقة بها ” .

الاعتقاد في الاختصاص والزعم به :-

ليس بلازم لقيام شرط الاختصاص في الرشوة أن يكون الموظف مختص بالفعل كليا أو جزئيا بالعمل المطلوب منه أداؤه فقد جاءت نصوص الرشوة أن يكون الموظف مختص بالفعل كليا أو جزئيا بالعمل المطلوب منه أداؤه فقد جاءت نصوص الرشوة السابقة صريحة في التدليل على مقصد الشارع في المساواة في هذا الخصوص بين الاختصاص الحقيقي بالعمل وبين الاعتقاد الخاطئ فيه أو الزعم من قبل الموظف المرشو .
والعلة في مساواة الشارع بين الاختصاص الحقيقي للموظف وبين الزعم به كذبا من حيث قيام جريمة الرشوة أن الموظف بمسلكه المشين هذا لا يكون قد استغل الوظيفة واتجر فيها فحسب وإنما يكون قد أحتال كذبا باسمها كذلك .
وقد عبرت محكمة النقض عن هذا المعنى بقولها :” إن جريمة الرشوة تتحقق من جانب الموظف ولو خرج العمل عن دائرة وظيفته بشرط أن يعتقد خطأ أنه من أعمال وظيفته أو يزعم ذلك كذبا .. إذ هو حينئذ يجمع بين إثمين الاحتيال والارتشاء .
وسواء في الزعم بالاختصاص أن يقع صراحة من الموظف أو يستفاد ضمنا من مسلكه مع الراشي .

الترتيب الزمني لعنصري الركن المادي :-

المستفاد من صريح نصوص المواد القانونية السابقة المنظمة للاحكام الخاصة بجريمة الرشوة الأصلية أن الشارع قد رسم ترتيبا زمنيا معينا لعنصرى الركن المادي في الجريمة على نحو لا يتحقق معه النموذج القانوني للرشوة بمراعاة حصول هذا الترتيب الزمني .

فلزاما يصدر عن الموظف أولا أحد الأنماط السلوكيةالتي يتحقق بأيها العنصر الأول والركيزة الأساسية في هذا الركن بأن يطلب أو يقبل أو يأخذ وعدا أو عطية ثم يعقب ذلك حصول مقابل الرشوة العنصر الثاني سواء في صورة أداء الموظف المرتشي لعمل من أعمال وظيفته أو أمتناعه عنه أو إخلاله به مع ملاحظة ما سبق قوله من قيام جريمة الرشوة الأصلية قانونا ولو لم يحصل هذا المقابل بالفعل في أي من صورة بل حتى ولو كان الموظف لا ينتوي أصلا القيام به .
فاعتبارات الاتجار بالوظيفة واستغلالها التي هي علة التجريم في الرشوة تقع ظاهرة جلية عندما يكون أداء الموظف لعمل من أعمال وظيفته أو امتناعه عنه أو الإخلال به على نحو تتحقق به مصلحة الراشي قد حصل بتأثير من الوعد أو العطية من قبل هذا الأخير وارتبط به برباط السببية المعنوية .

القصد الجنائي في الرشوة اللاحقة :-

لا تختلف طبيعة القصد العام من جريمة إلى أخرى فلزاما توافر إرادة السلوك ونتيجته لدى الجاني وانصرافه علمه وشموله للأركان والعناصر التي لا قيام للجريمة قانونا إلا بها