آفاق الرؤية الحكومية المفاجئة للمجتمع المدني

في معظم المجتمعات المتحضّرة، يُعتبر المجتمع المدني شريكاً هاماً وأساسياً في قيادة وصياغة وصناعة عملية التنمية بكافة اتجاهاتها، لما تتمتع به منظمات هذا المجتمع من تأثير هام وفعّال في حياة الناس والحكومة على السواء. ومما يميّز تلك المجتمعات، هو التشاركية الحقيقية مع الحكومات لتنفيذ خططها المطلوبة في حراكها السياسي والاجتماعي والاقتصادي… الخ.

تشاركية قائمة أساساً على تطوير وبناء قدرات المجتمع المدني، واحترام استقلاليته، مما يُعطي عملية التنمية بعدها المجتمعي الحقيقي والفعّال.
غير أن الوضع لدينا مختلف من حيث مبدأ هذه التشاركية بناءً على ما هو قائم اليوم، وما هو معمول به في ظل قانون تنظيم الجمعيات(الخيرية في معظمها) والنافذ منذ عام/1958/ فلقد شهدت السنوات الماضية حراكاً ملموساً وجهوداً حثيثةً لأجل النهوض من قبل المجتمع نفسه أولاً، ومن قبل الحكومة في بعض الأحيان، لكنها مازالت دون الطموح على جميع الأصعدة، بسبب ما يوضع أمامها من عراقيل تمثّلت في أحيان كثيرة بالإغلاق أو حظر التعامل (رابطة النساء السوريات) أو عدم الترخيص أو سحبه.
لكن، وتماشياً مع استيقاظ الحكومة وانفتاحها المفاجئ باتجاه المجتمع الأهلي (التسمية المفضّلة لدى الحكومة)، فقد قامت وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل مؤخراً بتشكيل لجنة من الوزارة وأعضاء من المجتمع المدني وخبراء بالقانون والإدارة والمالية، مهمتها الإعداد لمشروع قانون جديد ينظم عمل هذه المؤسسات، ويحقق الاستفادة المرجوّة في ظل الخطط التنموية للقطر والحاجات المتزايدة، لاسيما وأن الخطة الخمسية العاشرة قد أفردت فصلاً كاملاً للحديث عن المجتمع (الأهلي) ودوره في حياة البلاد، ولكن دون السعي الحقيقي والجاد في هذا الاتجاه.
يُذكر أن الأمانة السورية للتنمية(منظمة غير حكومية) قد نظمّت المؤتمر الدولي الأول للتنمية في سورية تحت عنوان (الدور الناشئ للمجتمع الأهلي في التنمية) الذي انعقد في دمشق أواخر كانون الثاني2010 والذي هدف إلى تطوير قدرات هذا المجتمع من خلال تبادل الخبرات حول التجارب التنموية في مختلف مناطق العالم، والتعريف بأحدث الأنظمة الإدارية المطبّقة في المنظمات غير الحكومية.

وقد رأى النائب الاقتصادي عبد اللـه الدردري في هذا المؤتمر أن الدولة وحدها لا تستطيع القيام بعملية التنمية، إذ قال (الدولة وحدها أثبتت فشلها وعدم قدرتها على تحقيق التنمية وهذا ثبت تاريخياً)، وأضاف (نحن نريد الدولة والسوق وبينهما نريد المجتمع الأهلي لأنه الوحيد القادر على تولي الإدارة الفعّالة لما يسمى الثروات المشتركة في المجتمع.)

ثم تأتي الأسابيع القليلة التي تفصلنا عن نهاية هذه الخطة وبداية الخطة الحادية عشرة، فنشهد يقظة فجائية نشطة من قبل الحكومة باتجاه المجتمع الأهلي، يقظة لم نعهدها من قبل وعلى أكثر من صعيد، لكن الشيء اللافت فيها ورشة العمل التي أقامتها الأمانة السورية للتنمية بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أواخر الشهر الماضي حول (تعزيز دور المجتمع الأهلي في الإعداد للخطة الخمسية الحادية عشرة)، والتي حاولت من خلالها إدماج المجتمع الأهلي لبناء قدرات هذه المنظمات من أجل ضمان مشاركة فاعلة للمجتمع الأهلي في عملية إعداد الخطة لتكون خطة تشاركيه يتبناها المجتمع السوري.
وقد تلا هذه الورشة الملتقى الوطني الأول للجمعيات الأهلية المعنية بالصحة، الذي نظمته وزارة الصحة بالتعاون مع منظمات الأمم المتحدة العاملة في سورية وجمعية البستان الخيرية تحت شعار (شراكة أفضل لصحة أفضل)، وذلك يوم الأربعاء 3/11/2010
ولم تكن وزارة البيئة بمنأى عن هذا النهج، فقد أكدت وزيرة البيئة الدور الكبير للمجتمع المحلي في الحفاظ على نظافة البيئة، والتنوّع الحيوي، ونشر الوعي والثقافة البيئية بين مختلف شرائح المجتمع، مبيّنة أن الاهتمام بالبيئة لم يعد شأناً حكومياً بل أصبح مسؤولية الجميع.
بعد هذا الاستعراض السريع لنشاطات الحكومة الحثيثة باتجاه المجتمع المدني- الأهلي ومحاولة إشراكه في وضع استراتيجية الخطة الخمسية الحادية عشرة، يمكننا القول إن هذا التحرّك يمكن أن يتخذ منحيين أساسيين

1- منحى قائماً على حسن النيّة تجاه الحكومة، بمعنى أن الحكومة أدركت مؤخراً عجزها الحقيقي عن القيام بمهام التنمية دون مساهمة المجتمع المدني، ولذا فهي تحاول استدراك ما فاتها من استغلال لقدراته، وذلك عبر مشاركته لها، وخاصة في وضع الخطة الخمسية المقبلة، ليكون شريكاً حقيقياً في سياساتها، وبالتالي ليأخذ مكانته الصحيحة التي يفترضها التطور العام الحاصل في المجتمعات الإنسانية المتحضّرة، وهذا إن كان وارداً في حسابات الحكومة، فإنه مطلب شعبي ملح سعينا إليه منذ زمن ليس بالقصير، إن كان من خلال أحزاب الجبهة الوطنية وضرورة تفعيل دورها في حياة البلاد، أو من خلال مؤسسات المجتمع المدني الأخرى كالنقابات والجمعيات، فهي قادرة على النهوض بمسؤولياتها إن عملت باستقلالية بعيدة عن الإملاءات والوصاية المقيّدة لحراكها، واقتناع الحكومة بوطنية هذه المؤسسات الخالصة، إذ لم يعد مقبولاً أبداً أن تتخذ الحكومة القرارات التي تمس المصالح المباشرة للمواطنين في غرف واجتماعات مغلقة بعيداً عن المعنيين مباشرة بالأمر- المواطنين- ممثلين بمنظمات المجتمع المدني (أحزاب، نقابات، جمعيات،..إلخ.

2- منحى آخر يقوم على احتمالين اثنين
– إما أن الحكومة عاجزة فعلاً عن القيام بمسؤولياتها المنوطة بها منفردة (الصحة، التعليم، الاقتصاد، البيئة، و..إلخ) وبالتالي تخليها عن بعض هذه المسؤوليات للمجتمع الأهلي في ظل انتهاجها سياسة اقتصاد السوق، فركب القطاع الخاص هذه الموجة، وغدا المواطن كمن يلوذ من الرمضاء بالنار، والأمثلة كثيرة لاسيما في مجال الصحة والتعليم وأسعارهما المحلّقة دوماً.
– أو أن الحكومة تحاول إشراك المجتمع الأهلي في تحمل مسؤولية المراوحة في المكان، كما حدث أثناء تطبيق الخطة الخمسية العاشرة، وعدم الالتزام بوعود الحكومة من تقليص البطالة والفقر وسواهما من مشروعات وخطط لم ترَ النور في الخطة العاشرة، وبالتالي تعمل الحكومة على إظهار المجتمع الأهلي بمظهر الضعيف غير المتمكّن والعاجز عن القيام بمهامه، وهنا تُنقذ الحكومة نفسها من انتقادات السياسيين والاقتصاديين وسواهم، وبأنها ليست وحيدة في حمل تبعية عدم تنفيذ ما تمّ الاتفاق عليه مع المجتمع المدني، إضافة إلى تبرير مماطلتها في تنفيذ أجنداتها الأكثر ضرورة في حياة الناس، وبالتالي تجعل الشارع يفقد ثقته بما يُسمى بالمجتمع الأهلي.
فهل تعمل الحكومة حقاً لأجل تفعيل دور المجتمع المدني في حياة البلاد بكل اتجاهاتها…؟ وهل سنشهد واقعاً مغايراً لما نعايشه اليوم من تفرّد حكومي في اتخاذ القرارات ووضع الخطط المعنية بحياة المواطن في سورية..