مقال عن صناعة أو صياغة القاعدة القانونية

يقصد بصياغة أو صناعة القاعدة القانونية مجموعة الأدوات التي تُخرج القاعدة القانونية إلى الوجود العملي إخراجاً يحقق الغاية التي يفصح عنها جوهرها بما يحقق الهدف من فرضها.

وبالتالي فإن الصياغة تُعد عملية ضرورية لترجمة جوهر القاعدة الأولي والنظري وتحويله إلى قواعد عملية صالحة للتطبيق الفعلي في المجتمع الذي توجد لتنظيمه عن طريق استعمال وسائل وأدوات معينة كفيلة بهذا التحويل.

وإذا كانت الصياغة تهدف إلى تحديد مضمون القاعدة القانونية تحديداً عملياً فإن هذا التحديد يتراوح ما بين الإحكام الصارم والسلاسة المرنة فقد يكون التحديد جامداً محكماً يربط القاضي ويقيده تقييداً صارماً، وقد يكون تحديداً مرناً يترك للقاضي حرية واسعة وسلطاناً كبيراً في التقدير والتطبيق.

وبالتالي فإن هناك نوعين من الصياغة أولها الصياغة الجامدة وهي تلك الصياغة التي تواجه فرضاً معيناً تعطيه حلاً ثابتاً لا يتغير بتغير الظروف والملابسات الخاصة بكل حالة فردية تندرج تحت هذا الفرض، وهذا النوع من الصياغة يحدد ثبات القاعدة القانونية سواء بالنسبة للوقائع الخاضعة لها أو الحل المطبق عليها ولذا يكون عمل القاضي الذي يطبق قاعدة قانونية ذات صياغة جامدة عمل شبه آلي حيث يقتصر دوره على التثبت من الوقائع وتطبيق القاعدة عليها كالقواعد التي تحدد مواعيد الطعن في الأحكام، وقاعدة بلوغ سن الأهلية. أما النوع الثاني فيُطلق عليه الصياغة المرنة وهي تلك الصياغة التي لا تعطي للقاعدة القانونية صفة ثابتة ومحددة وإنما تعطيها نوعاً من المرونة والاستجابة لظروف العمل المختلفة تتسع لإدخال الملابسات الخاصة بكل حالة فردية في الاعتبار. فهذه الصياغة لا تضع للقاعدة القانونية حلاً ثابتاً واحداً لا يتغير بتغير الحالات التي تندرج تحت الفرض الذي تواجهه وبالتالي تمنح الصياغة المرنة للقاضي سلطة تقديرية واسعة في حرية التطبيق وفقاً لظروف وملابسات كل حالة على حده كالقاعدة التي تعطي للجار الحق في الرجوع على جاره لإزالة الأضرار التي تتجاوز الحد المألوف أو التعويض عنها، وقاعدة جواز لجوء الواهب للقضاء للرجوع في الهبة متي كان يستند إلى عذر مقبول.

ومن استعراض نوعي الصياغة الجامدة والمرنة يتبين أن هناك فروق بينهما فالصياغة الجامدة للقاعدة القانونية لا تحقق إلا فكرة العدل المجرد لأنها لا تواجه إلا فرضاً مجرداً ولا تملك بالتبعية إلا إعطاءه حلاً مجرداً، فهذه الصياغة لا تدخل في اعتبارها ما يميز كل حالة فردية من خصوصيات بل تجمع الحالات الفردية التي تندرج تحت فرض معين في نموذج واحد مجرد رغم اختلاف هذه الحالات في الظروف والملابسات وتعطي لهذا النموذج حلاً واحداً يُطبق على كل ما يندرج تحته من حالات فردية مختلفة، وهذا العدل المجرد يحقق الثبات والاستقرار والأمن في المجتمع. أما الصياغة المرنة فتهدف إلى تحقيق العدل الفعلي أو الواقعي دون أن تقنع بتحقيق العدل المجرد فهي تضع موجه عام أو معيار مرن يُمِكن القاضي من تكييف هذا الموجه أو مطابقة هذا المعيار على خصوصيات كل حالة توصلاً إلى إعطائها الحل المناسب لها. فالعدل الذي يتم تحققه الصياغة الجامدة عدلاً متوحداً لا يختلف باختلاف الحالات الفردية المندرجة تحت النموذج المجرد، والعدل الذي تحققه الصياغة المرنة عدلاً متفاوتاً بتفاوت الظروف والملابسات الخاصة بكل حالة ولذا يمكن القول أن الصياغة الجامدة تعد وسيلة لتحقيق العدل، والصياغة المرنة تعد إحدى وسائل تحقيق العدالة.

كما أن للقاعدة القانونية المرنة قدرة على مسايرة التطور الاجتماعي ومواجهة ما يطرأ من وقائع وحالات جديدة بخلاف القاعدة القانونية الجامدة التي تكتفي بتحقيق العدل المجرد فتقف عن متابعة التطور الاجتماعي مكتفية بتحقيق الثبات والاستقرار.

والواقع أن النظام القانوني الأمثل يكون في حاجة مزدوجة إلى الصياغة الجامدة والصياغة المرنة علي السواء وذلك نظراً لحاجة المجتمع إلى الاستقرار والثبات من ناحية ومواكبة التطور من ناحية أخرى فكل من الصياغتين يحقق إحدى هاتين الغايتين على حساب الغاية الأخرى.

وفي القانون المصري نري أنه ما زالت الغلبة للقواعد الجامدة على القواعد المرنة فما زالت اعتبارات الاستقرار في المجتمع غالبة على اعتبارات التطور به، فالأصل وجود القواعد الجامدة والاستثناء هو وجود القواعد المرنة.

ونود أن ننوه أنه من مخاطر القاعدة القانونية ذات الصياغة المرنة أنها تفتح الباب للكثير من الاجتهادات والتفسيرات وبالتالي الاختلافات في الآراء مما قد يؤدي إلى وجود ثغرات للقاعدة القانونية المرنة يتم من خلالها التحايل عليها أو التنصل من التزاماتها. وقد تتلاشى وتتبدد هذه المخاطر عند وجود تفسيرات فقهية وقضائية للقاعدة القانونية مصحوبة بحسن النية وتبتغي قصد المشرع.

إعادة نشر بواسطة محاماة نت