مراحل نشأة مبادئ قانون العقوبات

المحامية / سهى منذر خليفة
مرت المبادئ التي تحكم قانون العقوبات بعدة مراحل فهي لم تكن وليدة اليوم ولم تنشا مرة واحدة بل انها كانت نتاج قرون عديدة من البلور لتكون متناسبة مع مقتضيات التطور ، و يقسم علماء قانون العقوبات الحقبة التي مر بها هذا القانون في تطوره منذ نشأته حتى الان الى مراحل أربع. غير ان هذا لا يعني ان هذه المراحل كانت متتابعة متتالية بل هي على الاغلب متداخلة متكاملة ومختلفة باختلاف الزمان والمكان ، وتعد مرحلة مرحلة الانتقام الفردي (الخاص) أولى مراحل العقاب، وقد ظهرت في الوقت الذي كان الناس يعيشون في قبائل متفرقة مستقل كل منها عن غيره تمام الاستقلال ،حيث كانت كل قبيلة تكون وحدة مشتركة نتيجة للتضامن التام بين افرادها.

فاذا ما وقع اعتداء. على احد أفراد القبيلة من قبيلة أخرى اعتبر هذا الاعتداء وكأنه قد اصاب القبيلة باسرها مما يؤدي الى ان يهب جميع أفراد قبيلة المجني عليه للانتقام من الجاني وقبيلته التي تعتبر بدورها مسؤولة بالتضامن مع الجاني عن الاعتداء. وهكذا تنشب الحرب سجالا بين القبيلتين واساسها الانتقام. وليس للانتقام هنا حد وغرض الا ارضاء عاطفة المنتقمين او مصالحة الطرفين على شروط يرتضيانها .

اما داخل القبيلة، فقد كان لكل قبيلة شيء من النظام نستطيع ان نعتبره المبادئ الأولى لقانون العقوبات. حيث كان رئيس القبيلة هو الذي يباشر سلطة القضاء بين افرادها، بان يطبق فيهم ما تعارفوا عليه من وسائل التأديب والتكفير متدرجا من الضرب البسيط الى القتل او الطرد من العشيرة، وقد طرا على هذه الأنظمة شيء من التطور فظهرت انظمة جديدة كنظام القصاص وهو أخذ الجاني بمثل ما فعل بالمجني عليه ثم نظام الدية وقد ظهر هذان النظامان منذ عهد استقلال القبائل وقبل تكون الدولة وكان اللجوء اليهما اختياريا لا يتم الا برضاء الطرفين ثم صار هذان النظامان اجباريان عند نشوء الدولة حيث كانت تفوضهما بما لها من سلطان ، وظهر نظام اخر هو نفي الجاني، ونظام التخلي عن الجاني لأهل المجني عليه ليتولوا مؤاخذته ونظام تحريم القتال في أوقات معينة. وهكذا يظهر ان العقاب في هذه الحقبة من الزمن كان يقوم على أساس الانتقام من الجاني لشخص المجنى عليه بالذات.

وبعد ظهور الدول واستقرار سلطانها بدأت مرحلة الانتقام للدولة حيث انتقل نتيجة لذلك حق العقاب اليها فانفردت به ومارسته نيابة عن الجماعة. وقد كان هذا الحق أول الأمر مقصورا على الجرائم التي تمس كيان الجماعة، ثم تدرج حتى شمل جميع الجرائم، وهكذا لم يبق محل لانتقام الافراد لاشخاصهم، اذ حل محله انتقام الدولة للافراد من الجاني ، وفي هذه المرحلة كانت اشد الجرائم خطورة هي ما يمس الدين من الأفعال كالسحر وتدنيس أماكن العبادة لما للدين في هذا الوقت من اثر واضح في حياة الدولة لذلك كان عقاب هذه الجرائم بالغا في القسوة والشدة وغايته (التكفير) عن ذنب المجرم وارضاء الآلهة بالانتقام لها منه، ولذلك قيل ان فكرة العقاب في هذه الحقبة كانت تقوم على أساس (التكفير).

وبعد ذلك زالت هذه الفكرة بزوال الصبغة الدينية للقوانين وحلت محلها فكرة الانتقام للجماعة ممثلة بالدولة حيث اصبح العقاب يوقع على المجرمين انتقاما للجماعة ممثلة في شخص الملك. وكانت العقوبات في هذه المرحلة على درجة كبيرة من الصرامة والشدة والقسوة، خالية من كل فكرة اصلاح المجرم. وكانت السجون في حالة يرثى لها يحتشر فيها المساجين حشرا من دون مراعاة للقواعد الصحية ولا اهتمام بإرشادهم اخلاقيا او دينيا متروكين لتحكم السجانين فيهم. وكان السجين يرسل الى السجن من غير ان تحدد مدة محكوميته ،وكانت الجرائم التي يعاقب مرتكبها بالاعدام تنيف على المائة وخمس عشرة جريمة كما لم يكن الناس في هذا العصر متساويين امام القانون، فقد كانت العقوبات تختلف باختلاف مركز المذنب الاجتماعي ، ولم تكن محددة بل كانت متروكة لتحكم القضاة.

واستمر قانون العقوبات على تلك الصورة البشعة التي تقوم على أساس فكرة الانتقام من الجاني حتى القرن الثامن عشر حيث ظهر كتاب ومصلحون عملوا على تهديم اساس النظام العقابي الذي يقوم على الانتقام محاولين تشييده من جديد على أساس من الرحمة والإنسانية وقد بدأ هذه الحملة منتسكيو في كتابه روح القوانين ، فانتقد بشدة قسوة العقوبات معللا بان الغرض منها هو كبح الاجرام وتقليله لا الانتقام، وتبعه في ذلك روسو في كتابة العقد الاجتماعي، مناديا بوجوب رد العقوبات الى الحد الادنى الذي به تتحقق حماية الجماعة من المجرم ومنعه من ايذاء غيره.

وهو ما يعادل ما تنازل عنه الفرد من حريته الطبيعية الى المجتمع عندما تعاقد مع أفراد الجماعة بان يتنازل لها عن حقه في الدفاع عن نفسه مقابل ان تقوم الجماعة، ممثلة بالدولة بالدفاع عنه ورد الاعتداء عليه عن طريق معاقبة المعتدي.

والشخصية البارزة في هذه الحملة كانت شخصية العلامة الايطالي بيكاريا صاحب كتاب الجرائم والعقوبات الذي نشره في ميلانو عام 1764 فأحدث ضجة وتأثيرا في جميع أنحاء اوروبا ما جعله أساس الاصطلاحات التي حققها رجال الثورة الفرنسية في مجال قانون العقوبات. لقد ضمن بيكاريا كتابه هذا النظرية كاملة في تحديد أساس حق العقاب ووظائف العقوبة وما يستتبعه من صياغة المبادئ العامة التي يهتدي بها الشارع في توجيه سياسة التجريم والعقاب، لذلك اعتبر ظهوره بدء انطلاقة جديدة في تاريخ قانون العقوبات. وتتلخص اراء هذا العالم في ان أساس قانون العقوبات، او حق العقاب، هو المصلحة العامة للجماعة، أي حق الجماعة في المحافظة على كيانها وصيانة النظام الاجتماعي، ذلك أنه اذا كان من حق الجماعة ان تحيا فانها تملك بحكم الضرورة حق العقاب لانه وسيلتها في الدفاع عن نفسها.

اذن يجب ان يحدد بما يحقق هذا الدفاع ليس غير مما يترتب عليه ان العقوبة يجب ان تهدف الى منع المجرم من العودة الى الاجرام والى منع الاخرين من الاقتداء به وبالتالي يجب ان لا تنزل بالمجرم من الالم الا بالقدر اللازم لصرفه هو والاخرين عن الاجرام. أي الضرر الذي تتطلبه الضرورة القصوى لتحقيق المصلحة الاجتماعية وهكذا يصل بكاريا الى هدم فكرة الانتقام كأساس لحق العقاب. ومن شخصيات هذه المرحلة الفيلسوف الانكليزي بنثام حيث نشر آرائه بهذا الصدد في كتابه مبادئ الأخلاق والتشريع ضمنه نظريته في المنفعة كأساس لتحديد العقاب حيث قال ان الذي يبرر العقوبة وهي شر في ذاتها، المنفعة الموجودة منها. ومن ثم يجب ان تحدد العقوبات بالقدر اللازم لكي تحول بين المذنب والاضرار بغيره وتصلحه وتمنع من تماديه في الاجرام ويكون فيها ارهاب لغيره كي لا يقلدونه.

ولا يتحقق هذا الا اذا كان العقاب يفوق المنفعة التي حصل عليها الجاني من الجريمة ويطلق كتاب قانون العقوبات على مجموعة الآراء التي نادى بها بيكاريا وبنتام وغيرهم من مفكري القرن الثامن عشر اسم المدرسة التقليدية التي تعد البداية الحقيقية لنشأة قانون العقوبات بمعناه الحديث.