مقال بعنوان حاجتنا إلى محاكم اقتصادية بقلم د. مقبل صالح أحمد الذكير

أدى تطور وتنوع وتعقد المعاملات الاقتصادية في مجتمعنا، إلى زيادة طبيعية في حجم وكم ونوع المنازعات التي تنشأ عنها. ويفرض هذا التعقيد الحاجة إلى سرعة حسم هذه المنازعات بمعدلات كافية ومناسبة. ويحتاج هذا الحسم بدوره إلي تكوين محاكم اقتصادية على درجة عالية من التخصص والمرونة الإجرائية‏. إن استحداث مثل هذه المحاكم فيه ضمان لبسط عدالة ناجزة توفر أقصى حماية لنشاطنا الاقتصادي، دعما لخططنا التنموية وجهودنا الحثيثة في توفير مناخ آمن وجاذب لمختلف الاستثمارات‏.‏ لقد أثبت تجارب التنمية في الدول الناجحة، أن وضوح القوانين وعلو كعب النظام القضائي وسرعة الفصل في المنازعات، هي من أهم العوامل الداعمة للنمو الاقتصادي وتوطين الاستثمارات وجذبها من الخارج، لأنها العامل الحاسم في زيادة فرص العمل وتقوية فرص الاستقرار والرفاه الاجتماعي.

لا شك أن قيام نظام المحاكم الاقتصادية سيعمل على توفير منظومة حلول غير تقليدية وغير مسبوقة لفض المنازعات سواء فيما يتعلق باختصاص هذه المحاكم أو تشكيلها أو إجراءات التقاضي أمامها‏.‏ إننا في حاجة إلى توحيد الجهات المعنية بهذه القضايا. فنحن لدينا مجموعة منفصلة من لجان التسوية والفصل في القضايا الاقتصادية. فهناك لجنة تسوية المنازعات المصرفية، وأخرى للفصل في منازعات الأوراق المالية، وثالثة للفصل في منازعات الأوراق التجارية، ورابعة للفصل في المنازعات والمخالفات التأمينية. وخامسة للفصل في القضايا الجمركية، وأخيرا لدينا لجنة للنظر في مخالفات البنوك.وكل هذه اللجان يمكن أن تجمع في محكمة واحدة هي المحكمة الاقتصادية، لأنها تحقق عددا من المزايا منها:

أ- توحيد الجهة المعنية بالقضايا من جنس واحد.

ب- منع التداخل بين الاختصاصات.

ت- درء تنازع الاختصاصات؛ كما هو حاصل اليوم بين اللجان الثلاث الأولى.

ث- توحيد المبادئ والاجتهادات في القضايا المالية.

ج- جمع شتات تلك اللجان، ودعم مركزها القانوني في الدولة.

ح- التوفير على أصحاب القضايا أوقاتهم وجهودهم؛ بسبب خفاء وتداخل اختصاصات تلك اللجان.

خ- التمكن من إعداد العضو القضائي المتخصص في تلك القضايا.

د- ضبط الأحكام وتقنينها ونشرها بين المختصين وأصحاب الشأن.

ذ- تفعيل الدور القضائي الحق لاختصاصات اللجان المالية.

ويمكن للدولة تحديد مدة خمس سنوات لاستقرار وضع المحكمة الاقتصادية ونظامها وهيكلتها قبل ضمها إلى المجلس الأعلى للقضاء. كما يمكن للجهة المختصة خلال هذه المدة متابعة سير أعمال المحكمة وتطوير إجراءاتها ودعم أنشطتها لتحقق الهدف منها قبل الانضمام.

قد يرى البعض صعوبة تحقيق ذلك في الوقت الراهن، نظرا لأن جهازنا القضائي لم يتطور عددياً منذ ثلاثة عقود. لكني أعتقد أن الوقت أصبح ملائما الآن لتخطي مختلف الصعوبات في ظل الدعم الكبير المادي والمعنوي الذي تلقاه المؤسسة القضائية من الدولة. كما أنها تحظى بهيئة جديدة يرأسها حبيبنا الشيخ صالح بن حميد الذي عهدناه عالي الهمة صادق العزيمة منذ كان أستاذا في جامعة أم القرى في مكة ـ شرفها الله. وقد أخذ الشيخ صالح منذ تحمل هذه المسؤولية خطوات موفقة للارتقاء بالقضاء والقضاة حسياً ومعنوياً نحو المستوى الذي يرقى لطموحات ولاة أمرنا في هذه البلاد المباركة. إن الأمل معقود أن ترى هذه المحاكم النور قريبا في هذا العهد الزاهر ليأخذ التطوير طريقه نحو مؤسسة القضاء. فكما نحن سباقون أمام الأمم بتحكيم الشرع الحنيف، فلا أقل من أن نلحق بركب التقدم الإداري والتنظيمي والقضائي. إن التأخير في غير مصلحة العامة ولا الخاصة، ويوشك أن يضعف الهيبة من القضاء بسبب ضعف الإنجاز وطول مدة التقاضي. وها نحن نرى الخصومات تزداد تعقيداً، والحاجة إلى حل حاسم وسريع تزداد إلحاحاً، والبقاء على أطلال الإدارات المحورية لا يقي من حَرِّ دعاء المظلوم ولا من بَرد كيد الظالم.

والحقيقة أن الأمة تواقة أن ترى إصلاحاً شاملاً لجهازنا القضائي، يحقق الآمال ويرسخ العدالة. إصلاحا يبدأ من داخل الجهاز القضائي يتضمن تطويراً لإعداد القضاة وللبرامج الإشرافية والرقابية والتقييمية، وللقرارات الصادرة بشأنهم من تعيين أو نقل أو ترقية، عن طريق ضبطها بمعايير محددة ثابتة تطبق حتماً في أمر كل من يتعرض لها سلباً أو إيجاباً. ثم ينتقل التطوير ليشمل أنظمة الجهاز القضائي التي نتوخاها، منتهين بمن يفزع إليه لحسم الخصومات وحل المشكلات.