الدولة والدستور / زهير كاظم عبود

تتميز الدولة بعدة خصائص ومن اهم خصائصها السيادة التي تنقسم الى السيادة الداخلية والسيادة الخارجية , فالسيادة الداخلية حين تتمتع السلطة بالشرعية من خلال الانتخاب المباشر لهذه السلطة من قبل الشعب وبما يمثله من تفويض عام يمكن تجسيده من خلال رأي الاغلبية الشعبية او البرلمانية , وهذه السلطة تمثل الهرم السيادي لمثلث السلطة المتمثل بقاعدتيه السلطة القضائية والسلطة التنفيذية .

والسيادة هي التعبير والفكرة التي تضع السلطة فوق ارادة الافراد من خلال اختيارهم وتفويضهم لهذه السلطة تمثيلهم بما يعني اقرارهم بالموافقة على ان تكون الدولة ممثلاً لهم ووكيلاً عن ارادتهم السياسية والقانونية , والتفرد بالقرارات التي تقتضيها الحياة العامة , وهذا التخويل بمثابة الافصاح العلني والتخويل القانوني الذي يمكن السلطة من اداء دورها السياسي بالشكل الذي يضفي عليه الشرعية القانونية .

اما السيادة الخارجية فتعني عدم سيطرة حكومة او سلطة خارجية على السلطة المحلية اي عدم خضوع ارادتها الى اي ارادة خارجية وتمتعها باستقلالية قرارها السياسي والقانوني الوطني , اضافة الى انطباق قواعد القانون الدولي عليها .

وفكرة السيادة فكرة قانونية تتصف بها السلطة السياسية يتم تفويض افراد من عموم الشعب لتمثيلهم بنتيجة العقد الاجتماعي , حيث يتم تفويض هذه المجموعة من الافراد صلاحيات مطلقة او محددة تبعاً للظروف ورغبة الشعب , والشعب هو الذي يملك السيادة أصلاً ويفوض بعض من صلاحياته الى هذه المجموعة , لتمثيله ضمن صيغة قانونية وفقاً لانتخابات عامة او محددة او وفقاً لتخويل من البرلمان المنتخب او اية صيغة شرعية اخرى تتناسب مع الوضع الوطني .

واتفق الفقهاء في القانون الدستوري ان الامة هي صاحبة الارادة الشعبية وهي مصدر السلطات وهي التي تخول او تمنح الهيئة السياسية بعض او كل من التصرفات التي تملكها والتي ينص عليها الدستور .

ومن خلال هذا التفويض والصلاحيات تتمتع الدولة بشخصية معنوية مستقلة , تمارس جميع الحقوق الممنوحة للشخص المعنوي لكن شخصيتها منفصلة تماماً عن شخصيات الافراد الذين يمارسون السلطة والحكم فيها , والشخصية المعنوية هي شخصية افتراضية .

وتكون الدولة وحدة قانونية مستقلة عن شخصيات الهيئة المسيطرة على الحكم , اذ يتمتع كل واحد منهم بشخصية حقيقية مستقلة وذمة مالية مستقلة لا علاقة لها بذمة الدولة , لا تمسها الشخصية المعنوية للدولة ولا تتداخل معها .

كما ان المعاهدات والاتفاقيات الدولية المبرمة مع هذه الدولة تبقى غير متأثرة بدخول او خروج الافراد ما داموا يحملون التخويل الشرعي والقانوني , وان هذا الامر لا يؤثر على التبدل الحاصل في اسماء ووجوه العاملين في مؤسسة الدولة , مثلما لا يؤثر على العقود والاتفاقيات التي يعقدها الشخص المعنوي (الدولة) قبل ذاك.

كما ان جميع ما اصدرته الدولة من قرارات وقوانين يبقى نافذاً ومحترماً حتى يتم الغاءه وشطبه بقرارات لها نفس القوة القانونية والدستورية وتملك الحق الشرعي والقانوني في هذه العملية من جهة مخولة بذلك قانوناً .

وازاء كل هذا تتمتع الدولة بشخصية معنوية تقتضيها الظروف والحياة , وانها موجودة قبل وجود الدستور الذي ينظم حالها واحوالها , والذي سيجد له مكانة وتقدير بعد اقراره والتقيد بالعمل وفق نصوصه , حيث انه المعني بتنظيم حياة الافراد وحقوقهم وواجباتهم , ويشكل الاساس القانوني الذي ترتكز عليه القوانين والتعليمات والاوامر الصادرة من السلطة التشريعية للدولة .

والدولة كشخص معنوي تتمتع بكل الحقوق والامتيازات المنصوص عليها في الدستور ويمكن مقاضاتها من قبل الافراد , كما يمكن لها ان تمنح البعض وكالات عامة او خاصة للدفاع عن حقوقها او التقاضي باسمها , كما يمكن الحكم عليها كشخص معنوي وتحصيل الحقوق منها او لها .

ونظرية الشخص المعنوي يمكن التعامل معها على اساس انها شخص طبيعي قائم بذاته يتحمل كل الاعتبارات القانونية ويلتزم بكل الالتزامات ويمكن له ان يقاضي ويتقاضى ويمنح الوكالة العامة او الخاصة ببعض او بكل ما اوكل اليه من قبل الهيئة العامة دون اي اعتبار لتغير الاشخاص العاملين في السلطة اي تبدل اشخاص الحكم وتبدل السلطة , وهي شخصية وهمية اوجدها فقهاء القانون من اجل ترتيب امور مقاضاة الدولة وتحصيل حقوقها ودفع ما عليها من حقوق للناس العاديين الحقيقيين .

ويمكن ان تكون نظرية الدولة مستمدة اصلاً من سلطة العائلة (السلطة الابوية) , حيث يكون الاب هو الماسك بزمام الامور وهو المتحكم في دفة القضايا التي يجدها ذا مصلحة عامة او خاصة , غير ان العديد من المؤثرات تتدخل في هذا الجانب , من اهمها الجانب الديني والاجتماعي .

حيث ان العائلة تتكاثر فتكون العشيرة , ثم تنمو العشيرة الى سلف او قبيلة ثم الى مجموعة قبائل تكون دولة من مجموع الاسر والعوائل المتكونة منها هذه السلطة .

ومن الاساليب الديمقراطية التي تنتهجها السلطات مسألة اقرار الدستور بطريقة الاقتراع السري العام للشعب (الرأي العام) او بواسطة التصويت عليه في البرلمان او مجلس الشعب , وبهذا يكون الشعب هو من يضع النصوص الدستورية التي ستلزم السلطات بها , وبهذا تبتعد السلطات عن ممارسة الاسلوب غير الديمقراطي الذي تفرض نصوص الدستور على الشعب بارادتها المنفردة او بقرار من الحاكم يعتبر بمثابة المنحة او الهبة التي يمنحها للشعب .

ومن بين اهم ضمانات الدولة للقانون وجود دستور يحدد صلاحيات السلطة وينص على حقوق الافراد وحرياتهم , اضافة الى ضرورة اعتماد نظيرة الفصل بين السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية وعدم تجميع السلطات بيد واحدة , وايجاد رقابة دستورية من الهيئة القضائية العيا على السلطة عند عملها في تطبيق نصوص الدستور .

وينظم عمل نظام الحكم في الدولة مجموعة من القواعد القانونية التي تقررها الهيئة العامة للمجتمع وتصبح ملزمة للجميع بما فيها السلطة القابضة على الحكم , وتنظم هذه القواعد القانونية عمل وحقوق الافراد والسلطات وتنظم اسس القوانين والتعليمات والاوامر الصادرة استناداً على الدستور .

ويعني الدستور الاساس او القاعدة للبناء القانوني او تنظيم اسس الدولة في البلد وطرق وجود التنظيمات السياسية وحماية الحريات العامة .

والدساتير نوعين منهما ماهو مكتوب ومنها ما هو غير مكتوب , والدستور الانكليزي على سبيل المثال من الدساتير الرصينة غير المكتوبة .

كما ان الدساتير تنقسم الى دساتير مرنة ودساتير جامدة , والمرنة منها ما يتم تعديلها بنفس الطريقة التي تم اقرارها او بتخويل البرلمان او هيئة دستورية تعديل بعض مواده , اما الجامدة فهي التي تتطلب اجراءات معقدة وصعبة قد تتطلب تعديلها اجراء استفتاء عام على النص المعدل او المغير لنصوص الدستور , والغاية من ذلك تقييد السلطات السياسية من التعرض لنصوص الدستور مستقبلاً .

وبالرغم من السلبية التي تواجهها الدساتير الجامدة , لان الضرورة والتطور الزمني والمتغيرات العالمية والاقليمية السريعة تتطلب ان يتم ادخال بعض النصوص الضرورية دون تعريض الاساس القانوني للتبديل او التغيير , لكن هذا لا يعني ان المرن تحيطه الايجابيات , فالمرونة لا تتوافق مع الاستقرار وعرضة للتغيير وفق رغبة السلطة السياسية والتي غالباً ما تكون مسيطرة على مقاليد السلطة والكفة الراجحة في البرلمان .

ومن خلال التجارب التي مرت بها الدساتير المتنوعة يتضح ان العمل بالدستور الجامد الذي يضفي على الدستور نوعاً من الهيبة والقدسية هو الاكثر ضماناً من محاولة الالتفاف على النصوص وسهولة تغييرها , وان لا يتم الغاء او تعديل او اضافة نص دستوري الا بموافقة الرأي العام او البرلمان , وجعل عملية التعديل مرنة في حالة الضرورة , اضافة الى تحقيقه الاستقرار من التحكم في نصوصه مستقبلاً , اضافة الى الحماية التي يشكلها وجود المحكمة الدستورية , ومهما يكن الامر فأن الابتعاد عن التحجر في النصوص وجمود عملية التعديل لا يخدم الية الحياة الدستورية , كما ان عملية المرونة وتمكن السلطات من تغيير النصوص والتلاعب بها يعرض السياسة المستقبلية للتحكم والرغبات والمصالح , لذا فان الوسطية في تبني هذه النظريات هي الاوفق والانسب في التطبيق , أي ان الحل يكون في مرونة في التعديل مع نصوص نحافظ على متانتها وحمايتها .

ويتم تقسيم الدول وفق القانون الدولي الى دول بسيطة وهي الدول التي تنفرد فيها سلطة واحدة او هيئة واحدة وتكون فيها السيادة غير مجزأة ولها دستور واحد وحكومة واحدة , والدول المركبة او المتحدة وهي مجموعة من الدول تقوم على اساس الاتحاد والخضوع لسلطة مشتركة , وفي الدولة المركبة او المتحدة تظهر عدة اشكال وانواع من هذه الوحدة والاتحاد كالاتحاد الشخصي او الحقيقي او الفعلي والذي يتشكل من اندماج دولتين او اكثر في دولة واحدة كما يكون الاتحاد الفيدرالي نوعاً من انواع الاتحاد وبعبارة اخرى انضمام عدة دول تتنازل كل منها بمقتضى الدستور عن بعض سلطاتها الداخلية والخارجية وينشأ الاتحاد الفيدرالي عن طريقين .

الطريقة الاولى انضمام عدة دول مستقلة الى بعضها البعض لتكون دولة مركزية جديدة كالولايات المتحدة الامريكية او سويسرا او المانيا او استراليا وكندا .

والطريقة الثانية بتفكك دولة موحدة الى عدة دول صغيرة مع بقاء الرغبة في الاتحاد الفيدرالي .

كما يكون في صورة اسلوب الحكم على اقليم معين له حدود ادارية وضمن الدولة الواحدة ويدار من قبل شعب الاقليم نفسه كما يذكر البرفسور منذر الفضل .

ويسترسل الفضل بأن الفيدرالية التي يطالب بها الكرد في العراق نظام قانوني يقوم على تفكيك سلطات الحكم الشمولي ومن ثم اعادة تأسيس نظام حكم تتولى فيه المؤسسات الدستورية اختصاصاتها حسب دستور فيدرالي دائم وطبقاً للقانون وذلك بتوسيع المشاركة في الحكم والادارة بما يحقق السلام والاستقرار .

ولما تقدم تلتزم جميع الدول العمل بمبدا التدرج في القوانين فالنصوص الدستورية تقف في اعلى الهرم القانوني ثم تليه القوانين ثم الانظمة وبعدها التعليمات ثم الاوامر , ويطلق على القاعدة المذكورة مبدأ تدرج القواعد القانونية .

ومن خلال ما ورد اعلاه لا يجوز لقانون ان يصدر عن الهيئة التشريعية مخالفاً لنصوص الدستور وهلم جراً , وفي حال صدور قانون او نص يتعارض مع نصوص واحكام الدستور فيعتبر النص او القانون غير دستوري مما يجوز الطعن به من الناحيتين الشكلية والموضوعية امام المحكمة الدستورية .

وتلجأ الدول الى انشاء هيئة قضائية متخصصة في الرقابة على دستورية القوانين او في مدى خرق السلطة السياسية لنصوص الدستور .

كما تلجأ الدول الى ايجاد هيئات قضائية اخرى تفسر النصوص الدستورية وترسل دراستها وبحوثها الى الدوائر والجهات المعنية التي تستوضح منها او تختلف فيما بينها حول قضية دستورية .

ومسألة الرقابة الدستورية التي تقوم بها هيئة قضائية لقيت من النقد والتجريح الكثير حين ابتدعها فقهاء القانون الدستوري , اذ اشاروا الى ان وظيفة القضاء تقتصر على الفصل في المنازعات وتطبيق القانون المستند على نصوص الدستور فكيف يكون رقيباً على تطبيق السلطة لنصوص الدستور , بمعنى انه من اين يستمد هذه السلطة ما دامت السلطة تستمد قوتها من انتخابها من قبل الشعب ؟

الا ان الواقع يفرض ان تكون هناك جهة محايدة تحسم عملية الطعن في مشروعية وقانونية تصرفات الدولة والتزاماتها الدولية ومطابقتها لنصوص الدستور , وليس غير القضاء من يضطلع بهذه المهمة الكبيرة , كما ان هذا التوزيع في السلطات والمراقبة يعزز من دور الدستور وحمايته من الخرق ويعزز مسألة الرقابة الدستورية على السلطات من قبل السلطة القضائية .

ومهما يكن الامر فأن النصوص الدستورية ليست لها اية قيمة اذا لم يصار الى تطبيقها الفعلي وانعكاسها على الحياة العامة للجماهير , لان مجرد وجود النصوص لا يعني ان الحياة الدستورية قائمة بشكل طبيعي , حيث ان اغلب السلطات الدكتاتورية تعمد الى الايعاز لخلق دساتير تأخذ صبغة الاقرار الشكلي من الجهات التي ترسمها اساليب انشاء مشاريع الدستور , ومن ثم اقرارها دون التقيد بمضمون نصوصها الا فيما يتوافق مع مصالحها ورغباتها , وهو ما كان يشعر به العراقي في زمن صدام البائد حين اتخذت السلطة الدكتاتورية من نصوص الدستور غطاء لقراراتها الظالمة والمتناقضة مع حقوق الانسان .

إعادة نشر بواسطة محاماة نت