الشريعة والقانون وجرائم القرصنة البحرية

انتبه المجتمع الدولي منذ فترة بعيدة إلى أهمية صيانة وحفظ أمن السفن عند إبحارها، وأطلق على مختطفي السفن قراصنة البحر، فيما حرصت اتفاقية جنيف الموقعة في إبريل من عام 1958م على أن تخصص ثمانية من موادها لموضوع لصوص البحر، وهي المواد من (14 إلى 21).

وقد أشارت الاتفاقية وبحسب مادتها الخامسة عشر إلى أن من أعمال القرصنة: كل عمل غير شرعي من أعمال العنف، أو احتجاز الأشخاص، أو السلب يرتكب لأغراض خاصة، ويقوم به طاقم أو ركاب سفينة خاصة أو طائرة خاصة، موجهًا ضد سفينة أو طائرة أخرى أو ضد أشخاص أو أموال على متنها في البحار العالية، في حين نصت المادة التاسعة عشر من نفس الاتفاقية على حق كل دولة في أن تقوم بضبط أية سفينة تعمل في لصوصية البحار، كما يجوز لها أن تقبض على الأشخاص ـ القراصنة ـ وأن تستولي على الممتلكات الموجودة بها وأن تحاكمهم بعقوبات رادعة.

كما ضمَّنت الأمم المتحدة في اتفاقيتها الخاصة بقانون البحار ـ والتي تم توقيعها في أبريل عام 1982م ودخلت حيز التنفيذ في ديسمبر 1984م ـ ست مواد (من 101 إلى 107) خاصة بالقرصنة وأعمالها وكيفية محاربتها، حيث نصت المادة 101 على التأكيد على تعريف أعمال القرصنة بالشكل الذي ورد في اتفاقية جنيف، والمُشار إليه سلفًا، فيما تضمنت المادة 102 تأكيدًا آخر على حالة تمرد طاقم أية سفينة أو ارتكابه عملًا من أعمال القرصنة، وأجازت التدخل ضد هذه السفينة واعتبارها تمارس القرصنة.

وفي هذا الإطار أيضًا أضافت العديد من الأكاديميات والمعاهد البحرية على مستوى العالم منذ أعوام دورات لمكافحة الإرهاب والقرصنة،‏ كما أصبح من الاشتراطات الواجب تنفيذها في جميع السفن تركيب جهاز تنبيه متصل بدولة العَلَم الذي تحمله السفينة للتنبيه في حالة وجود عمليات قرصنة عليها.

لكن على المستوى العملي؛ فإن كل ما اتخذه المجتمع الدولي، سواء عبر اتفاقية جنيف أو اتفاقية قانون البحار الأممية، لم يكن كافيًا للقضاء على أعمال القرصنة، أو حتى التخفيف من عملياتها، التي تنتشر في الكثير من المناطق، خاصة وأن الكثير من المتخصصين يرون أن ثمة قصور شديد ينتاب القانون الدولي والمحلي على السواء فيما يتعلق بملاحقة القراصنة، إذ تعجز هذه القوانين حتى الآن عن ملاحقة هؤلاء بالرغم من حجم أعمالهم وتأثيرها؛ وهو ما دفع الإنجليز عندما قبضوا على ثمانية قراصنة صوماليين بواسطة قطعة بحرية إنجليزية إلى تسليمهم للسلطات الكينية‏.

كذلك فإنه وبحكم القانون، إذا تمت جرائم القرصنة في المياه الإقليمية فلا شأن للقانون الدولي بها،‏ وإنما تكون عقوبة فاعليها تبعًا لقوانين الدول صاحبة السيادة على هذه المياه، فضلًا عن أن القانون الدولي لم ينص على عقوبات محددة للقرصنة، وإن كان مؤتمر وزراء الداخلية العرب عام ‏88‏19م اعتبر أن أعمال القرصنة من الجرائم الإرهابية‏, وأنه لابد من معاقبة مرتكبيها‏.

لذلك فإن القراصنة يستغلون تلك الثغرة في القانون الدولي، الذي اكتفى بتجريم أعمال القرصنة دون أن يحدد عقوبتها أو أن يفرض على الدول التي تحدث عمليات القرصنة في مياهها الإقليمية أن تعاقب مرتكبيها بعقوبات محددة، وهو ما يمنحهم فرصًا أكبر للإفلات من طائلة العقوبة.

أما فيما يخص موقف الشريعة الإسلامية من القرصنة البحرية، فقد كان موقفها منها صريحًا وواضحًا، إذ اعتبرتها الشريعة شكلًا من أشكال التعارض الشديد مع القيم والمبادئ الإسلامية؛ لأنها عدة جرائم مجتمعة مع بعضها؛ فهي تشمل الظلم والابتزاز، والاعتداء على السلامة الجسدية والنفسية، والإرهاب وانتهاك خصوصية الآخرين والسرقة، فضلًا عن أنها تعطيل لمصالح البشر والعباد؛ وهو ما دفع فقيه إسلامي كبير بقدر ابن عابدين إلى أن يطلق على القراصنة اسم اللصوص والقطاع.

كذلك فقد تضمنت المذاهب الإسلامية المتعددة تأكيدًا صريحًا على عدم جواز الاعتداء على السفن في البحر، حتى ولو كانت لأهل دار الحرب أو لغير المسلمين، ومن ذلك ما قاله الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: (إذا ركب القوم البحر فاستقبلهم فيه تجار مشركون من أرض العدو ويريدون بلاد الإسلام ولم يعرضوا لهم أو يقاتلوهم فهم آمنون، وكل من دخل بلاد المسلمين من أرض الحرب بتجارة بويع ـ يتم البيع له ـ ولم يسأل عن شيء) [الشرح الكبير، ابن قدامة، (10/564)]، فيما رأى هؤلاء الأئمة والفقهاء ضرورة محاربة القراصنة بكل السبل‏.

وقد قبحت الشريعة الإسلامية الظلم والظالمين؛ يقول الله تبارك وتعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229]، في حين توعد رب العزة الظالمين بالعذاب والهلاك؛ يقول تعالى: {وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا} [الزمر: 51]، ويقول: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص: 59]، ويقول: {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الإنسان: 31].

والقرصنة نوع من هذا الظلم؛ فالله عز وجل عندما تحدث في كتابه الكريم عن هذه الجريمة في قوله تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف: 79]، فقد اعتبر القرآن أخذ السفينة نوعًا من أنواع الغصب على الرغم من أن فاعله ملك وليس فردًا؛ إذ هو في النهاية يمثل اعتداءً على حرية الملاحة السلمية الدولية لما فيه من اعتداء على السفن وتحويل مسارها تمهيدًا لغصبها أو مصادرتها.

كما يسرد لنا التاريخ الإسلامي الكثير من القصص التي يحدد استقراؤها المنهج الأمثل في التعامل مع هذه الظاهرة؛ ومن ذلك أن الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه بلغه أن قومًا من الحبشة أغاروا على بعض سواحل المسلمين وأصابوا منهم أموالًا وسبوا منهم سبيًا كثيرًا؛ فاغتم لذلك عثمان غمًّا شديدًّا، ثم أرسل إلى جماعة من الصحابة وغيرهم من المسلمين فدعاهم واستشارهم في غزو الحبشة، فأشار عليه المسلمون ألا يغزوهم في بلادهم ولا يعجل عليهم حتى يبعث إلى ملكهم فيسأله عن ذلك، فإن كان الذي فعله أصحابه عن أمره ورأيه هيأ له المراكب وأرسل إليه بالجند والمقاتلة، وإن كان ذلك من ساقها ـ عوام الناس ـ أغاروا على سواحل المسلمين عن غير أمر ملكهم؛ فرأيه أن يشحن السواحل بالخيل والرجال حتى يكونوا على حذر.

فعمل عثمان على ذلك ثم دعا محمد بن مسلمة الأنصاري فوجهه إلى ملك الحبشة في عشرة نفر من المسلمين يسأله عما فعل بأصحابه، وكتب إليه عثمان في ذلك كتابًا، فلما قدم محمد بن مسلمة بكتاب عثمان وقرأه أنكر ذلك أشد الإنكار، وقال: ما لي بذلك من علم، ثم أرسل إلى قرى الحبشة في طلب السبي فجمعهم بأجمعهم ودفعهم إلى محمد بن مسلمة، فأقبل بهم إلى عثمان وأخبره بما كان من إنكار ملك الحبشة وطلب السبي, فشحن عثمان السواحل بعد ذلك بالرجال وقواهم بالسلاح والأموال؛ فكانوا ممتنعين من الحبشة وغيرهم.

كما يذكر البلاذري أن السبب المباشر لفتح بلاد السند يرجع إلى أن ملك سيلان لما أرسل إلى الحجاج بن يوسف الثقفي بعض الفتيات المسلمات اللائي ولدن في مملكته وكن يتيمات بسبب موت آبائهن التجار في الجزيرة، ولكن حدث أن قراصنة البحر في المحيط الهندي هاجموا السفينة التي تحمل هؤلاء الفتيات واتخذوهن سبايا؛ فغضب الحجاج وطالب في الحال من زعيم القراصنة بإطلاق سراح الفتيات، ولكنه لم يلبِ طلب الحجاج إمعانًا منه في السخرية بما طلب منه، فأرسل الحجاج جيشًا بقيادة القائد الشاب محمد بن القاسم الثقفي، وتبع هذا الجيش أسطول بحري ساعد ابن القاسم أيضًا.

ولعل هذه المواقف المختلفة تأتي انطلاقًا من منهج الشريعة الإسلامية المتكامل، والذي يهدف إلى تحقيق أمن البشرية وسلامتها ويرفض البغي وإشاعة الفساد في الأرض؛ فالله تعالى يقول: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [المائدة: 33].

فهذا النص القرآني يشير وبوضوح بحسب ما ذهب أغلب الفقهاء إلى المحاربين من قطاع الطرق ومروعي الآمنين، الذين يعترضون الناس مجاهرة فيأخذون أموالهم ويقتلونهم.

وعليه؛ فإن الإسلام يعتبر القرصنة من جرائم الحرابة والإفساد في الأرض؛ لأنها تتضمن انتهاك حرمات الأنفس والأموال, ويترتب عليها ترويع وتخويف الناس وإلقاء الرعب في قلوبهم، عن طريق قطع الطريق البحري أو الجوي على السفينة أو الطائرة أو إعاقتها عن استكمال رحلتها في البحر أو الجو، وهو الأمر الذي يميز الشريعة الإسلامية عن القانون الدولي الذي لم يحدد العقوبة؛ فالقرآن حدد لعقوبة الحرابة جزاءات القتل أو الصلب أو التقطيع أو النفي حسب درجة الجرم الذي ارتكبه المحارب.

اعادة نشر بواسطة محاماة نت