مصادر تمويل القانون بين مجلس النوّاب وقرارات المحكمة الاتحادية العليا
القاضي سالم روضان الموسوي

يُعد القانون وسيلة السلطة القابضة على أمور البلاد بما فيها السلطة التشريعية، لأن الحكومات أو الجهات المسيطرة على البلاد تلجأ إلى تشريع القوانين لتحويل سياساتها إلى قوانين سواء كانت تلك السياسات قد أعلنتها أو تبنتها في برامجها الانتخابية أو السياسية.

لذلك فإن تشريع القوانين من أهمّ الوسائل لتحقيق تلك البرامج أو السياسات المعلنة للحكومات، ولابد أن يكون القانون بمستوى يؤهله للقبول العام من عامة الشعب وإلا أتى بنتائج عكسية قد تزعزع ثقة الجمهور بالسلطة القائمة أو ربما تؤدي إلى زعزعة الأمن في البلاد. والشواهد كثيرة على ذلك عندما تصدر القوانين وتُجابه باحتجاجات شعبية، نجد إن السلطة تعود فتعطل تنفيذها أو تقوم بإلغائها، ويقول الفيلسوف (ادموند بيرك) بأن القوانين السيئة أسوأ انواع الطغيان، لذلك اهتم المختصون في الصياغة التشريعية كثيراً بأمور صياغة القانون والسعي لإصداره بأفضل صورة تحقق الغرض من تشريعه.

وتكاد تكون أهمّ معضلة يواجهها القانون بعد صدوره هو عدم قدرة الجهات التنفيذية على تنفيذ أحكامه، لأن موارد تلك الجهات غير قادرة على استيعاب الآثار التي رتبها القانون مثال ذلك صدور قانون يمنح بعض المزايا المالية لشريحة من الشعب لأسباب تتعلق بتضحيات تلك الشريحة أو لأنها بحاجة إلى دعم لكونها تتعلق باحتياجات خاصة مثل رعاية ذوي الاحتياجات الخاصة، إلا أن ذلك القانون لم يتعد أثره مكاتب المسؤول مما يؤثر سلباً في الفئة المستهدفة ويأتي بنتائج عكسية. لذلك انصب الاهتمام على معالجة هذه الأوضاع عند مرحلة تشريع القانون وقبل صيرورته نافذاً، وظهرت نظريات في علم الصياغة التشريعية الحديثة تدعوا إلى أن يتولى المشرع تحديد كيفية تمويل القانون بعد نفاذه، بمعنى رسم آلية دعم وسائل القانون في تمويل النشاط الذي يسعى إليه حتى يتجنب معضلة صدوره وعدم القدرة على تنفيذه.

لذلك نجد الكثير من القوانين أصبحت تتضمن مصادر التمويل، مثال ذلك التعويض عن حوادث المركبات ضد الأشخاص، حيث أشار قانون التأمين الإلزامي من حوادث السيارات رقم 52 لسنة 1980 المعدل إلى بيان مصادر تمويل القانون عند التعويض، إذ جعل نسبة تضاف على سعر لتر الوقود تستوفى عند شرائه وترسل إلى شركة التأمين المختصة وعلى وفق ما جاء في الفقرة (أولاً) من المادة (4) التي جاء فيها الآتي (أولاً: يستوفى قسط التأمين الإلزامي على المركبات بنسبة (0.003) ثلاثة بالألف من مجموع مبالغ المبيعات الفعلية لشركة توزيع المنتجات النفطية من البنزين وزيت الغاز عدا المجهّز إلى وزارة الكهرباء، وتودع المبالغ لدى الشركة لحين توزيعها). كذلك عندما يسمح القانون بأن تكون مصادر تمويله من الهبات والتبرعات أو من بدلات اشتراك الأشخاص المعنيين به. مثال ذلك قانون صندوق تقاعد المحامين رقم 56 لسنة 1981 المعدل الذي حدد مصادر التمويل في الفقرة (1) من المادة (5) وعلى وفق الآتي (تتألف موارد الصندوق من المصادر الآتية:

ا– بدلات اشتراك المحامين المسجلين في جدول المحامين. ب – الطوابع الخاصة بالصندوق . جـ – الدخل الناجم عن استثمار أموال الصندوق. د – 10 % من الأتعاب التي تدفع للمحامي عند توكيله في الدعوى التي تنسبها له لجنة توزيع الدعاوى بموجب قانون المحاماة . هـ – الهبات والوصايا للصندوق). لذلك لم نسمع عن توقف تلك الصناديق عن العمل يوماً مهما تعرض البلد إلى أزمات مالية، لأن المشرع حدد تلك المصادر ابتداءً ولم يقصرها على الموازنة العامة للبلد.

ومن خلال ما تقدّم فإن السياسة التشريعية في العراق ما زالت قاصرةً عن معالجة مصادر تمويل القانون ولم تأخذ بالاتجاهات الحديثة للصياغة التشريعية، وما زالت تعمل بالأسلوب القديم بنقل كل الأعباء المالية إلى الدولة، مما يؤدي إلى تعاظم الضرر عندما تعطل القوانين وتصبح غير قادرة على تحقيق أهدافها، لذلك نجد إن مجلس النواب يشرع القوانين بمنح امتيازات مالية لشريحة معينة من الشعب دون الرجوع إلى الحكومة مع أنه يحملها مسؤولية الإنفاق بموجب ذلك القانون، من دون مراعاة مقدار حجم وارداتها المالية أو نسبة العجز المالي لديها في الموازنة العامة، مما دعا الحكومة إلى الطعن بعدم دستورية عدة قوانين، لأنها صدرت بموجب مقترحات من أعضاء مجلس النواب من دون أن تعرض على الحكومة او أخذ الرأي حول الأعباء المالية التي تتحملها، فأدى إلى صدور أحكام عدّة من المحكمة الاتحادية العليا بعدم دستورية تلك القوانين. فإذا استمر العمل بهذه الوتيرة سوف لن ينفذ أي قانون مما سيؤدي إلى نتائج عكسية على الصالح العام، لأن تشريع أي قانون دون تحديد مصادر تمويله وطرق جبايتها إذا كانت من خارج الموازنة أو الاعتماد على مقدار الأموال التي تتوفر في الموازنة العامة من خلال بيان رأي الحكومة، سوف لن يمكّن ذلك القانون من النفاذ أو التطبيق، وسيؤدي حتماً إلى الحكم بعدم دستورية القوانين التي تصدر بهذا المآل عند الطعن بعدم دستوريتها أمام المحكمة الاتحادية العليا. أتمنى أن تكون هذه الالتفاتة محل عناية السلطة التشريعية أو الجهات التي تتولى الصياغة التشريعية.

إعادة نشر بواسطة محاماة نت