سب النبي بين الشريعة والقانون الوضعي

كرمت الشريعة الإسلامية شخص النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- بتكريم إلهي من الله عز وجل منزل الشريعة ، وجعلت مكانته مقدسة مصونة، مع الإقرار ببشريته وأقامت سياجًا قويًا حول شخصه الكريم لحمايته ، ورفعت مكانته بين العالمين، ليبقى الدين الذي بلغه مصونًا ولهذا جعلت من سبه ساباً لله تعالى ولدينه وجعلت عقوبة من سبه أو انتقص منه القتل حدًا أو ردةً أو كفرًا؛ لزجر وردع من فعل ذلك حتى تظل مكانته ومكانة الدين الذي بلغه عالية مصونة كريمة.

أما القانون الوضعي فلم يلتفت لذلك مطلقًا في بلاد المسلمين؛ لأن من وضعوه عادوا شرع الله وابتعدوا عن كتاب الله وسنة رسول الله، وشرَّعوا القوانين من معين أعداء الله من اليهود والنَّصارى والضالين في العالم فشرَّقوا وغرَّبوا، ولم يأخذوا من الوحي المعصوم , فلذلك لا يجد المسلم مادة واحدة في القوانين الوضعية في بلاد المسلمين تتعرض بالعقوبة لمن يحاول النيل من شخص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سواء بالسب أو الاستهزاء أو السخرية، وعندما تقع تلك المصيبة في بلاد المسلمين ويحال المجرم الفاجر للمحاكمة فإنه يحاكم بمادة تعاقب على( ازدراء الأديان ) – ولا حول ولا قوة إلا بالله-، ومؤخرًا حدثت مصيبة سب النبي صلى الله عليه وسلم في السودان البلد العربي المسلم؛ فقد أطلقت امرأة صليبية بريطانية تعمل مدرسة للأطفال في مدرسة سودانية اسم محمد على دمية دب وأرسلت إلى أولياء أمور التلاميذ خطاب يتضمن أنها سوف تأتي منازلهم للتصوير التذكاري مع أولادهم والدمية الدب ، وعندما أعلن عن هذه الوقاحة الصليبية ثار المسلمون في السودان غضبًا لله، فألقي القبض عليها وأحيلت للتحقيق والمحاكمة بتهمة إهانة العقائد الدينية طبقًا للمادة 125 من القانون الجنائي السوداني، والمتعلقة بإثارة الكراهية والازدراء بالعقيدة و عقوبة هذه المادة تتمثل في السجن والغرامة والجلد، وتخضع للسلطة التقديرية للقاضي في إصدار القرار , فأقصى عقوبة سجن هي ستة شهور أو الجلد أربعين جلدة، ومما يحزن أن المحكمة السودانية حكمت عليها بالسجن خمسة عشر يومًا فقط وبعد ثلاثة أيام من الحكم أصدر الرئيس السوداني قرارًا بالعفو عنها!!!

ويتضح مما حدث خلو القانون الوضعي السوداني من مادة خاصة تتعلق بإهانة الحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم- ثم العقوبة المقررة للازدراء بالعقيدة لا تتناسب ابداً مع الجرم، ثم صدور قرارٍ بالعفو لا يملكه ولي الأمر مطلقًا، لقد كرمت الشريعة الإسلامية النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- وجعلت عقوبة النيل منه أقصى عقوبة جنائية صيانة وحفظًا لمكانته العالية -صلى الله عليه وسلم-؛ فقد قال القاضي عياض -رحمه الله- في “الشفا”: “اعلم -وفقنا الله و إياك- أن جميع من سب النبي -صلى الله عليه وسلم- أو عابه أو ألحق به نقصاً في نفسه أو نسبه أو دينه أو خصلة من خصاله، أو عَرَّضَ به، أو شبهه بشيء على طريق السب له أو الإزراء عليه، أو التصغير لشأنه أو الغض منه والعيب له؛ فهو ساب له، والحكم فيه حكم الساب يقتل كما نبينه ولا نمتري فيه تصريحاً كان أو تلويحاً”، ثم نقل الإجماع على هذا ، وأدلته لا تحصر، بسطها الإمام ابن تيمية في مؤلفاته منها “الصارم المسلول” في مجلدين .
ومن هنا يتضح أن مكانة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- ضيعها القانون الوضعي تمامًا، ولم يبالِ بل إن في بعض القوانين نصوصاً خاصة على جريمة “العيب في الذات الملكية” جريمة لها نص وعقاب في القانون الوضعي، ومن المؤسف أنه في بلد مثل “تايلاند” يحكم بالسجن عشر سنوات على سويسري حيث قضت محكمة “تايلاندية” في مارس 2007 بسجن رجل سويسري؛ لتشويهه صورًا للأسرة الملكية في تايلاند، برش طلاء أسود على صورة الملك وهو حكم نادرًا ما يصدر على أجنبي يدان بموجب قوانين البلاد المشددة التي تحظر العيب في الذات الملكية .
وكانت وكالة “رويترز” قد ذكرت أن الحكم صدر أولاً بسجن “أوليفر رودولف جوفير” البالغ من العمر سبعة وخمسون عامًا لمدة عشرين عامًا؛ لارتكابه خمس جرائم للعيب في الذات الملكية، لكن القاضي خفض فترة العقوبة آخذًا في الاعتبار التماسًا تقدم به “جوفير” في وقت سابق يقر فيه بأنه مذنب .
إنها مقارنة ظالمة ومخجلة بين حكم المحكمة السودانية في المعلمة البريطانية التي حاولت النيل من شخص النبي المصطفى سيد ولد آدم وخاتم النبيين والمرسلين ، وبين حكم المحكمة التايلاندية في السويسري الذي أهان الملك الوثني بأن رش الطلاء على صورته!!.

عندما يتأمل الإنسان المسلم ما يحدث لنبيه في الغرب من محاولات النيل من شخص الكريم بالإهانة والسخرية؛ فإنه يتوقف غضبه شيئًا ما عندما يراجع عداء الغرب الصليبي للإسلام ونبيه، لكن المسلم عندما يجد في بلاده أن القانون الوضعي ضيع حق نبيه ولم يعطه حقه المُصَان في القانون وتجريم من يتعدى على حقه؛ فانه يشعر بخيبة وحزن لا مثيل له، ففي مصر الدولة العريقة وهى من أكبر بلاد المسلمين ولها في تاريخ أمجاد الإسلام صولات وجولات، ولكن عندما تم تغيير شريعة الرحمن بها واستبدالها بشريعة الإنسان -الذي يتبول ويتغوط ويمرض- حدث انتقاص كبير وعظيم لمكانة الحبيب -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنهم بدَّلوا القرآن المنزل بقانون “حمورابي” و”نابليون”؛ فكان الإهمال، وتعمد عدم وجود نص على تجريم من ينال شخص رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وإن حدث ووقعت الواقعة فإنه يعاقب طبقًا لما يسمى بـ”جريمة ازدراء الأديان”!! و التي نصت عليها المادة 98 فقرة “و” من قانون العقوبات المصري.
والتي تنص ( يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر و لا تتجاوز خمس سنوات أو بغرامة لا تقل عن خمسة مائة جنيهاً و لا تتجاوز ألف جنيه كل من استغلَّ الدين في الترويج أو التمييز بالقول أو الكتابة أو أية وسيلة أخرى لأفكار متطرفة بقصد إثارة الفتنة أو تحقير و ازدراء أحد الأديان السماوية، أو الطوائف المنتمية إليها أو الإضرار بالوحدة الوطنية أو السلام الاجتماعي) ومن الملفت أن في المغرب أصدرت محكمة مغربية قرارًا يقضي بحبس محرر مجلتين أسبوعيتين ساخرتين لمدة أربع سنوات بتهمة العيب في شخص الملك محمد السادس.

وقررت المحكمة أن “علي المرابط” مذنب بتهمة “العيب في الذات الملكية” وبتهمة “الإساءة إلى السيادة الإقليمية للمغرب” من خلال مقالات ورسوم ساخرة نشرها، وهو قرار يفضح القوانين الوضعية التي اهتمت بتجريم من ينال من الملوك الحكام وسجنه بأقصى عقوبة، ولا يوجد نص لتجريم من يسب النبي، ولكن الشريعة الإسلامية المنزلة من عند الرحمن اهتمت بتجريم من ينال من خليل الرحمن وإنزال أقسى عقوبة فقد ورد أن يهودية كانت تشتم النبي -صلى الله عليه وسلم- وتقع فيه فخنقها رجل حتى ماتت؛ فأهدر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دمها. هكذا رواه أبو داود في سننه، وكذلك واقعة قتل كعب بن الأشرف اليهودي، فقد دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- لقتله بقوله: “مَنْ لكعب بن الأشرف؟ فإنه قد آذى الله ورسوله”، فانتدب له محمد بن مسلمة فقتله في قصة مشهورة في الصحيحين، وقد كان كعب بن الأشرف معاهداً مهادناً بإجماع أهل المغازي والسير؛ فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم علة قتله أذاه لله ورسوله، وقد بين أهل المغازي وغيرهم أن هذا الأذى كان بإنشاد الشعر في هجائه -صلى الله عليه وسلم-، ومن أدلة السنة كذلك ما رواه أبو داود وغيره عن أبي برزة قال: كنت عند أبي بكر -رضي الله عنه-، فتغيظ على رجل فاشتد عليه، فقلت: تأذن لي يا خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أضرب عنقه؟ قال: فأذهبت كلمتي غضبه، فقام فدخل فأرسل إلي فقال: ما الذي قلت آنفاً؟ قلت: ائذن لي أضرب عنقه. قال: أكنت فاعلاً لو أمرتك؟ قلت: نعم. قال: لا والله ما كانت لبشر بعد محمد صلى الله عليه وسلم، والحديث صحيح.
وقد استدل به على قتل منتقصه -صلى الله عليه وسلم- جماعة من أهل العلم، ففيه النص على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان له أن يقتل من سبه وأغلظ له، والنبي -صلى الله عليه وسلم- لا يأمر بمعصية، فدل ذلك على أن كل من أغلظ له وسبه جاز قتله، ويتأكد قتله بعد موته صلى الله عليه وسلم، فقد كان له أن يعفو عن حقه صلوات الله وسلامه عليه في حياته وقد فعل لأسباب في مواضع، لكن ليس لأحد أن يعفو عن حق غيره؛ فكيف بحق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلم يبق غير تعيّن القتل.

وممن قتلوا لأجل أذاهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبو رافع بن أبي الحُقيق اليهودي، وقصته مستفيضة أصلها في صحيح البخاري.

والأدلة غير هذه كثيرة متظاهرة منها قصة العصماء بنت مروان، ومنها قصة أبي عفك اليهودي، وحديث أنس بن زُنَيْم الدَّيلي.

وقد جاءت أدلة الشرع كثيرة تفيد أن قتل ساب النبي -صلى الله عليه وسلم- لا تفتقر إلى إذن من أحد، ولا يعد التصرف بقتل الساب لأجل سبه النبي صلى الله عليه وسلم- افتئاتاً مذموماً، كما في حديث اليهودية المذكور، وفي خبر العصماء بنت مروان فإن عمير بن عدي قال لما بلغه أذاها لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن عليَّ نذراً لئن رددت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة لأقتلنها، فقتلها بدون إذن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومع ذلك قال صلى الله عليه وسلم: “إذا أردتم أن تنظروا إلى رجل نصر الله ورسوله بالغيب؛ فانظروا إلى عمير بن عدي” .

قال الإمام ابن تيمية مقرراً الإجماع على قتل الساب وإن كان ذمياً: “وأما إجماع الصحابة فلأن ذلك نُقِل عنهم في قضايا متعددة ينتشر مثلها ويستفيض، ولم ينكرها أحد منهم فصارت إجماعاً، واعلم أنه لا يمكن ادعاء إجماع الصحابة على مسألة فرعية بأبلغ من هذا الطريق”، ثم ذكر وقائعاً وإجماع الصحابة فيها على قتل الساب وإقرارهم لقاتله.

وأما الاعتبار فإذا كان المسلم يقتل بغير خلاف إذا سب النبي -صلى الله عليه وسلم- وكذلك الكافر، وأخيرًا قد ذكرنا ما سبق من الأدلة للدلالة على شدة عقوبة من ينال من شخص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في شريعة الإسلام، ولكن بلا شك إن تحقيق مناط الأحكام وإنزال حكم الشرع على من ينال من شخص الرسول -صلى الله عليه وسلم- هو من مهام واختصاص القضاء المسلم الذي يحكم بشرع الله، ولكن لما ضيعت الشريعة واستبدلت لم يعد قضاء ينزل أحكام الشرع على المجرمين؛ فتطاول السفلة بحقارتهم مستغلين مساوئ ما وضعوه من قانون وضعي في بلاد المسلمين، ومن الملفت أن بعض علماء المسلمين يطالبون بتجريم دولي للإساءة لشخص النبي وأنبياء الله، رغم أنه في بلاد المسلمين لا يوجد هذا التجريم الإقليمي -ولا حول ولا قوة إلا بالله -.