مفهوم الكتلة النيابية الأكثر عدداً في الدستور العراقي

بعد أن اتضحت النتائج الأولية للانتخابات البرلمانية، كَثُر الحِراك السياسي للكُتل التي حققت تقدماً في النتائج الانتخابية، وعقدت العديد من الجلسات الحوارية والتفاوضية، من أجل تشكيل التحالفات، التي يتم من خلالها، الوصول إلى اتفاقات سياسية تقود إلى تشكيل الحكومة المقبلة، وتوزيع المناصب الرئاسية الثلاثة (رئيس مجلس النواب، رئيس الجمهورية، رئيس الوزراء)، والتي نرى متى ما تم الاتفاق عليها، اتضحت الملامح الرئيسة للحكومة الجديدة، ومن هم قادتها.

ولكن هناك تساؤل يطرح حول شكل الحكومة المقبلة، هل ستكون حكومة استحقاق انتخابي فعلاً، تشكل من قبل الكتلة الفائزة بأغلب الأصوات، أو من قبل الكتلة الحاصلة على أكثر عدداً من الأصوات أو المقاعد بعد الائتلاف فيما بينها، أم أن الحال سيبقى على ما كان عليه في ظل الحكومة السابقة، فيكون تشكيل الحكومة الجديدة محكوماً بالتوافقات السياسية، بعيداً عن الاستحقاقات الانتخابية، فنكون أمام حكومة توافقية أو تشاركية؟ أم أن الحكومة المقبلة ستراعى فيها الاستحقاقات الانتخابية إلى جانب التوافقات والتشاركات أو التعددية في التكوين.
ان الإجابة على هذا التساؤل يحتاج، إلى استقراء الساحة السياسية، في ضوء ما تمخضت عنه الانتخابات البرلمانية الأخيرة.

من المتعارف عليه أن الكتلة البرلمانية التي تحقق الفوز في الانتخابات، هي صاحبة الحق في تشكيل الحكومة، من خلال ترشيحها لإحدى الشخصيات التي ترى فيها الجدارة والكفاءة في قيادة الوزارة الجديدة، فاستقراء النتائج الأولية يشير إلى عدم تحقيق أي من الكيانات السياسية لأغلبية برلمانية تمكنها من تشكيل الحكومة لوحدها، بل أن هذه الأغلبية المطلقة، وأن حققتها كتلة لوحدها، تحتاج إلى تحالفات مع كتلة أو أكثر، وهذه هي المرحلة الثالثة، من مراحل تشكيل الحكومة، والتي تبدأ من خلال دعوة رئيس الجمهورية المنتهية ولايته (مجلس الرئاسة)، لمجلس النواب إلى الانعقاد خلال فترة لا تزيد على (خمسة عشر يوماً) من تأريخ المصادقة على نتائج الانتخابات العامة، بعد المصادقة عليها من قبل المحكمة الاتحادية العليا، فتعقد الجلسة الأولى برئاسة أكبر الأعضاء سنا لانتخاب رئيس المجلس ثم نائبيه بالأغلبية المطلقة لعدد أعضاء المجلس، وبالانتخاب السري المباشر، ولا يجوز التمديد لأكثر من المدة المذكورة أنفا ((المادتين54، 55)) من الدستور، تعقبها المرحلة الثانية عندما ينتخب مجلس النواب من بين المرشحين رئيساً للجمهورية، الذي بدوره يحتاج إلى توافق أكثر من كتلة برلمانية لاختياره، لاسيما وأن هذا الانتخاب يحتاج إلى أغلبية ثلثي عدد الأعضاء، كخطوة أولى- والذي نعتقد أنه سيحسم من أول تصويت ولا يحتاج للخطوة البديلة-، فإذا لم يحصل أي من المرشحين على الأغلبية المطلوبة، يتم التنافس بين المرشحين الحاصلين على أعلى الأصوات، ويعلن رئيساً من يحصل على أكثرية الأصوات في الاقتراع الثاني (المادة70) من الدستور- وهذا مالا نتوقع حصوله-، وهنا نطرح التساؤل الآتي:- هل يشترط في رئيس الجمهورية أن يكون من بين المرشحين لعضوية مجلس النواب، أم يمكن اختياره من بين المرشحين من داخل أم خارج المجلس؟

لو رجعنا لنص المادة(70) من دستور جمهورية العراق لعام 2005 لوجدناها تنص على ما يأتي((أولاً- ينَتَخِب مجلس النواب من بين المرشحين رئيساً للجمهورية. . . . الخ)).
فهؤلاء المرشحون يمكن أن يكونوا من النواب الفائزين بعضوية مجلس النواب، أو من خارجهم، كون الترشيح يتم من خلال الكتل البرلمانية الفائزة في الانتخابات، والتي توافقت على المناصب الرئاسية الثلاث، فليست العبرة بالترشيح، بل بضمان الفوز من خلال الحصول على الأغلبية المطلوبة للفوز بالمنصب(أغلبية الثلثين)، (217 صوت)، وهذا الأمر من الصعوبة تحققه مالم تأتلف أكثر من كتلة برلمانية لتكوين جبهة تكون قادرة على تحقيق تلك الأغلبية.
تأتي بعدها المرحلة الثالثة التي نصت عليها الفقرة (أولاً)/ المادة(76) من الدستور، فيكلف رئيس الجمهورية، مرشح الكتلة النيابية الأكثر عدداً، بتشكيل مجلس الوزراء، خلال خمسة عشر يوماً من تأريخ انتخاب رئيس الجمهورية.
ولكن السؤال الأهم هنا ماذا نقصد بالكتلة النيابية الأكثر عدداً؟
هناك اتجاهان بصدد معرفة المقصود بالكتلة النيابية الأكثر عدداً، ووجود هذين الاتجاهين مرجعه الاختلاف في تفسير العبارة المذكورة(الكتلة النيابية الأكثر عدداً).

الاتجاه الأول:

يرى بأن المقصود بتلك العبارة، الكتلة التي تحصل على أعلى الأصوات في الانتخابات البرلمانية، بمعنى أن الأمر الأساس بالنسبة لهذا الاتجاه الحصول على أغلب الأصوات في الانتخابات، بغض النظر عن عدد المقاعد التي تحصل عليها، والتي تكون ترجمة لما حصلت عليه من أصوات وفقاً لنظام توزيع المقاعد، والتي قد تكون أقل من قائمة أخرى، وهذا الأمر يتضح مباشرة بعد الإعلان النهائي للمقاعد، وقبل عقد أي تحالفات أو الدخول في أي ائتلافات. والأغلبية المطلوبة هنا هي الأغلبية النسبية لعدد الأصوات، فلو فرضنا أن هناك ثلاث قوائم، حصلت (أ) على(3566457)صوتاً، وحصلت القائمة (ب) على(3543891)، وحصلت القائمة(ج) على(2857343) صوتاً، تكون القائمة (أ) هي صاحبة الأغلبية من حيث عدد الأصوات.

الاتجاه الثاني:

يذهب إلى أن المقصود بتلك العبارة الكتلة التي تحصل على أكثر المقاعد النيابية، بغض النظر عن عدد الأصوات التي حصلت عليها، الأمر الذي يعني أنه قد تكون الكتلة الحاصلة على أكثر الأصوات هي ذاتها الحاصلة على أكثر المقاعد البرلمانية، وقد تحصل كتلة على أكثر الأصوات، ولكنها لا تكون الأكثر مقاعداً، كون العراق في الانتخابات الأخير قسم إلى دوائر انتخابية متعددة. وهذا الاتجاه يرى بأن ذلك الوقت الذي تحدد فيه تلك الكتلة بعد إعلان النتائج الرسمية للانتخابات وتوزيع المقاعد النيابية، وقبل الدخول في أي تحالف أو ائتلاف. فوفقاً للمثال المذكور أعلاه، قد تكون القائمة (ب) هي صاحبة أكثر المقاعد النيابية عدداً، وفقاً لنظام الدوائر الانتخابية المتعددة، في حين أنها حصلت على مجموع أصوات أقل من القائمة(أ) التي احتلت المرتبة الأولى من حيث عدد الأصوات، ولكنها أصبحت ثانياً من حيث عدد المقاعد.

الاتجاه الثالث:

يذهب إلى أن المقصود بذلك القوائم المؤتلفة أو المتحالفة بعد ظهور النتائج الانتخابية الرسمية والتي تمتلك بمجموعها أغلبية المقاعد النيابية، وهذا الائتلاف قد يكون حصيلة أتفاق قائمتين أو أكثر، على سبيل المثال لو كانت القائمة(أ) قد حصلت على (100) مائة مقعد، والقائمة (ب) حصلت على(67) خمس وستون مقعداً، والقائمة(ج) حصلت على (55) مقعداً، فعند ننظر إلى مجموع ما حصلت عليه القائمتين(أ، ب) نجدهما قد حصلا على أكثر المقاعد النيابية (167)، والبالغة عددها(325)، فهما مجتمعين تحت مظلة الكتلة الجديدة، أصحاب الأغلبية البرلمانية، وبالتالي انطباق عبارة الكتلة الأكثر عدداً عليهما، فكيف إذا انضمت إليهما القائمة(ج)، فيكون مجموع مقاعدها(أ، ب، ج)، مجتمعين(222)، فيكون لهم أغلبية الثلثين في المجلس مما يؤهلهم ويعطيهم الحق في تشكيل الحكومة.

ونحن مع ميلنا إلى ترجيح الرأي الثالث، والذي نراه الأقرب إلى واقع النظام البرلماني الذي تبناه الدستور العراقي، وحصول الكثير من السوابق في الدول التي يقترب نظامها السياسي من النظام الذي تبناه الدستور العراقي، نرى أن الأمر في حالة حصول الخلاف بين الكتل النيابية، بعد ظهور النتائج الرسمية والمصادقة عليها من قبل الجهة المختصة، متروك إلى المحكمة الاتحادية العليا، كونها صاحبة الاختصاص الأصيل في تفسير نصوص الدستور في حالة حصول خلاف حول أحدها. والتي يكون رأيها بهذا الخصوص ملزم للجميع، وأن كنا نأمل أن لا يصل الأمر إلى هذا الحد من الخلاف، وأن كان خلافاً قانونياً دستورياً يؤشر حالة صحية من خلال لجوء الجميع واحتكامهم إلى أعلى جهة قضائية في الدولة.