مفهوم الجريمة في القانون

الجريمة هي ظاهرة اجتماعية ذات ابعاد خطيرة على المجتمع لذلك كان لها بالمرصاد منذ ان ظهرت وعندما ظهرت الجماعة السياسية (الدولة) اخذت على عاتقها القيام بهذه المهمة فشرعت القوانين العقابية التي تبين على نحو مفصل الجرائم والعقوبات وغيرها من الاجراءات الاحترازية لمكافحتها والحد منها وبذلك تحولت الجريمة الى فكرة قانونية.

فالمشرع عندما يصوغ قانون عقابي فانما هو يستهدف كل سلوك انساني يجده ماسا بالعلاقات الاجتماعية السائدة في المجتمع ومعرقلا لازدهارها وتقدمها فضلا على الاجراءات الاخرى التي من شانها الحد من انتشار ذلك السلوك الخطر وبذلك فهو يحدد لكل فعل او سلوك يجده جديرا بالتجريم بوصف مدى خطورته على مجتمع معين وفي زمن معين.

والواقع ان القوانين العقابية الحديثة تجنبت تعريف الجريمة وهو ما يعده غالبية الكتاب القانونيين مسلكا محمودا لها لان وضع تعريف عام للجريمة هو امر غير ذو فائدة طالما ان المشرع وتطبيقا لمبدا قانونية الجرائم والعقوبات يضع لكل نصا خاصا يحدد اركانها ويبين عقابها بل يذهب بعض الكتاب الى ان وضع تعريف محدد للجريمة في القانون لا يخلو من ضرر لان التعريف مهما بدا على درجة عالية من الصياغة فانه لن يأتي جامعا لكل المعاني المطلوبة وهو ان جاء كذلك في وقت وضعه فهو حتما لن يستمر كذلك في زمن آخر وقد سلك القانون الاتحادي هذا المسلك ومثله ذهبت التشريعات الاخرى كالقانون المصري والايطالي والفرنسي واللبناني.

و مع ذلك نجد ان قوانين أخرى حاولت وضع تعريف عام للجريمة كقانون العقوبات الاسباني الصادر عام 1928 والسويسري الصادر عام 1937 حيث عرفت في المادة الاولى منه (بانها التصرف الذي يستتبعه عقاب منصوص عليه في هذا القانون او اي قانون اخر).

والامر عكس ذلك في الفقه فقد حرص رجال الفقه الجنائي على ان يكون وضع تعريف عام للجريمة او تحديد مفهومها من اول واهم ما تحويه مؤلفاتهم لكي تتميز عما يمكن ان يتشابه او يختلط معها من معاني اخرى كالجريمة المدنية او الجريمة التأديبية وغيرها. وبطبيعة الحال فان هناك عدة تعريفات مختلفة للجريمة في ضوء الفكر الفلسفي الذي يتبناه الفقيه.

ففي ظل المذهب الفردي والذي يغلب جانب الشكل على مفهوم الجريمة وتعريفها ويترتب على ذلك اعتبار السلوك الانساني جريمة بمجرد تخصيص نص جنائي له وعندئذ فان مفهوم الجريمة يرتبط بالقانون نفسه بمقدار ما يتعلق الامر بتحديد الانموذج الجرمي للسلوك الانساني الذي يقرره المشرع من دون ان يتبع ذلك الخوض في الطبيعة المادية لهذه الظاهرة الاجتماعية، ولكن هناك بعض الكتاب الغربيين من ذهب باتجاه الافصاح عن المفهوم المادي للجريمة عند وضعه تعريفا لها ،فقد عرفها الفقيه الفرنسي بوزا بانها ( الفعل او الامتناع عن الفعل الذي يعتدي على نظام السلام والطمأنينة الاجتماعية الذي من اجل ذلك يستوجب العقوبة).

وسلك نفس هذا المنهج الفقيه الايطالي جاروفالو فالجريمة وفقا لمفهومه لا يستدل عليها من عقاب خصص لها وانما بقدر ما تسببه من ضرر للمجتمع او من عدوان على الشعور الاخلاقي للانسان المتحضر. اما في ظل المذهب الاشتراكي فالجانب المادي هو المعول عليه في تعريف الجريمة (فالجريمة ظاهرة اجتماعية تظهر في المجتمع عند بلوغه مرحلة معينة من التطور وتزول بانعدام الظروف المادية التي ادت الى وجودها) فلكي يعد السلوك الانساني جريمة في المجتمع الاشتراكي ينبغي ان يبلغ من الخطورة ما يهدد العلاقات الاجتماعية الاشتراكية مما يستوجب ايقاع العقاب على الشخص الذي يقوم باقترافه.

و بناء عليه فقد عرف المشرع السوفيتي الجريمة في المادة (7 ) من أسس التشريع الجنائي لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية والجمهوريات المتحدة بقوله ( يعد جريمة الفعل الخطر اجتماعيا الذي يعالجه القانون الجنائي وسواء كان فعلا ام امتناعا منه يتجاوز على النظام الاجتماعي السوفيتي او نظام الدولة السوفيتي …) فالمعول عليه هو الخطورة الاجتماعية اي تهديد العلاقات الاجتماعية الاشتراكية فهو الأساس المعول عليه في تحديد الجريمة فاذا فقد السلوك الانساني خطورته الاجتماعية فلا يعد جريمة برغم انه من حيث الشكل يحتوي على سمات فعل منصوص عليه في قانون العقوبات.

اما الفقه الجزائي العربي فانه يميل الى التمسك بالجانب الشكلي عند تعريفه للجريمة فيعرف الجريمة على انها (كل سلوك خارجي ايجابيا كان ام سلبيا جرمه القانون وقرر له عقابا اذا صدر عن انسان مسؤول) او هي (الفعل او الامتناع عن فعل والذي يتناول الاعتداء على العلاقات الاجتماعية السائدة في المجتمع).

ولا بد ان ينص قانون العقوبات او احد القوانين المكملة له على الفعل لكي يصبح جريمة وفقا للتعريف المتقدم وبالتالي فهي واردة فيه على سبيل الحصر ن اما الجريمة المدنية فهي تختلف عن هذا المفهوم كونها وردت في القانون المدني اولا ومن ثم فهي لم ترد فيه على سبيل الحصر فقد عرفها القانون المدني على انها (كل فعل نشأ عنه ضرر للغير واوجب ملزومية فاعله بتعويض الضرر وسواء كان معاقبا عليه ام لا كقتل حيوان من دون عمد او اتلاف مال نتج عن اهمال، ويترتب على الجريمة الجنائية العقوبة او التدبير الاحترازي التي اساسها تحقيق مصلحة عامة عن طريق اصلاح الجاني وردع غيره اما رد الفعل الذي يترتب على الجريمة المدنية هو اصلاح الضرر تحقيقا لمصلحة فردية فالجريمة المدنية يستتبعها رفع الدعوى المدنية في حين يترتب على الجريمة الجنائية رفع الدعوى الجزائية او كما يطلق عليها الدعوى العامة.

وتجدر الاشارة الى انه لا يوجد تلازم بين الجريمتين المدنية والجنائية فقد ينشأ الفعل جريمة مدنية فقط من دون ان ينطوي هذا العمل على جريمة جزائية والعكس صحيح . وقد ينطوي الفعل على جريمة جزائية وجريمة مدنية في ان واحد كفعل القتل او الجرح اذ ينشا عنهما دعوتين جزائية (عقوبة وفقا لقانون العقوبات) ومدنية (التعويض للمدعي بالحق المدني وفقا للقانون المدني).

وتختلف عن المفهومين المتقدمين الجريمة التأديبية فكل فعل يعتب اخلالا بواجبات الوظيفة او المهنة او الهيأة التي ينتسب اليها فاعلها او مساسا بالهيبة والاحترام اللازمين لهؤلاء الاعضاء بحكم صفتهم هذه الذي يستوجب عقوبات تأديبية او عقوبات انضباطية (كما تسمى في القانون الاتحادي) كاشتغال الموظف بالتجارة او اهماله في اداء عمل وظيفته او ارتكابه عملا يخل بكرامة الوظيفة.

والحقيقة ان القانون لم يحدد الجرائم التأديبية على سبيل الحصر كما في الجريمة الجنائية التي وردت على سبيل الحصر في قانون العقوبات ، اما بالنسبة للعقوبات فقد وردت محددة وهي عقوبات ادارية انضباطية كالإنذار وتأخير الترفيع والفصل والعزل وغيرها التي توقع بقصد المحافظة على شرف الطائفة او الهيأة الادارية وعلى حسن اداء اعمالها ويترتب على اقتراف الفعل المخل بواجبات الوظيفة العامة اقامة الدعوى الانضباطية امام مجالس الانضباط او لجانها.

وينبغي ان نشير هنا ان لا تلازم بين الجريمة المدنية والجريمة الجزائية فقد يكون الفعل الواحد جريمة جزائية ومدنية كحالة الموظف الذي يعتدي على رئيسه بالضرب او حالة الموظف الذي يقوم بافشاء سر مهنته او الذي يقوم بالاختلاس وعندئذ تنشأ دعوتين الاولى جزائية والثانية انضباطية.

المحامية: ورود فخري