مدى اعتبار حسن النية من قواعد النظام العام العبر دولي

إن مبدأ حسن النية يجسد السند المفضل للمحكمين في عملية تعزيز الأخلاق والاستقامة في المعاملات الخاصة التجارية الدولية، فهي محور تعليلهم وتحليلهم في تقدير تصرفات المتعاملين في ميدان هده العلاقات، لذلك يعتبرها البعض جزءا من النظام العام العبر دولي، والبعض الأخر يضيف إليه المبادئ الناتجة عنه أو الدائرة في كنفه، في إطار تكريس العقد من المفاوضة بشأنه إلى تنفيذه[1]، بالمقابل فإن البعض الأخر يتخوف من هذا التوجه معتبرا أن جعل مبدأ حسن النية من قواعد النظام العام العبر دولي على إطلاقه من شأنه أن يجعل كافة قواعد lex. mercatoria  من النظام العام العبر دولي[2] كون مبدأ حسن النية يشكل عصب هذه القواعد ككل وعليه فالأمر يختلف بين الأشخاص الخصوصيين في علاقاتهم بالأشخاص العامة وكذا فيما بين الأشخاص الخاصة فيما بينها.

فمن حيث المبدأ بين الأشخاص العموميين والأشخاص الخصوصيين، نشير هنا إلى قضية Ganz  التي إستند المحكمون إلى مبدأ حسن النية في تقريرهم للحل القانوني الذي وضعوه، وذلك عندما اعتبروا أن قرار السلطات الهنغارية بتقسيم شركة Ganz mavaz  إلى سبع شركات وجعل واحدة منها ملزمة بالعلاقة القائمة مع الشركة الوطنية لسكك الحديد التونسية  SNCFT  هو قرار غصبي وخداعي[3]، وبدلك يكون مخالفا للنظام العام العبر دولي، وانتهوا إلى إلزام الشركات السبع بالعلاقات القائمة مع الشركة التونسية بصورة تضامنية وهذا ما أيدته استئنافية باريس في معرض نظرها بمراجعة الإبطال المقدمة أمامها ضد القرار، عندما قضت أن للمحكم الدولي سلطة معاقبة التصرفات المخالفة لمبدأ حسن النية الذي يجب أن يسود بين أطراف التجارة الدولية وفي قرار أخر اعتبر المحكمون أن إعطاء اثر للحكم القاضي بإعلان الإفلاس الصادر في دولة ساحل العاج  فيما يتعلق بتعيين وكيل التفليسة من شأنه تأخير سير إجراءات المحكمة التحكيمية بصورة غير مشروعة ، سيكرس مساسا بالمبدأ العام ذي طابع النظام العام الدولي والقاضي بوجوب تنفيذ الاتفاقات بحسن نية [4]

اما من حيث المبدأ بين الأشخاص الخاصة فيما بينها، وبالرغم من كثرة القرارات التحكيمية التي عمدت إلى تطبيق مبدأ حسن النية والقواعد الناتجة عنه، فإن أيا منها لم يشر إلى هدا المبدأ كقاعدة نظام عام عبر دولي يتوجب احترامها ومعاقبة مخالفتها، بل اكتفت بوصفه من مبادئ lex. mercatoria  أي قانون التجار على الصعيد الدولي . وأقصى ماتوصلت إليه في صياغتها المختلفة هو وجوب احترام مبدأ حسن النية والقواعد الناتجة عنه وتأسيس معاقبة بعض التصرفات عليه ومساواته في إحدى القضايا بالنظام العام الدولي في إطار العلاقات الدولية.

ففي القرار رقم 3131 لسنة 1979[5]، أبرز المحكمون مبدأ حسن النية في إطار تكوين العقد وتنفيذه كقاعدة عامة من قواعد القانون التجاري الدولي lex. Mercatoria   وانتهى المحكمون استنادا إلى مبدأ حسن النية إلى أن فسخ العقد بفعل أو خطأ أحد الأطراف يوجب التعويض عن الضرر اللاحق بالطرف الأخر.
وفي قرار رقم 5953 لسنة 1989[6] حيت قضى المحكمون بهيمنة مبدأ حسن النية على التفاوض على العقد وعلى تفسيره وتنفيذه.
وإذا كان يستفاد من القرارات السابقة مدى أهمية مبدأ حسن النية وإلزاميته فإنها لم تصل إلى درجة إبرازه كمبدأ من مبادئ القانون التجاري الدولي، وذلك عكس ماعليه القرارين الصادرين في القضية 4761 لسنتي 1984[7] و1987[8]، اللذين قضيا في النزاع الناشب بين الطرفين الايطالي والأخر الليبي بوجوب تطبيق القانون الليبي في كل ما لايتعارض مع النظام العام الدولي ومبدأ حسن النية .

عموما حاولنا من خلال هدا المبحث إظهار قواعد النظام العام العبر دولي، واشرنا إلى شدة الارتباط الحاصل بينه وبين القواعد العبر دولية أو الموضوعية وتبين أن كلا المفهومين محل نقاش في الفقه وإن حسم أمر وجودهما من قبل الفقه الحديث والمحكمين إيجابا كما عرضنا للمدى السلطة التقديرية التي يتوفر عليها المحكم للتصدي لكل نقص قد يشوب إرادة الأطراف بل قد يتجاوزها إلى حدود استبعادها إذا كانت مخالفة لقواعد النظام.

إلا أن أمالنا وتطلعاتنا قد تتجاوز هاته المسالة وتتعداها للمطالبة بروز نظام عام عربي موحد، في الوقت الذي نجد فيه دولا قد شكلت اتحادات رغم التباين الحاصل بينها واستطاعت بالفعل تكريس منظورها للحياة الاقتصادية الدولية، حيث لنا في الاتحاد الأوروبي خير مثال على ذلك، فلما لا الدول العربية والإسلامية، باعتبار أن هناك عدة معايير لايمكن إنكارها منها استناد أغلب التشريعات في هذه الدول إلى مبادئ الشريعة الإسلامية، كما أن الأنظمة القانونية للدول العربية تقوم على مبادئ سياسية واقتصادية واجتماعية متشابهة إلى حد كبير إن لم تكن واحدة[9].
من جهة أخرى يؤمن كل مواطن عربي من المحيط إلى الخليج بالقواعد والمبادئ الأخلاقية ذاتها ويمارس العادات والتقاليد ذاتها، كل هذا بالإضافة إلى الروابط المشتركة في اللغة والتاريخ جعلت من الأنظمة القانونية للدول العربية وحدة حقوقية متكاملة وذات قاعدة عريضة، يلزمها جهد قد يبدو بسيطا ولكنه صعب المنال من أجل توحيدها ولكننا نمني النفس يوما بمشروع اتفاقية بين هاته الدول في مجال توحيد أحكام العلاقات الخاصة الدولية.
حقيقة إن تنفيذ مثل هذه الاتفاقية لن يعطله التدخل المتكرر لفكرة النظام العام الدولي بين الدول العربية، في حين أن هذا الأمر يحصل عادة بين دول تتبنى أنظمة قانونية مختلفة ولا تجمعها وحدة اقتصادية واجتماعية متكاملة.

[1]   Y – Derains ; les tendance du jurisprudence arbitral  international (clunet) 1993 p 829est s .
Ph – pinsolle ; distinction entre le principe de l’estoppel et le principe de bonne foi  dans le droit du commerce  international (clunet) 1998 p 905    .
[2]  Osman filali p 18 est s  .
[3] C-A-P  29 mars 1991 Rev arb 1991 p 478 et note par Idot .
[4]  حول الحكم التحكيمي يرجى الرجوع الى القرار
C-A-P 2 janvier 1993 Rev arb 1994 p 685 spéc 691 note p Mayer .
[5] Sentence rendu l’égide de la CCI  dans l’affaire no 3131 de 1979 Rev arb 1983 p 525 .
[6] Sentence rendu l’égide de la CCI  dans l’affaire no 5953 de 1989 ( clunet ) 1990p 1056 note . Y – Derains .
[7] Sentence rendu l’égide de la CCI  dans l’affaire no 4761 en 1984 ( clunet ) 1986 p 1137 note S – Jarvin .
[8] Sentence rendu l’égide de la CCI  dans l’affaire no4761 en 1987 ( clunet ) 1987 p 1012
note S – Jarvin  .
[9] للمزيد من التوسع في هاته الفكرة يمكن الرجوع الى : محمد وليد هاشم المصري ،محاولة لرسم معالم النظام العام الدولي العربي بمفهوم القانون الدولي الخاص مجلة الحقوق الكويتية العدد 4 السنة 27 دجنبر 2003 .