تفتخر الدول والمجتمعات الواعية بمدى استقلالية مؤسساتهم القضائية، إذ إن استقلالية العمل القضائي عن تأثير باقي سلطات الدولة يعد من أهم الوسائل التي توفر العدالة وتحفظ الحقوق وتضمن نزاهة القضاء، وتحول دون تسلط بعض الجهات التنفيذية أو غيرها من الجهات النافذة على أصحاب الحقوق وظلمهم ومنازعتهم في حقوقهم.

ومبدأ استقلالية السلطة القضائية يعد من أهم مبادئ التنظيمات القضائية على مستوى العالم، ويهدف إلى أن يسير العمل القضائي بحيادية وموضوعية، وتصدر أحكامه وقراراته بناء على المعطيات الفعلية لكل قضية ووفق الأنظمة التي تحكم ذلك النوع من القضايا، دون أن تتدخل أي جهة أو شخص في عمل القاضي، ودون أن يخضع القاضي في قضائه لأي تأثيرات أو ضغوط تسعى إلى تغيير رأيه وقناعته الموافقة للقانون ولمقتضيات العدالة، ومحاولة صرفها لمصلحة أحد الخصوم دون الآخر، أو لمصلحة حكمٍ معين دون غيره، سواء كانت تلك الضغوطات بالترغيب أو بالترهيب.

والحديث عن استقلالية القضاء ينصب على العمل الفني للقاضي فقط، دون باقي العلاقات أو الإجراءات الإدارية أو ما يتعلق بشؤون تنفيذ الأحكام القضائية، ومما يؤكد عليه الفقه القضائي الحديث أن استقلال السلطة القضائية ليس معناه الفصل التام بينها وبين باقي سلطات الدولة الأخرى، فإن جميع سلطات الدولة تعمل على اختلاف مهامها تحت كيان واحد وهو الدولة ولخدمة المصالح العليا للدولة والشعب، ولا يلزم من استقلال القاضي في قضائه عدم وجود ضوابط تضبط أداءه لوظيفته، فالقاضي مقيد بالأنظمة الصادرة من السلطة التشريعية في دولته، وما يُصدره من أحكام يخضع للرقابة والمراجعة الدقيقة من المحاكم الأعلى درجة؛ كمحاكم الاستئناف وما في حكمها.

وفي المملكة العربية السعودية عمل المنظم على استقلالية القضاء عن باقي سلطات الدولة، وجعل ذلك مبدأً أساسياً من مبادئ التنظيم القضائي في المملكة، فالقاضي في التنظيم السعودي لا يخضع إلا لأحكام الشريعة الإسلامية وما يصدره ولي الأمر من أنظمة لا تتعارض معها، وذلك حسب ما ورد في المادة السادسة والأربعين من النظام الأساسي للحكم من أن (القضاء سلطة مستقلة، ولا سلطان على القضاة في قضائهم لغير سلطان الشريعة الإسلامية)، وقد وضع المنظم السعودي عدداً من الضمانات الإجرائية والتي تكفل تطبيق وتفعيل ذلك المبدأ على أرض الواقع، وفي السطور التالية بعض من تلك الضمانات:

أولاً: أوكل المنظم السعودي مهام التفتيش والرقابة على القضاة إلى إدارة متخصصة ضمن المؤسسة القضائية، وهي إدارة التفتيش القضائي في المجلس الأعلى للقضاء، وتتألف من عدد من القضاة، الذين يتم اختيارهم من قضاة محاكم الاستئناف ومحاكم الدرجة الأولى، وتقوم هذه الإدارة بالتفتيش على القضاة لمعرفة مدى كفايتهم وحرصهم على أداء واجبات وظيفتهم على الوجه الشرعي والنظامي، والتحقيق في الشكاوى المقدمة ضدهم في المسائل المتصلة بأعمالهم، وذلك حسب المادة (55) من نظام القضاء الجديد، ولم يوكل المنظم ذلك إلى هيئة من هيئات السلطة التنفيذية كوزارة العدل، مما قد يتسبب في زعزعة استقلالية العمل القضائي، وجعله يخضع في أعماله الفنية للسلطة التنفيذية.

ثانياً: تتولى تأديب القضاة دائرة متخصصة في المجلس الأعلى للقضاء، ومشكلة من كادر قضائي، تُرفع أمامها الدعوى التأديبية من إدارة التفتيش القضائي، وذلك بعد إجرائها التحقيقات اللازمة، وتصدر دائرة التأديب قراراتها بالأغلبية، ولا تكون نهائية إلا بعد موافقة المجلس عليها، كما في المادتين (59 – 60) من نظام القضاء الجديد.

وبناء على ذلك فأعمال التفتيش على القاضي، والتحقيق معه، ورفع الدعوى التأديبية عليه، والفصل فيها، كل ذلك يصدر من دوائر متخصصة داخل المؤسسة القضائية، مما يعنى قدراً كبيراً من الاستقلالية للعمل القضائي في المملكة.

ثالثاً: وجود المجلس الأعلى للقضاء وهو مجلس من القضاة يهيمن على شؤون السلطة القضائية ضمانة في غاية الأهمية لاستقلالية القضاء، حيث إن ذلك يمنع السلطة التنفيذية – وزارة العدل أو غيرها – من التدخل في العمل القضائي، وقد نص النظام على أن يُكّون المجلس الأعلى للقضاء من عشرة أعضاء كلهم من السلك القضائي ما عدا عضو واحد وهو رئيس هيئة التحقيق والادعاء العام، أما وكيل وزارة العدل – والذي هو عضو في المجلس – فهو قاضي في الأساس قبل أن يكون وكيلاً للوزارة، وذلك حسب ما ورد في المادتين (5 – 72) من نظام القضاء.

رابعاً: رأى المنظم السعودي أن يستقل المجلس الأعلى للقضاء عن الإشراف المالي والإداري عن وزارة العدل – وهي سلطة تنفيذية -، كما في المادة (8) من نظام القضاء، وجعل له ميزانية خاصة به، تصدر حسب القواعد المتبعة لصدور الميزانية العامة للدولة، بينما أبقى على الإشراف المالي والإداري للوزارة على كافة المحاكم.

خامساً: أكد المنظم السعودي في إطار ضمانات استقلال السلطة القضائية أن القضاة غير قابلين للعزل أو إنهاء الخدمة إلا في أحوالٍ محددةٍ ومحصورةٍ نص عليها النظام، ويكون العزل بأمر ملكي بعد اقتراح من المجلس الأعلى للقضاء، وذلك في غير حالات الوفاة أو الإحالة للتقاعد أو عدم الصلاحية خلال سنة التجربة بالنسبة للملازم القضائي، كما في المواد (2 – 69 – 70) من نظام القضاء.

سادساً: كما أن من الضمانات لاستقلالية السلطة القضائية في التنظيم السعودي ما نصت عليه المادة (49) من نظام القضاء من أنه لا يجوز نقل القضاة أو ندبهم داخل السلك القضائي إلا بقرار من المجلس الأعلى للقضاء، كما لا يجوز نقلهم أو ندبهم خارج السلك القضائي إلا بأمر ملكي بعد اقتراح من المجلس الأعلى للقضاء، كما نصت المادة (3) من نظام القضاء على أنه لا يجوز نقل القضاة إلى وظائف أخرى إلا بعد رضاهم أو بسبب ترقيتهم.

وبذلك يضمن القاضي أن لا تستغل السلطة التنفيذية صلاحيتها في نقله عن مقر وظيفته إلى مقر أخر لا يرغب فيه بسبب حكمه القضائي في خصومة ما بما يختلف مع رغبات بعض النافذين.

سابعاً: جرّم المنظم السعودي تدخل أعضاء مجلس الوزراء والموظفين المعينين بمرتبة وزير في أعمال القضاء، وحدد العقوبة على ذلك بالسجن لمدة تتراوح بين 3 – 5 سنوات، وذلك حفاظاً على استقلال القضاء ونزاهته ومنعاً لسائر الشخصيات النافذة في الدولة من التأثير على سير أحكامه، وذلك حسب ما في المادة (5) من نظام محاكمة الوزراء، ولاشك أن هذا النص كما أنه يجرم الوزراء والموظفين المعينين بمرتبة وزير إذا تدخلوا في أعمال القضاء، فإنه كذلك يجرم غيرهم ممن هو أقل مرتبة ووجاهة منهم من باب أولى.

ثامناً: لا تجوز مخاصمة القضاة بسبب أعمال وظيفتهم إلا وفق الشروط والقواعد الخاصة بتأديبهم، ودون الإخلال بالمسؤولية الجنائية للقاضي إذا قبض عليه حال التلبس بالجريمة، وذلك حسب ما نصت عليه المادة (4) من نظام القضاء، ومعنى ذلك أن القاضي لا يُخاصم إلا إذا أخل بواجباته الوظيفية ومقتضياتها، وتهاون في تحري الحقيقة وترتب على ذلك مسؤولية تأديبية، أما ما يقع من القاضي من أخطاء اجتهادية غير متعمدة ودون تقصير منه في تحري الحقيقة أو إخلال بواجباتهم الوظيفية فإن الأصل أنه لا تجوز في هذه الحالات مخاصمة القاضي، وذلك لكون القاضي من جملة المجتهدين، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد)، والقاعدة الشرعية أنه لا ضمان على القاضي في الأخطاء الاجتهادية طالما أنه بذل وسعه في الوصول إلى الحقيقة ولم يتعمد ذلك الخطأ، مع كفالة الشريعة الإسلامية وضمانها لحق المتضرر في مال المحكوم له أو من بيت مال المسلمين حسب تفاصيل فقهية مذكورة في كتب الفقه الإسلامي.

ويقرر الفقه القضائي أنه طالما انتفت مسؤولية القاضي عن الخطأ السائغ في قضائه فلا محل حينئذٍ لأي جزاء يوقع عليه سواء كان هذا الجزاء مدنياً أو إدارياً أو جنائياً، ولولا هذه الضمانة لما عمل أحدٌ في القضاء، فمهما يكن لن يستطيع القاضي أن يصيب الحق دائماً، ولا يمكن له أن يضمن صوابية اجتهاده، إنما الواجب عليه أن يتحرى الحق، ويحرص على إصابته، ويؤدي واجباته الوظيفية، وليس عليه أن يضمن إصابة الحق دائماً.

هذه مجموعة من الضمانات التي وضعها المنظم السعودي في نظام القضاء وغيره من الأنظمة الأخرى ليضمن استقلالية السلطة القضائية عن باقي السلطات الأخرى، مما يعد بحق صفحة مشرقة في التنظيم السعودي لسلطات الدولة، ينبغي علينا أن نبرزها للآخرين، ونفخر بها.

للكاتب : محمد بن عواد الأحمدي