مبدأ حسن النية في التعاملات المالية
في كثير من العقود التي يبرمها الناس بينهم في المعاملات المالية أو التجارية، يتم النص على التزام طرفي العقد تنفيذه بكل حسن نية.

والنية رغم أنها تعتبر إرادةً خفيةً في نفس صاحبها، إلا أنه يتعلق بها الكثير من الأحكام، وتحظى باهتمام كبير في الشريعة الإسلامية، وكذلك في القوانين الوضعية. ومتى ظهرت قرائن أو علامات ظاهرة تدل على نوايا المتعاملين والمتعاقدين، كانت هذه النوايا هي المعتبرة بغض النظر عما كان ظاهراً من تصرفات قولية أو فعلية على المتعاقدين. وفي هذا تقول القاعدة المشهورة عند العلماء: “العبرة في العقود للمقاصد والمعاني، لا للألفاظ والمباني”.

كما أنه في حال ثار أي خلاف بين المتعاقدين في دلالة لفظ من ألفاظ العقد، فإن من أهم الأسس التي يجب مراعاتها عند تفسير القضاء لهذا اللفظ أن يكون التفسير متوافقاً مع حسن النية المفترض وجوده لدى طرفي العقد. وقد جاء النص على ذلك صراحة في القانون المدني الكويتي المادة (193) التي تقول: “فإذا كان هناك محل لتفسير العقد، فإنه يجب تقصي النية المشتركة للمتعاقدين من مجموع وقائعه وظروف إبرامه، دون الوقوف عند مجرد معاني ألفاظه وعباراته، ومع الاستهداء بطبيعة التعامل والعادات الجارية وما ينبغي أن يتوافر بين المتعاقدين من حسن النية وشرف التعامل”.

وأمام القضاء الشرعي يجري العمل كثيراً وفق القاعدة الشهيرة التي تقول:” من سعى في نقض ما تمّ على يديه، فسعيه مردود عليه”. والقاعدة الأخرى التي تنص على أن ” من تعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه”.

ولا ينبغي أن يُفهم من مبدأ حسن النية أنه التزامٌ بإيثار الغير على النفس، أو التخلي عن المصلحة الخاصة التي هي الدافع الأساس وراء التعاملات المالية، إنما المقصود بهذا المبدأ “ منع طرفي العقد أو التعامل من أن يسيء أحدهما استخدام حقه الشرعي أو القانوني بما يلحق ضرراً بالطرف الآخر”.

وغالباً ما يرتبط حسن النية أو سوءها بمظاهر سلوكية تبدو على الشخص تكشف – ولو لاحقاً – مدى حسن نيته من عدمه، وعلى ضوء هذه التصرفات الظاهرية يمكن الحكم على الشخص.

ولئن كانت كل القوانين الوضعية أولت أهمية كبرى لمبدأ حسن النية، إلا أنها لا تعدو أن تجعل ذلك مقصوراً على حدود الحياة الدنيا دون الآخرة، وبهذا تمتاز الشريعة الإسلامية بأنها عظّمت شأن حسن النية وأضفت عليه من الأحكام والآثار ما يجعل التعاملات الدنيوية التي تنطوي على مصلحة شخصية للإنسان، قد تكون وسيلةً توصله أيضاً إلى رضا الله والجنة، وتضفي على أعماله وتصرفاته المادية آثاراً حميدةً من البركة والنماء والخير والتوفيق الذي يمنّ الله بها على من كانت نيته صالحةً في تعاملاته الدنيوية.

وإذا كانت الشريعة الإسلامية تأمر التاجر المسلم بأن يبتغي بتجارته رضوان الله عز وجل وألا يتعدى فيها ما أحله الله له من التعاملات، فإن من النتائج الطبيعية لامتثاله هذا المسلك أن يكون ملتزماً في كل تعاملاته بالأحكام الشرعية التي تأمره بالإخلاص والأمانة في العمل والتعامل، والبعد عن الغش والخيانة، وتعده متى امتثل ذلك بالخير الوفير والبركة والنماء.

ومن أعظم المبادئ التي أرساها رسولنا صلى الله عليه وسلم في هذا الجانب، ما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه عليه السلام قال: “من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله”.

ويشمل ذلك كل من أخذ أموال الناس بأي طريق مباح، فيدخل في ذلك أخذ المال عن طريق القرض أو العارية أو الوديعة أو غير ذلك، فمن أخذ شيئًا من ذلك وهو عازمٌ على أداء حق الناس أعانه الله تعالى على أدائه، وذلك في الدنيا بأن ييسر له الأداء، أو يعطّف أصحاب الحق عليه لتحليله من الدين أو غير ذلك، وفي الآخرة إن لم يتيسر له ذلك في الدنيا بأن يرضيَ عنه خصومه فلا يأخذوا من حسناته ولا ترد عليه سيئاتهم، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: إما بأن يفتح عليه في الدنيا، وإما بأن يتكفل عنه في الآخرة؛ اهـ، وقال العيني رحمه الله: يسر له ما يؤديه من فضله لحسن نيته؛ اهـ، وإنما يسر الله له ذلك؛ لصدق نيته، وقوة عزيمته على أداء حقوق الناس.

ورغم إيمان الجميع بأهمية هذا المبدأ وأثره في البركة والنماء، إلا أن القليل من الناس من يمتثل ذلك في جميع تعاملاته بكل أسف.

الكاتب:
د. محمد بن سعود الجذلاني
إعادة نشر بواسطة محاماة نت