الشروط الموضوعية لترتيب مسؤولية الدولة
مفهوم إسناد الفعل غير المشروع إلى الدولة:‏
تؤكد النظرية التقليدية والتطبيق العملي أن الشخص الدولي وحده هو الذي يمكن أن يتحمل المسؤولية الدولية سواء بصورة مباشرة أو بصورة غير مباشرة. ولم يكن مرتكب الفعل غير المشروع سواء أكان بصورة قيام بعمل أم امتناع عن القيام بعمل) المسؤول عن الضرر اللاحق بالأجنبي في يوم من الأيام مشمولاً في أية مطالبة دولية، لأن الشخص الدولي وحده هو الذي يتحمل مسؤولية التعويض عن الضرر الناجم عن هذا الفعل.

ويطلق على هذا المفهوم اسم “الإسناد”. وهو يعني أن ينسب فعل معين ارتكبه شخص ما أو مجموعة من الأشخاص الطبيعيين إلى دولة ما أو شخص دولي آخر. بحيث يعتبر الفعل المذكور فيما بعد على أنه فعل تلك الدولة أو ذلك الشخص الدولي وتترتب عليه بالتالي المسؤولية عنه. وهذا المفهوم هو الأساس الذي تقوم عليه فكرة مسؤولية الشخص الدولي، لأن العديد من الأفعال التي ترتب مثل هذه المسؤولية قام بها بادئ ذي بدء شخص أو مجموعة من الأشخاص الطبيعيين.

وتنشأ المسؤولية الدولية المباشرة عن الأفعال المنسوبة إلى الدولة نفسها بأن تكون صادرة عن سلطاتها المختلفة، أي عن فرد أو هيئة يمنحها القانون الداخلي اختصاصاً، وبالتالي تسأل الدولة عن الضرر الناجم عن هذه الأفعال.‏

أما المسؤولية الدولية غير المباشرة للدولة فهي تنشأ عن أفعال صدرت عن أفراد عاديين يحملون جنسيتها أو عن أفراد من الأجانب يقيمون في إقليمها وتلتزم الدولة في هذه الحالة بمعاقبة الفاعلين أو بإلزامهم يدفع التعويض إلى الأجنبي المتضرر. ولا تترتب على الدولة هذه المسؤولية غير المباشرة إلا إذا قصرت في الوفاء بهذا الالتزام، لأن تقصيرها في هذه الحالة يعتبر فعلاً غير مشروع.‏

نخلص مما تقدم إلى أنه لا بد لترتيب المسؤولية الدولية من توفر شرطين أساسيين:‏
أولهما: وجود فعل يمكن إسناده إلى الدولة.‏
ثانيهما: عدم مشروعية هذا الفعل طبقاً للقانون الدولي.‏

‏المبحث الأول – وجود فعل يمكن إسناده إلى الدولة‏
قد يكون الفعل المسند إلى الدولة صادراً عن سلطاتها التشريعية أو التنفيذية أو القضائية.

أولاً- مسؤولية الدولة عن أعمال السلطة التشريعية:‏

تتمتع الدولة ذات السيادة بحرية وضع الدستور من جهة وسن القوانين اللازمة لتنظيم أمورها ضمن حدود إقليمها من جهة أخرى. ولكن يتعين عليها أن تمارس تلك الحرية بما لا يتعارض مع التزاماتها الدولية، وعلى ذلك فإنه:‏

آ-لا يحق للدولة أن تستند إلى دستورها للتملص من التزاماتها الدولية:‏
ولقد ورد هذا المبدأ في الرأي الاستشاري الصادر عن “محكمة العدل الدولية الدائمة، “بخصوص “قضية المواطنين البولونيين في مدينة دانزيغ الحرة” بين بولونيا ومدينة دانزيغ، والذي جاء فيه:‏

“… مما تجب ملاحظته أن دولة مالا تستطيع أن تتذرع بدستورها للتحلل من التزاماتها المترتبة عليها تجاه دولة أخرى بمقتضى القانون الدولي أو المعاهدات السارية المفعول. وينتج عن تطبيق هذه المبادئ على هذه القضية، أن مسألة معاملة المواطنين البولونيين أو الأشخاص الآخرين الذين هم من أصل بولوني أو ناطقين باللغة البولونية، تجب تسويتها حصراً على أساس قواعد القانون الدولي ونصوص المعاهدة السارية المفعول بين بولونيا ودانزيغ “‏

ب-لا يحق للدولة أن تستند إلى قوانينها للتملص من التزاماتها الدولية:‏
ويتجلى هذا المبدأ في صورتين:‏
1-المسؤولية الدولية الناشئة عن سن قانون يخالف الالتزامات الدولية للدولة:‏
ولقد ترسخ هذا المبدأ في الاجتهادات القضائية الصادرة عن محكمة التحكيم الدائمة ومحكمة العدل الدولية الدائمة ومحكمة العدل الدولية. ففي قضية “المناطق الحرة” لاحظت “محكمة العدل الدولية الدائمة”:‏
“… من المؤكد أن فرنسا لا تستطيع أن تستند إلى تشريعها الوطني لكي تُضيِّق من نطاق التزاماتها الدولية.

ولقد تكرس هذا المبدأ في المادة /27/ من “اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات لعام 1969” والتي انضمت إليها الجمهورية العربية السورية بموجب المرسوم التشريعي رقم /184/ تاريخ 9/8/1970 فقد جاء فيها أنه:‏
“لا يجوز لطرف في معاهدة أن يحتج بنصوص قانونه الداخلي كسبب مبرر لإخفاقه في تنفيذ المعاهدة. لا تخل هذه القاعدة بالمادة 46”

ونصت المادة /46/ ما يلي :‏
1-ليس للدولة أن تحتج بأن التعبير عن رضاها الالتزام بالمعاهدة قد تم بالمخالفة لحكم في قانونها الداخلي يتعلق بالاختصاص بعقد المعاهدات كسبب لإبطال هذا الرضا، إلا إذا كانت المخالفة بينة وتعلقت بقاعدة أساسية من قواعد القانون الداخلي.‏

2-تعتبر المخالفة بينة إذا كانت واضحة بصورة موضوعية لأية دولة تتصرف في هذا الشأن وفق التعامل المعتاد وبحسن نية”.‏

2-المسؤولية الدولية الناشئة عن إهمال الدولة سن تشريع تستوجبه التزاماتها الدولية:‏
ويتجلى خير تطبيق لهذا المبدأ في قضية “مطالب ألاباما” Alabama Claims التي تشكلت بين الولايات المتحدة وبريطانيا في غضون الحرب الأهلية الأميركية.

ويمكننا أن نستخلص من كل ما تقدم نتيجة هامة هي أن قواعد القانون الدولي تسمو على قواعد القانون الداخلي حتى ولو كان هذا الأخير قانوناً أساسياً دستوراً) وهذه نتيجة منطقية لحقيقة أن سيادة الدولة غير مطلقة، وإنما ترد عليها قيود تفرضها الالتزامات الدولية المتبادلة بين أشخاص القانون الدولي.‏

ثانياً- مسؤولية الدولة
تعتبر الدولة مسؤولة عن القيام بالعمل أو الامتناع عن القيام بالعمل الصادر عن موظفيها أو إداراتها العامة أو مؤسساتها عن أعمال السلطة التنفيذية:‏ العامة، إذا نتج عنه لحوق ضرر بأشخاص الأجانب أو بأموالهم. ومن المعروف أن صلة المسؤولين بدولتهم تتفاوت إلى حد كبير. فمنهم من له صلة مباشرة بالدولة، وبالتالي تتحمل دولتهم المسؤولية المباشرة عن أعمالهم كرئيس الدولة.‏

وينطبق هذا الكلام على كبار رجال الإدارة ولكن على أساس أقل مباشرة. ولذلك يمكن للدولة أن تتنصل من أعمال مديريها مثلاً إذا كان ذلك من صالحها. ورغم أن مثل هذا التنصل لا يعفيها من المسؤولية الدولية، إلا أنه يعفيها من تهمة إلحاق الضرر عمداً بالأجانب.‏

أما فيما يتعلق بصغار الموظفين، فإن بعدهم النسبي عن سلطة الدولة غالباً ما ينشئ مسؤولية الدولة غير المباشرة. ولا تترتب المسؤولية الحقيقية في هذه الحالة إلا إذا فشلت الدولة في إيقاع العقوبة على الموظف المذنب.‏

وقضية Massey claim خير مثال على ذلك. إذ كسبت “الولايات المتحدة” حكماً بمبلغ /15000/ دولار على سبيل التعويض بسبب إخفاق السلطات المكسيكية في اتخاذ الإجراءات المناسبة لمعاقبة قاتل Massey وهو مواطن أميركي يعمل في المكسيك وجاء في رأي المفوض نيلسن: Commissioner Nielson‏

“أعتقد أنه مبدأ عام سليم بدون شك، ذلك المبدأ الذي يقضي بأنه، حينما ينجم عن سوء إدارة الأشخاص العاملين في خدمة الدولة إخفاق دولة في الوفاء بالتزاماتها المقررة بمقتضى القانون الدولي، فإنه يتوجب على الدولة أن تتحمل مسؤولية الأفعال غير القانونية المرتكبة من قبل موظفيها مهما كان مركزهم أو مقامهم الخاص بمقتضى القانون المحلي.

وبغض النظر عن مركز الموظف العام، فقد يصدر عنه فعل بدون إذن من حكومته، ولا بد من التمييز هنا بين حالتين:‏
• الحالة الأولى: أن يصدر الفعل عنه بصفته الوظيفية وفي معرض ممارسته لها. وتتحمل الدولة في هذه الحالة المسؤولية الدولية الناجمة عن فعل هذا الموظف.

• الحالة الثانية: أن يصدر الفعل عن الموظف بصفته الشخصية وخارج نطاق وظيفته، ويعامل الفعل في هذه الحالة معاملة الأفعال الصادرة عن الأشخاص العاديين.‏

ولعل في قضية Caire Claim ما يوضح ذلك. فقد طلب ضابطان مكسيكيان مبلغاً من المال من المدعو Caire وهدداه بالموت إن لم يستجب لطلبهما. وبما أن المبلغ المطلوب لم يكن في متناول يده أمرا بإطلاق النار عليه، وقال رئيس اللجنة التي نظرت في هذه القضية:‏

“تتحمل الدولة أيضاً مسؤولية دولية عن جميع الأفعال المرتكبة من قبل موظفيها أو أجهزتها والتي تعتبر تقصيرية طبقاً للقانون الدولي، بغض النظر عما إذا كان الموظف أو الجهاز الحكومي قد تصرف ضمن حدود اختصاصه أو أنه تجاوز تلك الحدود. وعلى كل حال، فلتبرير الأخذ بهذه المسؤولية الموضوعية للدولة عن الأفعال المرتكبة من قبل موظفيها أو جهازها خارج حدود اختصاصه، فإن من الضروري أن يكون قد تصرف، من حيث الظاهر على الأقل، على أنه موظف أو جهاز مفوض في ذلك، أو أنه، في معرض قيامه بالعمل، استعمل صلاحيات وتدابير تتلاءم مع صفته الرسمية.

هذا وتنطبق قاعدة “الإجازة اللاحقة كالوكالة السابقة” على الفعل الذي يرتكبه موظف عام ضد أجنبي متجاوزاً بذلك حدود صلاحياته، فيرتب الفعل المسؤولية الدولية على الدولة مباشرة، ويعفى الموظف المعني من كامل التبعة إذا أجازت دولته فعله.‏

ثالثاً- مسؤولية الدولة عن أعمال السلطة القضائية:‏
تترتب المسؤولية الدولية على الدولة جراء الأفعال الصادرة عن سلطتها القضائية، إذا تعارضت مع التزاماتها الدولية ونشأ عنها لحوق ضرر بأجنبي، ولا تستطيع الدولة الدفع بمبدأ فصل السلطات وبما يترتب عليه من استقلال السلطة القضائية، فمثل هذه الأمور تتعلق بالتنظيم الداخلي للدولة ولا تؤثر على التزاماتها الدولية كشخص اعتباري.

ويتصل نشاط السلطة القضائية جوهرياً بموضوع “إنكار العدالة” الذي سنعالجه بفقرة مستقلة نظراً لأهميته، وعلى كل حال تعتبر الدولة مسؤولة عن مخالفة التزاماتها الدولية من قبل السلطة القضائية، كأن تنظر المحاكم في نزاع يخرج عن اختصاصها بموجب اتفاق دولي، أو تغفل تطبيق القانون الدولي على نزاع يدخل في اختصاصها، أو ترتكب خطأ جسيماً في تطبيق تلك القواعد، أو تطبق قواعد القانون الوطني رغم مخالفتها للقانون الدولي.‏
ويضيف ماك نير Mcnair حالات جديدة تتعلق بت

طبيق المعاهدات فيقول: “… للدولة الحق في تفويض أجهزتها القضائية بتطبيق وتفسير المعاهدات. وعلى كل حال، إذا ارتكبت المحاكم أخطاء في معرض قيامها بذلك العمل، أو امتنعت عن وضع معاهدة موضع التطبيق، أو كانت غير قادرة على القيام بذلك بسبب عدم إدخال تعديل أو إضافة على القانون الوطني تقضي الضرورة بإدخالهما عليه، فإن أحكامها تنطوي على خرق للمعاهدة من قبل الدولة.

إنكار العدالة: Denial of justice – يستخدم اصطلاح “إنكار العدالة” من قبل محاكم المطالب الدولية بحيث يمتد امتداد مفهوم المسؤولية الدولية للدولة عن الأذى اللاحق بالأجانب، وهو ينطوي على إخفاق سلطات الدولة المضيفة في توفير الوسيلة المناسبة لإنصاف الأجنبي عندما تنتهك حقوقه الموضوعية، أو في مراعاة الأصول القانونية due process of law في ملاحقة ومعاقبة الأجنبي المسيء).‏

ويعتبر اصطلاح “إنكار العدالة” عموماً بأنه يضم فئة خاصة من النواقص deficiencies الصادرة عن أجهزة الدولة المضيفة، وخصوصاً فيما يتعلق بحسن سير العدالة. وقد وجدت تعريفات متنوعة لاصطلاح “إنكار العدالة” ولكنها كلها ذات قيمة محدودة ولعل أفضل دليل لنا في هذا المجال هو المادة التاسعة من مشروع الاتفاقية التي أعدتها “جامعة هارفارد” بصدد “مسؤولية الدول عن الأضرار اللاحقة بأشخاص وأموال والأجانب على إقليمها” ونصها كما يلي:‏

“المادة 9: تكون الدولة مسؤولة إذا لحق ضرر بأجنبي ناجم عن إنكار العدالة، ويعتبر إنكارا للعدالة ما يقع من المحكمة من تسويف لا مبرر له، أو إذا حيل بين الأجنبي المتضرر وبين الالتجاء إلى القضاء، أو إذا وجد نقص كبير في إجراءات التقاضي، أو إذا لم تتوفر الضمانات التي لا غنى عنها لحسن سير العدالة، أو إذا صدر حكم ينطوي على ظلم واضح. أما الخطأ غير المقصود الذي ترتكبه محكمة وطنية دون أن ينتج عنه ظلم واضح، فإنه لا يعتبر إنكار للعدالة.

ويدعو مفهوم “إنكار العدالة” في حقيقته إلى بحث تطبيق مستوى دولي معين على بعض أوجه إدارة شؤون الدولة الداخلية، ولذلك فإن دول أمريكا اللاتينية، حفاظاً منها على سيادتها، تُضَيِّق من معنى “إنكار العدالة” بحيث يقتصر على واجب ممارسة الأجهزة القضائية لاختصاصاتها سواء أخذت شكل السماح للأجنبي بالتقدم إلى المحاكم الداخلية، أو أخذت شكل قيام هذه المحاكم بالفصل في دعاوى الأجانب.

ولا تسمح هذه الدول بتوسيع مفهوم “إنكار العدالة” ليشمل البحث في الكيفية التي يتم بها توفير العدالة من نقص في إجراءات التقاضي أو في ضمانات حسن سير العدالة أو انطواء الحكم على الظلم واضح أو اتسامه بالتمييز ضد الأجانب.‏

أما الدول الغربية، فإنها ترى ضرورة وجود مستوى دولي يكفل حداً أدنى من الضمانات الذي يجب أن يتمتع به الأجنبي عند لجوئه إلى المحاكم بغض النظر عن الضمانات التي يمنحها القانون الداخلي. وقد طبق هذا المستوى الدولي بصورة طموحة من قبل المحاكم والكتاب في الدول الغريبة، وثارت نتيجة لذلك بعض الصعوبات.

وأولها، أن تطبيق مستوى الحد الأدنى الدولي يمكن أن يشمل قرارات تتعلق بنقاط حساسة جداً من نقاط القانون الداخلي أو بنوعية الأجهزة القضائية الوطنية، وهكذا لا بد من السعي للتمييز بين “الخطأ” و”الظلم الواضح” فيما يتعلق بعمل المحاكم. فلا يعتبر إنكارا للعدالة إذا تضمن الحكم خطأ في الوقائع أو في التقدير أو في تطبيق القانون الداخلي بحسن نية.

وثانيها، أن تطبيق مستوى الحد الأدنى الدولي في هذا المجال يبدو وكأنه يناقض المبدأ القائل بأن على الأجنبي، في حدود معينة على الأقل، أن يقبل القانون المحلي واختصاص المحاكم المحلية، وثالثها، أن مفهوم “إنكار العدالة” يشتمل على أمثلة كثيرة يكون فيها الأذى اللاحق بالأجنبي مجرد خرق للقانون المحلي، في حين أن “الإنكار” هو إخفاق في الوصول إلى مستوى دولي للاختصاص في معالجة خطأ يدخل ضمن الاختصاص الإقليمي، وهكذا فإن مفهوم الدولة الأجنبية التي ارتكب خطأ بحقها في شخص مواطنيها يمتد إلى قضايا يكون الخطأ الرئيسي فيها مجرد خرق للقانون المحلي.

ولعل من المفيد أن نستشهد بقضية chattin claim كمثال على مفهوم إنكار العدالة. و”شاتين” chattin هو مواطن أميركي أدين بتهمة الاختلاس في المكسيك، وحكم عليه من قبل محكمة مكسيكية بعقوبة الحبس لمدة سنتين، ولم يكن هنالك أدنى شك في ارتكاب “شاتين” جرم الاختلاس. فقد ثبت بأنه وعامل مكسيكي آخر مذنبان بالتهمة الموجهة إليهما. ولكن “لجنة المطالب العامة الأميركية المكسيكية”‏

“U.S- Mexico General claims Commission” أشارت إلى العيوب المختلفة التي شابت سير المحاكمة. فقد وجدت اللجنة بأن شاتين قد تم توقيفه بصورة قانونية، ولو أن الإجراء الذي اتبع يختلف عما يطبق عادة في الولايات المتحدة. ومن ناحية أخرى، أشارت البينات المقدمة إلى وجود مخالفات قانونية خطيرة في إجراءات المحاكمة، كعدم القيام بالتحقيق المناسب، وعدم مواجهة المتهم بالشهود والبينات بصورة كافية وعدم إطلاع المتهم على جميع التهم الموجهة إليه، والمماطلة التي لا مسوغ لها في البدء بالإجراءات القضائية، وتحويل جلسات المحكمة العلنية إلى مجرد إجراء شكلي، وثبوت تعمد القسوة في الحكم، ولكن لم يتوفر الدليل على أن القاضي يكن العداء لشاتين كما ادعى هذا الأخير”‏

المبحث الثاني – عدم مشروعية الفعل المسند إلى الدولة طبقاً للقانون الدولي‏
تأخذ المسؤولية الدولية المترتبة على مخالفة قواعد القانون الدولي صوراً تختلف باختلاف مصادر هذا القانون. فقد تشكل الأفعال غير المشروعة انتهاكاً للالتزامات الدولية المقررة في الاتفاقيات الدولية أو في العرف الدولي أو في المبادئ العامة للقانون. وسنبحث ذلك تفصيلاً فيما يلي:‏

أولاً- عدم الوفاء بالالتزامات الدولية الاتفاقية:‏
تعتبر الاتفاقات الدولية العامة والخاصة المعاهدات) المصدر الأول للقانون الدولي وبالتالي للالتزامات الدولية.‏

وتعرف المعاهدة بأنها:‏
“اتفاق مكتوب بين شخصين أو أكثر من الأشخاص الدولية من شأنه أن ينشئ حقوقاً والتزامات متبادلة في ظل القانون الدولي. ” ولقد أشارت مقدمة “ميثاق الأمم المتحدة” إلى ضرورة إيجاد الشروط “التي يمكن في ظلها تحقيق العدالة واحترام الالتزامات الناشئة عن المعاهدات وغيرها من مصادر القانون الدولي”.

ومما لا شك فيه أن قاعدة العقد شريعة المتعاقدين: pacta sunt servanda “هي الأساس الذي تقوم عليه الالتزامات القانونية الناشئة عن الاتفاقات الدولية، فإذا أقدم شخص دولي على انتهاكها، فإنه يكون قد ارتكب فعلاً غير مشروع مما يرتب عليه المسؤولية الدولية، والسؤال الذي يفرض نفسه هنا هو هل يعتبر العقد الدولي، وهو اتفاق دولي ذو طابع تجاري أو مدني بحت بمثابة معاهدة؟ للإجابة على هذا السؤال لا بد من التمييز بين تصرفات الدولة بصفتها سلطة عامة تخضع لأحكام القانون العام وبين تصرفاتها المدنية والتجارية من بيع وشراء الخ.. أي بصفتها فرداً عادياً تخضع لأحكام القانون الخاص.‏

وبالرجوع إلى تعريف المعاهدة الملمح إليه آنفاً يتبين أن الاتفاق الدولي الذي يعتبر معاهدة هو الذي ينشئ حقوقاً والتزامات متبادلة في ظل القانون الدولي، وهو فرع من القانون العام. أما الاتفاق الدولي الذي يعتبر عقداً دولياً فإنه ينظم علاقات يحكمها القانون الخاص، وتتكفل قواعد القانون الخاص بتحديد القانون الداخلي الواجب التطبيق عليه والمحكمة المختصة بنظر المنازعات الناشئة عنه، وعلى الرغم من أن العقود الدولية لا تعتبر بمثابة معاهدات، إلا أن قاعدة “العقد شريعة المتعاقدين” ذات تطبيق عام على كافة أنواع الاتفاقات التي يبرمها أشخاص القانون العام، وبالتالي فإن عدم تنفيذ الاتفاقات الدولية ذات الطابع التجاري أو المدني البحت يمكن أن يشكل فعلاً غير مشروع يرتب المسؤولية الدولية.‏

أما العقد الذي يبرم بين دولة وبين شخص أجنبي سواء أكان شخصاً طبيعياً أم اعتبارياً، فإنه لا يعتبر معاهدة أو عقداً دولياً، وبالتالي فإن المسؤولية الدولية لا تترتب لمجرد مخالفة الدولة لأحكام هذا العقد، وإنما قد تشكل تلك المخالفة انتهاكاً لالتزاماتها الدولية نحو الأجانب المقررة في الاتفاقات الدولية التي هي طرف فيها أو في العرف الدولي… مما يرتب عليها المسؤولية إذا تبنت دولة المضرور مطلبه. ومن ذلك اتخاذها إجراء تمييزياً ضد الأجانب أو مخالفتها لأحكام القانون الداخلي في علاقاتها التعاقدية معهم.‏
ويختلف الوضع نوعاً ما في حالة نوع معين من الالتزامات التعاقدية ألا وهو السندات العامة public Bonds فالسند الذي تصدره الدولة هو التزام تجاه الحامل، وهو يصلح لعرضه في السوق ولتحويله بحرية، كما أن دفعات استهلاك الدين والفائدة تدفع لحامل نسخة السند في وقت معين، وغالباً ما يختلف الحامل عن المشتري الأصلي للسند.‏

ونتيجة لذلك تبنت الحكومات عموماً موقفاً مفاده أن السند العام يمثل عقداً مرناً وغير شخصي، بخلاف العقود المبرمة مباشرة بين الدولة والأجنبي. وتمتنع الدول عادة عن ممارسة الحماية الديبلوماسية لحث الدولة المدينة على سداد ديونها المتمثلة في السندات العامة انطلاقاً من أن إصدار السندات العامة هو عمل من أعمال السيادة. كما أن القول المأثور القديم “فليحذر المشتري” ينطبق على جميع حاملي السندات العامة، ولكن غالبية الدول تعتبر أن الدولة المدينة تتحمل المسؤولية الدولية إذا دلت الظروف على “الافتقار إلى حسن النية” “lack of good faith” أو على وجود معاملة تمييزية ضد الأجانب بخصوص السندات العامة.‏

شرط كالفو: calvo clause‏
من الطبيعي أن تشعر الحكومات بعدم الارتياح نحو الطلبات المقدمة من الأجانب إلى حكوماتهم يحثونها فيها على ممارسة حقها في الحماية الديبلوماسية ورفع دعاوى دولية مبنية على مخالفات مزعومة لشروط عقدية. ولذلك بدأ عدد من دول أمريكا اللاتينية بتضمين العقود التي تبرمها هذه الدول مع الأجانب شرطاً يدعى بـ “شرط كالفو” وبمقتضى هذا الشرط يوافق الأجنبي على أن المنازعات الناجمة عن العقد يجب أن تسوى أمام المحاكم الوطنية للدولة المتعاقدة وطبقاً لقانونها الوطني،

ويجب ألا تكون تلك المنازعات سبباً في رفع دعوى المسؤولية الدولية على الدولة المتعاقدة من قبل حكومة الدولة التي يتمتع الأجنبي بجنسيتها. ويتضمن “شرط كالفو” في بعض العقود نصاً إضافياً مفاده أن الأجنبي يعتبر لأغراض العقد بمثابة مواطن في الدولة المتعاقدة. ولقد أدى إدراج “شرط كالفو” في العقود التي تبرمها الدولة مع الأجانب إلى احتجاج الدول الأخرى عليه لسببين:‏

أولهما: أنه يحاول حرمان الأجنبي من حقه في الاستعانة بحكومته لإزالة الضرر اللاحق به بعد استنفاذه طرق المراجعة الداخلية.‏

وثانيهما: أنه يضع مبدأ جديداً هو أن المواطن العادي يستطيع، وعلى مسؤوليته الشخصية، أن يحرم دولته من حق حماية مصالحها في الخارج، وهو حق مقرر للدولة ولا يملك المواطن التنازل عنه بالنيابة عنها.‏

ولذلك لم توافق الدول الكبرى، خارج أمريكا اللاتينية، على تقييد حقها، كدولة ذات سيادة، في حماية مواطنيها في الخارج، حتى ولو تخلوا كتابة عن مثل هذه الحماية. وقد اعتبر بعض القرارات الصادرة عن المحاكم الدولية وهيئات التحكيم الدولية، أن “شرط كالفو” منتج لمفاعيله، في حين أن معظم القرارات اعتبره باطلاً.‏

والحقيقة هي أن غالبية الدول لا تعتد حالياً بشرط كالفو، ولا تتردد في اتخاذ الخطوات المناسبة لحماية حقوق مواطنيها في الخارج .‏

ثانياً- عدم الوفاء بالالتزامات الدولية المقررة في العرف الدولي:‏
سنحاول إلقاء الضوء على هذا الموضوع في الفقرتين التاليتين المتعلقتين بالمركز القانوني للأجانب وبممتلكات الأجانب.‏

آ-المركز القانوني للأجانب والمسؤولية الدولية:
لا يتمتع الأجنبي، في الأحوال العادية، سواء كان من ذوي الإقامة الخاصة أو العادية أو المؤقتة بأية امتيازات خاصة، فهو لا يستطيع المطالبة بحقوق تفوق تلك التي يتمتع بها المواطن العادي.

وأكثر من ذلك، فإنه يفتقر إلى الحقوق السياسية والمدنية التي يتمتع بها المواطنون.‏
ومن جهة ثانية فإن للأجنبي الحق في اللجوء إلى محاكم البلد المضيف والخضوع لنفس الإجراءات القانونية التي يخضع لها المواطنون، وتحمي قوانين الدولة المضيفة الأجنبي بنفس الطريقة التي تحمي بها مواطني الدولة، ما لم توجد قيود يفرضها القانون على تملك الأجنبي وعلى حقوقه التعاقدية، ولا تترتب المسؤولية الدولية على الدولة جراء هذه القيود.

فبمقتضى المادة الأولى من المرسوم التشريعي رقم 189 لعام 1952 مثلاً، لا يحق للأجنبي اكتساب الحقوق العينية وكذلك إجراء العقود بالإيجار أو بالاستثمار الزراعي لمدة تزيد على ثلاث سنوات وذلك على جميع أراضي الجمهورية العربية السورية مع بعض الاستثناءات. وعلى ذلك فإن القضاء السوري سيرد الدعوى التي يرفعها الأجنبي لتثبيت عقد شراء عقار خلافاً لأحكام النص المذكور.‏

ومن جهة ثالثة، فإن الأجنبي يخضع للضرائب خضوع المواطنين لها، ولا يتمتع بمركز ممتاز في هذا الصدد. ولكن الدولة تعتبر مسؤولة بمقتضى قواعد العرف الدولي إذا فرضت على الأجانب نوعاً من الضرائب التمييزية، ويمكن بالتالي التقدم بإدعاء دولي ضدها. كما أن الأجنبي غير محمي حالياً من إمكانية فرض الضرائب عليه بصورة مزدوجة ومن قبل حكومته ومن قبل الحكومة المضيفة، ما لم توجد اتفاقيات تقضي بخلاف ذلك.‏

وأخيراً جرى العرف لدى الكثير من الدول على احتفاظها بمهن أو حرف معينة لمواطنيها. ويمكن رد مثل هذا العرف إلى أسباب عديدة. فقد تقضي الاعتبارات الأمنية بأن تشغل مهن معينة من قبل وطنيين يتصفون بالإخلاص والولاء للدولة، كما يسود الاعتقاد بأن بعض الحرف تتطلب تدريباً خاصاً في معاهد الدولة المعنية… الخ. ومن الواضح أن أهدافاً موضوعية تكمن وراء مثل هذه التدابير. ولذلك لا تمكن إثارة أية اعتراضات من قبل الدول الأخرى، طالماً أن هذه التدابير تطبق فقط على الراغبين في دخول تلك المهن والحرف. ومع ذلك فإن هنالك معاهدات دولية تمنع مثل هذه القيود بصورة خاصة، وأن خرق مثل هذه المعاهدات يمكن أن يرتب المسؤولية الدولية .‏
ب-ممتلكات الأجانب والمسؤولية الدولية:‏
جرى العرف الدولي على أن تخضع ممتلكات الأجانب إلى نفس القوانين والأنظمة التي تطبق على ممتلكات المواطنين. ولا يستبعد هذا المبدأ العام صدور قوانين أو أنظمة تمنع الأجانب من تملك أنواع معينة من العقارات في مناطق جغرافية معينة.


وهكذا فإن منع الأجنبي من تملك عقار ضمن مسافة معينة من قاعدة حربية يعتبر إجراء قانونياً. وطالما أن جميع الأجانب يخضعون لهذا القيد، فإنه لا يمكن لأية حكومة أن- تعترض على ذلك من الناحية القانونية.‏

ثالثاً: عدم مراعاة المبادئ العامة للقانون المعترف بها:‏
تشكل المبادئ العامة للقانون المعترف بها المصدر الأصلي الثالث من مصادر القانون الدولي حسب التعداد الوارد في المادة /38/ من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية.‏

ورغم اختلاف الفقهاء حول المقصود بتعبير “المبادئ العامة للقانون المعترف بها” إلا أن الرأي السائد عند غالبية الفقهاء بأن المقصود بها “المبادئ العامة للقانون الداخلي التي يمكن تطبيقها على النطاق الدولي عند عدم وجود مصدر قانوني دولي آخر معترف به كالمعاهدة والعرف” ومن الطبيعي أن تتفق المبادئ العامة للقانون مع روح القانون الدولي عندما يراد تطبيقها على العلاقات الدولية القائمة بين أشخاص القانون الدولي لا أن تطبق تطبيقاً حرفياً.

فمن المعروف أن القانون العام، والقانون الإداري بوجه خاص أخذ الكثير من مبادئه ومؤسساته عن القانون الخاص، ولكن بعد أن أدخل عليها التعديلات الملائمة لسد حاجاته. والدليل على ذلك هو أن “مبدأ عدم جواز اللجوء لاستخدام القوة” يعتبر من المبادئ العامة في القانون الخاص ويطبق بصورة مطلقة. ورغم أن هذا المبدأ يطبق -كقاعدة عامة- على العلاقات الدولية، إلا أن القانون الدولي العام يجيز اللجوء لاستخدام القوة في أحوال استثنائية.

ولعل من المفيد أن نشير بهذه المناسبة إلى الفرق بين المبادئ العامة للقانون والعرف. ذلك أنه لا بد من توافر ثلاثة عناصر في العرف الدولي وهي الاستمرار Duration والتكرار Uniformity وعمومية التطبيق Cenerality of the practice في حين أن المحكمة الدولية قد تطبق مبدأ من المبادئ العامة للقانون على قضية تنظرها للمرة الأولى إذا لم تجد قاعدة قانونية صالحة للتطبيق في اتفاق أو عرف دوليين.‏

ولعل من المفيد إلقاء بعض الضوء على اثنين من المبادئ العامة للقانون اللذين يستعان بهما من قبل المحاكم الدولية أحياناً في نطاق المسؤولية الدولية وهما:‏

آ- التعسف في استعمال الحق.‏
ب-المسؤولية الموضوعية والمطلقة.‏
آ-التعسف في استعمال الحق: Abuse of rights‏
لقد أخذ النظام القانوني السوري، كما فعل العديد من الأنظمة القانونية الرئيسية الحديثة في العالم. بنظرية التعسف في استعمال الحق. فقد نصت المادة السادسة من القانون المدني السوري ما يلي:‏

“يكون استعمال الحق غير مشروع في الأحوال الآتية:‏
آ-إذا لم يقصد به سوى الأضرار بالغير.‏
ب-إذا كانت المصالح التي يرمي إلى تحقيقها قليلة الأهمية بحيث لا تتناسب البتة مع ما يصيب الغير من ضرر بسببها.‏
جـ- إذا كانت المصالح التي يرمي إلى تحقيقها غير مشروعة.‏

بل وأخذت بعض الاتفاقيات الدولية الحديثة بهذه النظرية، ومن ذلك “اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لعام 1983 ” إذا تنص المادة 105 من هذه “الاتفاقية” ما يلي:‏
“يجوز لكل دولة في أعالي البحار، أو في أي مكان آخر خارج ولاية أية دولة، أن تضبط أية سفينة أو طائرة قرصنة، أو أية سفينة أو طائرة أخذت بطريق القرصنة وكانت واقعة تحت سيطرة القراصنة، وأن تقبض على من فيها من الأشخاص وتضبط ما فيها من الممتلكات.‏
ولمحاكم الدولة التي قامت بعملية الضبط أن تقرر ما يفرض من العقوبات، كما أن لها أن تحدد الإجراء الذي يتخذ بشأن السفن أو الطائرات أو الممتلكات، مع مراعاة حقوق الغير من المتصرفين بحسن نية”.‏

ولكن المادة 106 من “الاتفاقية” والتي تحمل عنوان “المسؤولية في الضبط دون مبررات كافية “تنص ما يلي:‏
“عندما تضبط سفينة أو طائرة بشبهة القرصنة دون مبررات كافية، تتحمل الدولة التي قامت بعملية الضبط، إزاء الدولة التي تحمل السفينة أو الطائرة جنسيتها، مسؤولية أية خسائر أو أضرار يسببها هذا الضبط”.‏

وهكذا فإن الدولة التي قامت بعملية الضبط تتحمل مسؤولية أعمال تعتبر حقاً مشروعاً أقرته “الاتفاقية” لها.‏

كما أن المحاكم الدولية أخذت بنظرية التعسف في استعمال الحق في العديد من أحكامها، ومن ذلك القرار الذي أصدرته محكمة التحكيم في قضية مصنع صهر المعادن.‏ The trail Smelter Arbitration‏ في شهر آذار من عام 1941 بشأن الضرر اللاحق بولاية واشنطن الولايات المتحدة) من جراء الأبخرة المتصاعدة من مصنع لصهر المعادن في كولومبيا البريطانية كندا) فقد أكدت المحكمة في قرارها أنه:‏

“بمقتضى مبادئ القانون الدولي، لا يحق لأية دولة أن تستعمل إقليمها أو تسمح باستعماله بطريقة تتسبب، نتيجة للأبخرة، في إلحاق الضرر بإقليم دولة أخرى، أو بالممتلكات أو بالأشخاص في هذه الدولة، كما يعتبر دومينيون كندا مسؤولاً أيضاً بمقتضى القانون الدولي عن إدارة مصنع صهر المعادن”

وعلى هذا “ليس من غير المعقول أن نعتبر مبدأ التعسف في استعمال الحق كواحد من المبادئ العامة للقانون” كما يقول الأستاذ براون لي.‏
ويلاحظ الأستاذ “لوترباخت”:‏
“إن هذه ما هي إلا بدايات متواضعة لمبدأ مليء بالإمكانيات يضع طاقة معتبرة لا تخلو من صفة تشريعية بين يدي محكمة قضائية”

ومع ذلك يرى الأستاذ براون لي أن بالإمكان الاستغناء عن نظرية التعسف في استعمال الحق عندما تضاف على القاعدة القانونية الموجودة معايير مثل حسن النية good faith والمعقولية reasonableness والإدارة المعتادة. Normal administrArion إلا أننا نخالفه في رأيه هذا. فنظرية التعسف في استعمال الحق كيان قائم بذاته، وللتعسف في استعمال الحق حالات محددة لا يجوز تخطيها.‏

وإذا أخذنا القانون المدني السوري على سبيل المثال نجد أن المادة الخامسة منه أتت بقاعدة عامة هي:‏
“من استعمل حقه استعمالاً مشروعاً لا يكون مسؤولاً عما ينشأ عن ذلك من ضرر”.‏
ثم جاءت المادة السادسة منه لتحدد حالات التعسف في استعمال الحق حصراً وهي ثلاث:‏
قصد الأضرار بالغير، ورجحان الضرر على المصلحة رجحاناً كبيراً، وعدم مشروعية المصالح التي يرمي المالك إلى تحقيقها. ومن الواضح أن المعايير التي ذكرها الأستاذ براون لي لا يمكنها أن تسد الفراغ الذي سدته المادة السادسة المذكورة.‏

وهكذا فعندما يراد أخذ هذه النظرية من القانون الخاص إلى القانون العام، يجب أن يتم ذلك ضمن هذا المفهوم. فالقاعدة العامة هي عدم مسؤولية الدول عندما تستعمل حقوقها بصورة مشروعة، والمسؤولية بسبب التعسف في استعمال الحق تشكل استثناء من القاعدة. ولذلك لا بد من تحديد الحالات التي تشكل تعسفاً في استعمال الحق، على نحو ما فعل المشرع السوري في المادة السادسة الملمح إليها. وتبقى من مهمة الاتفاقات الدولية والأحكام القضائية والتحكيمية الدولية تحديد الحالات التي تعتبر من قبيل التعسف في استعمال الحق في مجال العلاقات الدولية.

ب-المسؤولية الموضوعية والمطلقة: Objective responsibility‏
لقد أدى التقدم العلمي الكبير واستعمال الآلات الخطرة إلى وقوع عدد من الحوادث نتيجة لاستعمال هذه الآلات نجم عنها لحوق أضرار بالغير دون ارتكاب أي خطأ. ولذلك اتجه الفقهاء إلى إقامة المسؤولية في مثل هذه الحوادث على ركنين فقط وهما:‏

1-الضرر.‏
2-علاقة السببية بينه وبين الفعل الذي أحدثه، بل إن القانون المدني السوري أخذ بمبدأ المسؤولية بدون خطأ أو المسؤولية الموضوعية والمطلقة فنصت المادة /776/ منه ما يلي:‏

1-على المالك ألا يغلو في استعمال حقه إلى حد يضر بملك الجار.‏
2-وليس للجار أن يرجع على جاره في مضار الجوار المألوفة التي لا يمكن تجنبها، وإنما له أن يطلب إزالة هذه المضار إذا تجاوزت الحد المألوف”‏

كذلك اتجه التشريع والقضاء في العديد من الدول إلى الأخذ بمبدأ المسؤولية بدون خطأ في حالات معينة.‏
فقد أخذ المشرع الفرنسي بفكرة المسؤولية المبنية على تحمل تبعة المخاطر: theorie de risque في تشريعات خاصة. كما أخذ بها مجلس الدولة الفرنسي بالاستناد إلى ضرورة مساواة الأفراد أمام الأعباء العامة.‏

I´égalité devant les charges pubiques‏
ولكن بصفة تكميلية Complémentaire أي في حالات خاصة يكون اشتراط ركن الخطأ فيها متعارضاً مع العدالة بشكل صارخ. ولكن مجلس الدولة الفرنسي اشترط في مقابل ذلك توافر صفتين أساسيتين في الضرر المرتبط بهذا المبدأ وهماً:‏
آ-الخصوصية Specialité) بمعنى أن يكون للمتضرر مركز خاص قبل الضرر لا يشاركه فيه غيره من المواطنين.‏
ب-الجسامة غير العادية anormalité).‏
وعلى الإدارة لكي تتخلص من المسؤولية على هذا الأساس أن تلجأ إلى إثبات القوة القاهرة force majeure) الأمر الذي يؤدي إلى انهيار ركن علاقة السببية بين الضرر والفعل الذي أحدثه.‏
ويأخذ القانون الأميركي أيضاً بمبدأ المسؤولية الموضوعية والمطلقة عن النشاط شديد الخطر، كما يقر القضاء الإنكليزي مبدأ المسؤولية الموضوعية والمطلقة عن الأشياء الخطرة.

وهكذا يمكن القول بأن مبدأ المسؤولية بدون خطأ هو من المبادئ العامة للقانون التي أخذت بها الدول المختلفة، ونتيجة لذلك مالت الممارسة الدولية وأحكام القضاء الدولي إلى الأخذ بالمسؤولية الموضوعية والمطلقة… ومن ذلك قضية كير Caire حيث طبق “رئيس لجنة الادعاءات الفرنسية المكسيكية”‏

president of the franco- Mexican claims Commission) “‏
“مبدأ المسؤولية الموضوعية للدولة، أي، المسؤولية عن تلك الأفعال المرتكبة من قبل موظفيها وأجهزتها، والتي هم ملزمون بأدائها، رغم عدم وجود خطأ من جانبهم….”
ويعارض بعض فقهاء القانون الدولي الأخذ بمبدأ المسؤولية الموضوعية والمطلقة في مجال العلاقات الدولية، إلا أن عدداً كبيراً من الفقهاء يؤيد هذا المبدأ أما صراحة أو ضمناً.‏

وقد أخذت اتفاقية روما لعام 1952 بشأن المسؤولية عن الحوادث التي تسببها الطائرات للغير على سطح الأرض بمبدأ المسؤولية الموضوعية والمطلقة:‏

“فمنذ اللحظة التي توجد فيها صلة سببية بين الضرر وواقعة ما، فإن المسبب يلتزم بالتعويض بغض النظر عن أي خطأ من جانبه. وهكذا تحول الأمر من نطاق المسؤولية الشخصية إلى المسؤولية الموضوعية، والمسؤولية بهذه الصفة تستند إلى فكرة الخطر الناتج عن الاستثمار” وبموجب هذه “الاتفاقية” تقوم المسؤولية على أركان ثلاثة هي:‏

1-وجود الطائرة بحالة طيران.‏
2-صلة السببية بين الطيران والضرر.‏
3-وجود ضرر أصاب الأشخاص أو الأموال.‏
وفي رأينا من مصلحة الدول النامية التشدد في قواعد المسؤولية الدولية، ومن ذلك تبني مبدأ المسؤولية الموضوعية والمطلقة، وخاصة في مجال الأنشطة الخطرة التي تعتبر وقفاً على الدول المتقدمة كاستخدام الطاقة الذرية في الأغراض السلمية واستعمال الفضاء الخارجي.‏