تحري صدق الشهادة

المؤلف : سلطان الشاوي
الكتاب أو المصدر : اصول التحقيق الاجرامي
إعادة نشر بواسطة محاماة نت

لا تقتصر وظيفة المحقق على سماع الشهادة بل عليه واجب آخر هو تحري صحة الشهادة من كذبها والتأكد من أقوال الشاهد للوقوف على مطابقتها للحقيقة وفي ضوء تحرياته يقدر صدق الشهادة او كذبها. فإذا تأكد المحقق من ان الشهادة كانت صادقة ضمنها الى الأدلة المعتبرة سواء كانت لمصلحة المتهم أم ضده وإلا يتركها ولا يلتفت اليها. والطرق التي يستطيع بواسطتها المحقق من تحري صحة الشهادة كثيرة ومتنوعة وتختلف باختلاف ظروف القضية وحالة الشاهد ومحتوى الشهادة ومن أهمها :
1- تحكيم العقل :
على المحقق ان يحكم عقله في طبيعة الوقائع التي يسردها الشاهد، وفيما اذا كانت ممكنة الحدوث او محتملة او مستحصلة في ضوء طبيعة الأشياء كان يقول الشاهد بانه رأى المتهم يطعن المجني عليه بسكين في الوقت الذي كان هذا الأخير قد وجد مخنوقا.
2- تحكيم العرف :
على المحقق ان يرد أيضاً أقوال الشاهد الى العرف والعادة فان لها اعتبارا كبيرا. فالناس لا يشذون عن العرف الذي ساروا عليه في أعمالهم والعادة التي ألفوها الا نادرا، وكلما كانت الشهادة مخالفة للعرف والعادة كلما كانت غير صحيحة او على الأقل مشكوكا فيها ما لم يوجد سبب محتمل للتصديق يدعو للخروج عن حكمها.
3- دراسة شخصية الشاهد من حيث سلوكه وقواه العقلية :
يجب على المحقق ان يدرس وان يتفحص جيدا شخصية الشاهد من الناحية الأخلاقية ومن ناحية قواه العقلية والأدبية إذ ان ذلك يلقي ضوءا كبيرا على صحة الشهادة أو عدمها ان الوقائع التي يشهد عليها الشهود أو الكيفية التي يجيبون بها على الأسئلة والعبارات التي يستعملونها قد تكون كافية أحياناً لعدم الثقة بهم خاصة اذا كان مركزهم الاجتماعي او حالتهم المادية لا تسمح لهم بالعلم بها. كأن يشهد قروي بسيط لا يعرف القراءة والكتابة بأنه رأى المتهم يخرج من دار القتيل ويركب سيارة خاصة نوع فيات موديل 57 ورقمها كذا. هذه الشهادة واضحة التلقين اذ ان ثقافة الشاهد وخبرته لا تسمح له بإعطاء كل هذه المعلومات.
4- اختبار الحواس واجراء التجارب (تمثيل الحادثة) :
على المحقق ان يختبر حواس الشاهد اذا شك في مقدرة حواسه على ادراكه ما أفاد به ورواه، كأن يكون ضعيف البصر ويدعي انه رأى المتهم على مسافة سبعين مترا او سمع همسا وهو يكاد ان يكون أصما. واذا اقتضت الضرورة فعلى المحقق ان يقوم بإجراء التجارب بنفسه، فلا يوجد هناك شيء يمنعه من ان يذهب الى المحل الذي قرر الشاهد ان يتم كل ذلك في ظروف تماثل جهد الامكان ظروف الحادثة التي رواها الشاهد من حيث الكيفية والمكان والزمان وحالة الجو، فلا يعمل التجربة نهاراً في حين أن الشاهد رأى ما يفيد به ليلاً.

وإذا كان موضوع الشهادة له علاقة بالألوان والأشكال والمسافات فعلى المحقق أيضاً ان يتعرف على معلومات الشاهد في هذا الخصوص، اذ ان أغلب الناس لا يستطيع التفرقة بين الألوان والأشكال لجهلهم بها او لقصر إدراكهم وضعف قوة الملاحظة فيهم ويقال نفس الشيء بالنسبة لتقدير المسافات والأزمنة، فللتأكد من ان الشاهد لديه فكرة واضحة عن الألوان، تعرض عليه ألوان مختلفة ولكنها متقاربة من بعضها ويطلب إليه تسمية كل لون باسمه الخاص (1).وقد يخطئ الشهود المدربون أيضاً في ملاحظة الأوصاف والألوان، فقد أجريت تجربة في السويد على ما يقرب من السبعين طالبا من طلاب مدرسة الشرطة هناك، وكان بينهم كثيرون من أفراد الشرطة ذوي الخبرة العلمية.

أما هذه التجربة فهي كما يلي :بينما كان الطلبة يصغون الى محاضرة تلقى عليهم، دخلت القاعة سيدة في مقتبل العمر، وبقيت هناك لمدة خمس دقائق، ثم نهضت بعدها واعتذرت الى المحاضر قائلة انها دخلت غير القاعة التي تريدها. ثم انصرفت. ومن الطبيعي ان عيون الطلاب كانت متجهة نحو تلك السيدة الجميلة الشابة طيلة الدقائق الخمس. وفي اليوم الثاني طلب الى الطلاب ان يصفوا بصورة مضبوطة سيدة الأمس فكانت النتيجة ان شخصا واحدا فقط من بين السبعين شخصا تمكن في الحقيقة من ذكر أوصافها على وجه الصحة (2).
5 – معرفة وتحديد التناقض في الشهادات :
من الجائز ان يكون تناقض أقوال الشاهد او الشهود دليلا على الكذب خاصة اذا كان بين شاهدين مصدراً علمهما بالشهادة واحدة، وكانت المسألة التي وقع فيها التناقض من الأمور الجوهرية، ان حصول مثل هذه الحالات يوجب على المحقق تحديد اوجه التناقض ودرس أسبابه ثم تقدير صحة الشهادة في ضوء ما يتوصل إليه. ويلاحظ بأن التناقض الذي يستند على المسائل التقديرية كالألوان والأشكال والمسافات لا يدل حتما على صحة الشهادة، إذ ان الاختلاف في تقدير مثل هذه الأمور أمر محتمل الوقوع؛ لان معلومات الشاهدة وتربيته تؤثر في إدراكها والحكم عليها. اما تناقض أقوال الشاهد مع الوقائع المادية الثابتة فإنه دليل واضح على عدم صحة الشهادة، فمثلا يفيد الشاهد بأن القتل قد حصل بواسطة السكين مع ان الفحص الطبي يدل على ان القتل حصل بطلق ناري.
6 – التطابق في الشهادة (الاتفاق غير المقبول) :
ان اتفاق الشهود مهما كان عددهم على جوهر الشهادة امر لا يوجب الدهشة ولكن اتفاقهم جميعا في ألفاظ الشهادة وعباراتها وترتيبها وغير ذلك من الموافقات أمر يدعو الى الشك في أقوالهم. إنها كثيرا ما تدل على تلقين تلك الشهادة ولا يمكن ان تنسب الى مجرد المصادفات، اذ ان حالة تكرار مادي او بعارة معينة خلال أكثر من شهادة يؤكد الاتفاق على أداء شهادة او حصول التلقين.
7 – السؤال على الجزئيات والتفاصيل :
كثرة سؤال الشاهد عن التفاصيل تكشف في كثير من الأحيان عن صدق الشاهد او كذبه في الشهادة. اذ ان عجز الشاهد عن الاجابة او تردده وارتكابه يدل على كذبه فيما أفاد به. ان هذه الطريقة مجدية ضد أولئك الشهود الذين يتطوعون للكذب او يؤجرون على قول الزور فيلقنون الشاهد قبل أدائها.
8 – استعمال الحيلة المشروعة :
يجوز للمحقق ان يستعمل الحيل المشروعة للتأكد من صحة الشهادة كان يقوم باستبدال المتهم بغيره ويسأل الشاهد ان اكن هو المتهم الذي رآه، او يعرض عليه عددا معينا من الأشخاص لا يوجد المتهم بينهم ويطلب منه ان يتعرف عليه.
9 – تكرار الشهادة :
إذا لاحظ المحقق اضطراب الشاهد وارتباكه عند سرد الوقائع التي أفاد بها في شهادته مرة او اكثر، لكنه كرر شهادته بدون اختلاف جوهري كانت إفادته صحيحة وإلا العكس.
10 – إسداء النصح للشاهد وحثه على الصدق :
من المستحسن ان يسدي المحقق للشاهد النصح ويحثه على قول الصدق وان يتجنب الكذب وإفهامه بأن الصدق سفينة النجاة وان قول الزور ضار بالغير، يبين كل ذلك بعبارات واضحة تتناسب مع شخصيته وعقليته وثقافته.
______________
1-وفي معرض الكلام عن الألوان تروى الحادثة التالية : اعتدي على شخص بالضرب ليلا وكان المعتدى عليه قد رأى المعتدي برهة وجيزة فقط تحت ضوء القمر وكان يعتقد بأن المعتدي ساعة اعتداءه كان مرتديا (ثوبا) و(قبعة سوداء) غير ان التحقيق قد اثبت بعد إلقاء القبض عليه على الفاعل بأنه في الحقيقة كان يرتدي عند ارتكابه فعل الاعتداء (صدرية) ذات لون أزرق فاتح و(قبعة بيضاء).
2-انظر احسان الناصري، المرجع السابق، ص100.