قواعد ترشيح المجلس للقضاء المتخصص . دراسة نقدية

إن من اللائق بكل عاقلٍ أن يدع ما لا يُحسنه لمن يحسنه ، وهذا مقتضى :
– قول الحق تبارك وتعالى { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ } الآية .
– وقول الحبيب عليه الصلاة والسلام ( أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ ) ، وفي رواية ( إِنْ كَانَ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ دُنْيَاكُمْ : فَشَأْنُكُمْ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أُمُورِ دِينِكُمْ : فَإِلَيَّ ) .
– وقول الفاروق رضي الله عنه ( الْفَهْمَ الْفَهْمَ !، فِيمَا تَخَلَّجَ فِي صَدْرِكَ مِمَّا لَمْ يَبْلُغْكَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، اعْرِفِ الأَمْثَالَ وَالأَشْبَاهَ ، ثُمَّ قِسِ الأُمُورَ عِنْدَ ذَلِكَ ، فَاعْمَدْ إِلَى أَحَبِّهَا إِلَى اللَّهِ وَأَشْبَهِهَا بِالْحَقِّ فِيمَا تَرَى ) .

– وإن من المعلوم بالضرورة أن الإحاطة بجميع العلوم لا تكون لغير العليم الحكيم سبحانه ، كما أن الإحاطة بعلم واحد لا تكون إلا بمشيئته جل جلاله ؛ قال تعالى { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ } .
– ومن الجلي أن الله جل ثناؤه لا يَحرم عبده علماً أراده لوجهه ، ولا يُوفق عبداً تكبَّر على طلب العلم من أهله ؛ قال عز وجل { سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ } الآية .
– بل إن الله ليبتلي هؤلاء بأن يروا صواب أعمالهم ، في الوقت الذي هم فيه غارقون في الخطأ ؛ قال جلت عظمته { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا } .

من ذلك المنطلق :
يتضح لنا أن المرء كثير بإخوانه ، قوي بأعوانه فيما قدره الله عليه ويسره الرحمن له ، وهذا الذي نريده من مجلسنا الموقر أن يتصوَّره أولاً ؛ ليكون قاعدة له ينطلق منها ويتكئ عليها .

= ومن الأمور – التي تستدعي هذا التصور ، وتستوجب العمل به – الاستعانة بخبراء الإدارة في وضع البيانات ، وإعداد قوالب الاستبيانات ، وتحليل المعلومات ، وتقييم النتائج .

= والذي دعاني لهذا الموضوع ما وجدته من خلل ظاهر في قواعد ترشيح قضاة المحاكم العامة والجزئية للالتحاق ببرامج التدريب للقضاء المتخصص (تجاري – جزائي – عمالي ) .

= ظهر لي – من تأمل تلك القواعد – أمور ؛ منها :-
1/ أن المجلس أبعد ما يكون عن تصوُّر الأمور الفنية .
2/ أن المجلس لا يزال يُعاني من عقدة الكمال المزعوم ، وسياسة الرأي الأوحد .
3/ أن المجلس يفتقد الكثير من معايير التصوُر لما يُقرره ، فضلاً عما يُفكر فيه ويُحضر له .
4/ أن المجلس – وهو يؤسس لقواعد العمل – يرى أنه على الجادة البيضاء ، وأنه لا يحتاج لأيِّ إعانة من خبير ، ولا لأيِّ مساعدة من متخصص .
5/ أن المجلس لو تجرد من حظوظ النفس : لبان له خلل ما يقوم به ؛ مما لا يُغتفر لمن هم أقل من مسؤولية ، فكيف بمثلهم .

= سأقتصر على ثلاثة أمور من تلك القواعد :

الأمر الأول : توزيع درجات الخبرة .
وبيانها – من قواعد المجلس – كالتالي :
أ/ كل سنة من الخبرة العملية بدرجتين .
ب/ بحث الدكتوراه بثلاث درجات .
ج/ بحث الماجستير بدرجتين .
د/ البحث المحكم بدرجة واحدة .
هـ/ كل عشرين ساعة تدريبية في مجال التخصص بدرجة واحدة . ( عشرين ساعة تدريب = خمسة أيام )

التعليق :
عند تطبيق التحديد النقطي السالف ستظهر لنا النتائج التالية :
– ثلاث سنوات خبرة = ست درجات خبرة ، أي : أكثر مما يحصل عليه من يحمل شهادتي ( الماجستير ، الدكتوراه ) .
– أربعة برامج تدريبية ( عشرين يوماً ) = أربع درجات خبرة ، أي : أكثر مما يناله حامل شهادة الدكتوراه ؛ الذي يمكث غالباً أربع سنوات في بحثه .
– ثلاثة بحوث محكمة ( ستين صفحة ) = ثلاث درجات ، أي : أكثر من شهادة الماجستير ، وتماثل شهادة دكتوراه .
– شهادة الدكتوراه = سنة ونصف خبرة عملية .

= وعند المقارنة بما نص عليه النظام نجد التالي :
– الماجستير = أربع سنوات خبرة عملية ، ولذلك يعين حامل الماجستير في مرتبة ( قاضي ب ) .
– الدكتوراه = أربع سنوات خبرة عملية ، ولذلك يعين حامل الدكتوراه في مرتبة ( قاضي أ ) .

= وعند المقارنة بلوائح الجامعات نجد الآتي :
أستاذ مساعد يحمل الدكتوراه + أربع سنوات خدمة + أربعة بحوث محكمة = أستاذ مشارك
أستاذ مشارك يحمل الدكتوراه + أربع سنوات خدمة + أربعة بحوث محكمة = أستاذ
أي : أن المتطلب للحصول على درجة الأستاذية المطلقة هو :
الدكتوراه + ثمان سنوات خدمة + ثمانية بحوث محكمة = أستاذ .

= وعند المقارنة بجداول احتساب نقاط التدريب المعدة من المؤسسة العامة للتدريب المهني والتقني نجد أن البون شاسع بين المجلس والمؤسسة ، وأن الفاصل الزمني والفكري ليس بالقريب ولا بالبعيد المتقارب . والحمد لله على كل حال

الأمر الثاني : الخبرات العملية المفترضة .
وبيان المقصود منها – من قواعد المجلس – كالتالي :-
1- المحكمة العامة : ويعد العمل فيها خبرة للمحاكم والدوائر الآتية : المحكمة العامة ـ المحكمة الجزائية ـ محكمة الأحوال الشخصية ـ المحكمة التجارية ـ المحكمة العمالية ـ الدائرة المرورية ـ دائرة التنفيذ ـ دائرة الإثباتات الإنهائية وما في حكمها .
2- المحكمة الجزائية : ويعد العمل فيها خبرة للمحاكم والدوائر الآتية : المحكمة الجزائية ـ المحكمة العمالية ـ الدائرة المرورية ـ دائرة قضايا الأحداث .
4- الدائرة الحقوقية في محكمة الاستئناف : ويعد العمل فيها خبرة للدوائر الآتية : الدائرة الحقوقية ـ الدائرة التجارية ـ الدائرة العمالية .

التعليق :
من المعلوم إن المحاكم العامة تقوم بعمل المحاكم الجزائية العدلية في كثير من مناطق ومحافظات ومراكز المملكة ، وتقوم بعمل محاكم الأحوال الشخصية في جميع محاكم المملكة .
– ولذلك :
فمن الممكن احتساب الخبرة العملية في المحاكم العامة قائمة مقام الخبرة العملية في المحاكم الجزائية العدلية ومحاكم الأحوال الشخصية .
– أما أن تكون الخبرة العملية للمحاكم العامة قائمة مقام الخبرة العملية في القضاء الجزائي القادم من الديوان ، أو مقام الخبرة العملية في القضاء التجاري : – فذلك الذي لا يمكن الاتفاق مع من يقول به ؛ لا من قريب ، ولا من بعيد .
– وهذا القرار غير منطقي ولا منصف لعدة أمور :
1/ أن القضاء الجزائي نوعان ؛ عدلي وقادم من الديوان .
2/ أن القضاء العمالي والتجاري والجزائي القادم من الديوان كلها تعتمد على أنظمة لم يسبق العمل بها لمنسوبي المحاكم العامة ، ولا لسائر منسوبي القضاء العدلي ، بل إن كثيراً منهم لا يعلم بها أصلاً ، فكيف بهم وعددها تربو على العشرين نظاماً ، ولا تزال في ازدياد .
3/ أن الاشتراك في المبادئ العامة للقضاء موجودة في كل القضاة ؛ أياً كانت تخصصاتهم ، فلا مزية لتفضيل منسوبي المحاكم العامة على غيرهم من منسوبي الأقضية الأخرى .
4/ أن العمل بالأنظمة في الأحكام مشترك بين القضاء العمالي من جهة ، وبين القضاءين التجاري والجزائي القادم من الديوان ، وهما أولى بالتسوية في الخبرات العملية من غيرهم من منسوبي القضاء العام ، ولذلك أشارت آلية العمل التنفيذية وألمحت لهذين القضاءين بما نصه [ ولا يمنع ذلك من تكليفهم إكمال النصاب في دوائر أخرى ] .
5/ أن استعجال اتخاذ القرارات بشأن الأقضية القادمة قبل حضور من يمثلها فيه تجاوز ظاهر لما جاء في آلية العمل التنفيذية لنظامي القضاء وديوان المظالم .

الأمر الثالث : معايير التخصيص .
إن المعيار الأول في جميع الولايات وفي جميع النظم والدساتير هو الكفاءة ، ثم يأتي من بعد ذلك ما شاء الله له أن يتقدم من المعايير .
– أما في قواعد المجلس فالمعيار الأول للتخصيص القضائي هو الرغبة !!!.
هذا ما نصت عليه قواعد المجلس بل جعلت القواعد تخصيص القضاة مبنياً على الرغبة أولاً ، وتركت المعايير الأخرى حلاً عند المشاحة بين القضاة على التخصيص .
– وهذا يتضمن تهيئة منسوبي القضاء العدلي لتلك المرحلة الحاسمة ؛ للاستعداد للمزايدات والمراهنات وتجاذب الاختصاصات .
– بل يتضمن التهيؤ من المجلس لتلك المرحلة المزرية ؛ عندما يتنافس القضاة في اقتسام التخصصات القضائية القادمة ، وكأنهم ورثة متشاكسون يتنازعون تركة مورثهم قبل دفنه .

الخاتمة :

إن المجلس بسياساته الحالية لا يرقى لتحقيق طموحات الدولة في الرقي بالقضاء السعودي ، ولا يُبشر بتطوير القضاء كما تريده القيادة العليا ، ولا يُمكن أن يحظى بقناعات كثيرٍ من المهتمين بالقضاء العام . فهل من مدَّكر.