حق العمل وحلم المساواة
م. عبدالخالق بن شبرين القرني

قضايا العمل من القضايا الهامة والشائكة قديما وحديثا ، توليها الدول أهمية قصوى لما لها من إنعكسات إجتماعية وإقتصادية وسياسية. الكتلة العمالية في كثير من الدول لها تنظيماتها ونقاباتها وتأثيراتها في ملفات متنوعة . فهي ذات تأثير كبير في دعم الإستقرار أو في خلق الزعزعة لتلك الدول. عانى العمال من إضطهادات كثيرة في بلدان الثورة الصناعية مع بزوق الصناعات والحاجة للقوى العاملة ، ومروا – أي العمال – بنضال شاق إنتهى بإقرار قانون العمل ، الذي أصبح بديهيا وركيزة أساسية في تشريعات الدول الصناعية وغير الصناعية.

الشريعة الإسلامية لم تغفل تشريعات العمل وتنظيماته، وقد وردت آيات كريمة وأحاديث شريفة تنظم علاقات العمل وتضع الضوابط للمفاصل الأساسية للعلاقة العملية فيما يتعلق بالواجبات والحقوق. المملكة بدورها أهتمت بقضايا العمل وأنشأت وزارة متخصصة وسنت وفعّلت (نظام العمل والعمال) في مرحلة معقولة من تأسيسها، وأستمرت الحكومات المتعاقبة في تطوير النظام وتنقيحه وفق معطيات كل مرحلة.

التعديل الأخير الذي أقره مجلس الوزراء أختلف جذريا ، لم يكن تعديلا في علاقات العمل بقدر ماهو تعديل في مبدأ العمل نفسه. رغم أنه عبارة عن نص مقتضب إلا إنه يتجه لأبعاد اجتماعية وسياسية واقتصادية بحمولة مثقلة ، تنطلق مما ألزمه مهندس الرؤية، سمو ولي العهد ، على نفسه من فرض سيادة القانون وتحقيق تكافوء الفرص بين أفراد المجتمع ، نساء ورجال. رغم أن الكثير يفسرون هذا التعديل في سياق تمكين المرأة ، وهو محور آخر في مبادئي رؤية المملكة ، إلا إن التشريع تناول المساواة بنص صريح ، تضمن التعديل رفع سن التقاعد للمرأة مساواة بالرجل بعد أن كانت تحظى بإمتيازات التقاعد المبكر في سن الخامسة والخمسين.

بالنظر في المادة الثالثة من نظام العمل التي تعطي حق العمل للمواطنين ، نجد نص المادة – بعد التعديل – يضيف: (دون أي تمييز على أساس الجنس أو الإعاقة أو السن أو أي شكل من أشكال التمييز الأخرى، سواء أثناء أداء العمل أو عند التوظيف أو الإعلان عنه). هذه الإضافة توجب وتلزم المساواة بين المواطنين في حق العمل ، إستحقاقا وممارسة ، في مرحلتي التوظيف والتعامل أثناء العمل، بما يكفل معاملة الجميع على قدم المساواة ، لكل ما يتعلق بالإمتيازات والإستحقاقات المهنية.

التمييز في عمليات التوظيف والعلاقات الوظيفية معضلة ترهق الدولة والمجتمع ، مشكلة استعصت على كل الحلول. لا نذيع سرا لو قلنا إن التمييز لم يكن في حق النساء فحسب ، بل في حق الجميع، على أساس مناطقي أو عرقي أو إجتماعي أو حتى طائفي. هذا التمييز الذي نعرفه وننكره عطل الإنتاج وكبل القدرات وقتل الطموح والإبداع لدى الطامحين المبدعين ، فلم يدع لهم خيارا سوى الإندماج في التكتلات الشللية أو الركض نحو سراب الوهم. لم تقف معاول التمييز على قتل الإبداع ، بل تعدت لتكوين الطبقية الاجتماعية المقيتة التي تقسمنا وفق معايير إستقطاب تضرب المجتمع في عمقه و تقوض اقتصاد الدولة.

التمييز الجديد الذي ظهر مؤخرا ، إضافة إلى ما تعانيه بيئاتنا العملية من تمييز متنوع ، هو تمييز على أساس الجنس والعمر. كثير من الجهات، العامة والخاصة ، تعطي الأولوية للنساء وفئات عمرية معينة، أي أننا نضيف تصنيفات أخرى من التمييز بدلا من تقليص الآثار القائمة. اهتمام الدولة بتمكين المرأة وتمكين جيل الشباب تم توظيفه من قبل هذه الجهات ، إما بسوء قصد أو بسوء تقدير، في خلق إشكاليات جديدة أكثر تعقيدا وأبلغ أثرا ، وكأنهم يعالجون الأزمات بطرح أزمات بديلة.

هذا التمييز الجديد – إن جاز التعبير- يحدث الشرخ الأكبر في المجتمع والتكوين الأسري ، ويفقد الدولة أهم عناصر الإنتاج, فهو يقذف بشريحة كبيرة من العاملين والباحثين عن العمل خارج منظومة التنمية ، وخارج المجتمع ، بل خارج الزمن ، ولكم أن تتصوروا ما سينعكس من آثار على الأسرة وبالتالي المجتمع.

إننا إذ نحتفل بهذه النقلات النوعية ، التي تعيد تشكيل وتوجيه مجتمعنا وفق المنطق الحضاري، نحو آفاق أكثر إستيعابا وتنوعا وإنتاجا ، إلا إننا نتوجس من مدى تفاعل وجدية جهات التوظيف في التناغم مع هذه المنجزات التشريعية وتحويلها لواقع ينعم به الجميع. إننا ندرك أن هذه التشريعات الإبداعية لن تحدث الأثر في الواقع ولن تستيقنها مراكز التوظيف وتعمل بها ما لم تدعمها إجراءات حوكمة ومراقبة تضعها موضع التنفيذ.

تتجه الأنظار لرائد القانون ومهندس التغيير لتمكين هذه التغييرات من خلال فرض الجانب الآخر من القانون بإجراءات قضائية تردع منتهكي هذه الحقوق المكتسبة التي طال إنتظارها . فالمساواة ليست مجرد حق ، بل حلم لا نريد أن نغفوا منه على واقع ينتهك الحقوق والأحلام معا.

إعادة نشر بواسطة محاماة نت