في فقه القانون: قراءة في المرسوم رقم 56/2002
عبدالله الشملاوي
محامٍ بحريني

يسود مبدأ الفصل بين السلطات في الأنظمة الديمقراطية، إذ يحدد الدستور اختصاص كل سلطة من السلطات الثلاث في الدولة، وهي السلطة التشريعية، السلطة التنفيذية، والسلطة القضائية. فإن خرجت إحدى تلك السلطات عن النطاق المحدد لها، اعتبر خروجها ذاك تعديا على الدستور، واغتصابا ايجابيا منها للسلطة المحددة لغيرها من السلطات في الدستور.ولما كانت الدساتير تنيط سلطة التشريع بالمجالس التشريعية في الدولة، بوصفها الممثلة للإرادة الشعبية، فلها وحدها حق التشريع، إلا أنه قد تعرض حال استثنائية تجبر السلطات الحاكمة في الدولة على اتخاذ إجراءات استثنائية لمواجهة خطر أو عمل من شأنه أن يهدد كيان الدولة، أو أمنها، أو استقلالها. لكن تلك الإجراءات لا تكتسب مشروعية قانونية، وليس لها صفة السمو القانوني ما لم تنص عليها الدساتير وتتقيد السلطة مصدرة هذه المراسيم بقوانين، بالشروط الواردة في نصوص الدستور، وتسمى هذه الإجراءات لوائح الضرورة أو اللوائح الاستثنائية، أو المراسيم بقوانين كما يسميها دستور البحرين.

والمعروف في فقه القانون الدستوري أن لوائح الضرورة، أو المراسيم بقوانين التي تصدر بصفة استثنائية، هي سلطة معقودة لرئيس الدولة، إذا طرأ ما لا يحتمل التأخير فيما بين ادوار انعقاد المجلس التشريعي أو أثناء فترة حله، كحرب أو عصيان مسلح، شريطة عرض هذه اللوائح أو المراسيم بقوانين بمجرد انعقاد المجلس التشريعي ليدلي برأيه فيها، كما تنظم ذلك المادة 38 من دستور 1973، ويكون عرض تلك المراسيم على المجلس النيابي بقوة القانون خلال 15 يوما من تاريخ صدورها إذا كان المجلس قائما، وفي أول اجتماع للمجلس الجديد في حال الحل، أو انتهاء الفصل التشريعي، فإذا لم تعرض زال بأثر رجعي ما كان لها من قوة القانون من غير حاجة إلى إصدار قرار بذلك. ولقد جاءت المادة 38 من دستور 2002، وهي ذات رقم المادة من دستور 1973، مع اختلاف بين النصين بما يناسب الأوضاع التي أوجدها الدستور الجديد، والتي يجري نصها على أنه: «إذا حدث فيما بين ادوار انعقاد كل من مجلس الشورى ومجلس النواب أو في فترة حل مجلس النواب ما يوجب الإسراع في اتخاذ تدابير لا تحتمل التأخير، جاز للملك أن يصدر في شأنها مراسيم تكون لها قوة القانون، على ألا تكون مخالفة للدستور. ويجب عرض هذه المراسيم على كل من مجلس الشورى ومجلس النواب خلال شهر من تاريخ صدورها إذا كان المجلسان قائمين أو خلال شهر من أول اجتماع لكل من المجلسين الجديدين في حال الحل أو انتهاء الفصل التشريعي، فإذا لم تعرض زال ما كان لها من قوة القانون بغير حاجة إلى إصدار قرار بذلك، وإذا عرضت ولم يقرها المجلسان زال كذلك ما كان لها من قوة القانون».

ذلك أن ركن الضرورة هو المبرر للاستعجال في إدارة العملية التشريعية من قبل السلطة التنفيذية بواسطة المراسيم بقوانين، يقيدها في ذلك أن هذه الماكنة منحت للسلطة التنفيذية استثناء من أصل، فينبغي عدم التوسع فيها ولا القياس عليها.

حزمة المراسيم بالقوانين

بعد هذا التأصيل النظري، وبنظرة سريعة إلى حزمة المراسيم بالقوانين التي صدرت فيما بعد في 14 فبراير/شباط 2002 ومنها المرسوم بقانون محل القراءة، نجد أنها معيبة بانعدام ركن الاستعجال، إذ لسنا في حال حرب أو عصيان مسلح أو أي تهديد يعرض أمن واستقرار واستقلال البلاد للخطر، كما يذهب إليه الفقه الدستوري المقارن، ولما كانت هذه اللوائح فاقدة لشرط الاستعجال الذي عبرت عنه المادة (38) من دستوري البحرين لسنة 1973، ولسنة 2002 بـ (ما يوجب الإسراع في اتخاذ تدابير لا تحتمل التأخير) وإذ إننا أمام استثناء لا يتوسع فيه ولا يقاس عليه، فإن نص المادة (38) من الدستورين المذكورين لا يصلح لأن يكون سندا لهذه اللوائح أو المراسيم بقوانين كما يسميها المشرع الدستوري البحريني. كما أن السلطة التنفيذية لم تنتظر انعقاد المجلس ليصدر التشريع بالكيفية والأداة التي حددها الدستور خصوصا المادة (70) من دستور 2002 الذي وضعته السلطة التنفيذية منفردة، والتي تنص على أنه: (لا يصدر قانون إلا إذا أقره كل من مجلسي الشورى والنواب، أو المجلس الوطني بحسب الأحوال، وصدق عليه الملك).

وبذلك تكون هذه التشريعات غير مستندة إلى القاعدة العامة، ولا يلائم حالها الاستثناء. إذ لم تصدر بقانون وفقا للمادة (70) من الدستور الجديد، ولا شكل المرسوم بقانون يناسبها، إذ لم تستوف شروط المادة (38) من الدستورين المذكورين؛ وبالتالي فهي لا تعدو أن تكون مجرد أعمال مادية فاقدة للسند القانوني.

وبإعمال ما تقدم على المرسوم بقانون رقم 56/2002، نجد أنه صدر في غيبة المجلس التشريعي، ودونما ضرورة يحتمها درء خطر محدق بأمن أو استقرار أو استقلال البلاد وفي غير استعجال، سوى استعجال الحكومة في إصدار القوانين، المخالف للاستعجال بالمفهوم المتقدم بيانه عند فقهاء القانون الدستوري، أي قيام خطر داهم يعرض أمن واستقرار البلاد للخطر، الأمر الذي يدفع السلطة التنفيذية لإصدار مراسيم بقوانين بوصفها لوائح ضرورة، للحفاظ على كيان البلاد وأمنها.

قد يكون استعجال الحكومة في إصدار هذه الحزمة من المراسيم بقوانين يجد تبريره في عدم تفويتها الفرصة باستخدام المواد التي أقحمت في التشريعات ذاتها وفي دستور 2002 الذي وضعته الحكومة منفردة، إذ أن تلك النصوص تجعل رؤى الحكومة المتمثلة فيما أصدرته من لوائح ضرورة من دون ضرورة، في مأمن من الرقابة البرلمانية القادمة – إن كتب لها ان توجد. وتلك النصوص هي الفقرة – ب – من المادة – 121- من دستور 2002 التي تـنص على أنـه: «ب – استثناء من حكم الفقرة الثانية من المادة 38 من هذا الدستور يبقى صحيحا ونافذا كل ما صدر من قوانين ومراسيم بقوانين ومراسيم ولوائح وأوامر وقرارات وإعلانات معمول بها قبل أول اجتماع يعقده المجلس الوطني ما لم تعدل أو تلغى وفقا للنظام المقرر بهذا الدستور». ومفاد هذا البند من النص الدستوري أن المراسيم بقوانين ستبقى قائمة ولها قوة القانون من دون حاجة إلى عرضها على المجلس التشريعي من قبل السلطة التنفيذية.

وكذلك المادة 45 من المرسوم بقانون مجلس الشورى والنواب، التي تمنع على المجلس الوطني محاسبة الحكومة عما يسبق أول جلسة له، ويجري نصها كالآتي: «تقتصر رقابة كل من مجلسي الشورى والنواب، فيما يتعلق بأعمال أعضاء السلطة التنفيذية وتصرفاتهم، على ما يتم منها بعد تاريخ انعقاد المجلسين في أول فصل تشريعي، ولا يجوز لهما التعرض لما تم من أفعال أو تصرفات سابقة على هذا التاريخ»، إذ أن ذلك مما سيحول دون عرض تلك المراسيم على السلطة التشريعية، على النحو المقرر بالمادة 38 من دستور 73 والنص ذاته بدستور 2002، إذ سيمتنع على المجلس الوطني بغرفتيه، المعينة والمنتخبة، التعرض لتلك المراسيم لاحقا، بعد تمام الهيكل القانوني للبلاد بالكيفية التي تريدها السلطة التنفيذية، على رغم مخالفة ذلك لدستور وضعته هي بمفردها، لا يسمح للمجلس التشريعي إلا بحركة محسوبة، أشبه بحركة بندول الساعة، ومع ذلك لن تجازف الحكومة بعرض هذا المرسوم بقانون ولا غيره من عشرات المراسيم بقوانين التي صدرت في الفترة ما بين حل المجلس الوطني في أغسطس/آب 1975، وحتى التصويت على ميثاق العمل الوطني، والتي أصبحت خارج نطاق المناقشة من قبل السلطة التشريعية بموجب المنع من مناقشتها كما تقرر ذلك المادة 121 من الدستور الجديد، التي تقدم ذكر نصها، ولا عشرات تلك المراسيم التي صدرت بعد الميثاق وحتى تاريخ أول اجتماع للمجلس الوطني، باعتبار أن تلك داخلة في أعمال السلطة التنفيذية السابقة على انعقاد أول جلسة للمجلس الوطني، كما فصلت ذلك المادة 45 المومأ إليها.

وتحسبا لأي طارئ، بادرت الحكومة بوقاية المراسيم بقوانين التي تصدرها بإضافة حواجز وعقبات أخرى، حتى يقع ما يخرج منها من العقبة الأولى في العقبة التي تليها؛ لذلك جرى نص المادة 124 من المرسوم بقانون 54/2002 بشأن اللائحة الداخلية لمجلس النواب والمطابقة للمادة 123 من المرسوم بقانون رقم 55/2002 بشأن مجلس الشورى بالآتي: «تسري بشأن المراسيم بقوانين الإجراءات الخاصة بمناقشة مشروعات القوانين المنصوص عليها في هذه اللائحة. ويصوت المجلس على هذه المراسيم بالموافقة أو الرفض. ويصدر قرار المجلس بعدم إقرار المرسوم بقانون بغالبية أعضاء المجلس، وينشر هذا القرار في الجريدة الرسمية».

ومفاد هذا النص أن المراسيم بقوانين إذا عرضت على أي من غرفتي المجلس الوطني فله أن يجيزها بالغالبية العادية، أما إذا قرر رفض المراسيم بقوانين والتي قلنا إنها صدرت بالمخالفة للدستور، فيتعين أن يكون ذلك الرفض بغالبية أعضاء المجلس. وهو قيد إضافي على القيود التي تثقل كاهل المجلس في إدارته للعملية التشريعية، وهي غالبية مشوبة بعيب عدم الدستورية حتى في ظل دستور المنحة الصادر في فبراير 2002، الذي يخضع المجلس الوطني لأحكامه، إذ خلا الدستور المذكور من تطلب هذه الغالبية الخاصة على النحو الذي فصلته المادة 80 منه، والتي يجري نصها على أنه: «… وتصدر القرارات بالغالبية المطلقة للأعضاء الحاضرين، وذلك في غير الحالات التي تشترط فيها غالبية خاصة…».

ونص ذلك الدستور حصرا على الحالات التي تستوجب فيها غالبية خاصة، ولما لم تكن الحال سالفة الذكر من ضمن تلك الحالات، فكان ينبغي أن تخضع للغالبية المطلقة، ومن ثم يغدو اشتراط الغالبية الخاصة منافيا لذلك الدستور. وخصوصا أن النص المذكور يجيز للمجلس التشريعي قبول المراسيم بقوانين، بالغالبية المطلقة، وفقا للقاعدة العامة التي حددتها المادة 80 السالفة الذكر، في حين يتطلب للرفض غالبية خاصة، وهذا لا يفهم منه سوى أن القبول أسهل من الرفض، فطريق القبول معبد وأما طريق الرفض فمعقد. والمثير للدهشة أن هذا النص يحمل في طياته حصانة للمراسيم بقوانين الصادرة عن الحكومة، بوصفها لوائح استعجال وضرورة، ودونما استعجال ولا ضرورة، لم تحظ بها القوانين الصادرة عن الأصل في التشريع والذي يمثل الإرادة الشعبية وهو البرلمان، إذ أن تعديل أي قانون صادر عن البرلمان لا يتطلب سوى الغالبية العادية، بينما رفض المرسوم بقانون الصادر عن الحكومة يتطلب غالبية أعضاء المجلس! وهو أمر غريب ومستغرب.

ومما تقدم يظهر أن الحكومة لا تريد أن تفوت الفرصة بالاستناد إلى النصوص السالفة الذكر التي تعطيها رخصة إدارة العملية التشريعية عن طريق المراسيم بقوانين بعيدا عن رقابة المجلس النيابي إذ هي ما يبرر في نظرها استعجالها في إصدار تلك المراسيم بقوانين، ولكن تساؤلا يثور: هل ان هذه المبررات تعد مبررات مقبولة وهي التي تتضمن الالتفاف على النصوص القانونية والمبادئ المتعارف عليها في الديمقراطيات العريقة والممالك الدستورية التي تطمح الإرادة الملكية إلى أن تكون مملكة البحرين إحدى تلك الممالك الدستورية الديمقراطية، كما ورد مرارا في الخطاب الملكي، وميثاق العمل الوطني؟.

من الشكل إلى الموضوع

كل هذا من حيث الشكل من جهة صدور لوائح الضرورة المسماة عند المشرع الدستوري البحريني بالمراسيم بقوانين.

أما من حيث الموضوع، فإن المرسوم بقانون رقم 56/2002 محل القراءة، جاء ليفسر المرسوم بقانون رقم 10/2001 بشأن العفو الشامل الذي يرفع صفة التجريم عما نسب إلى المتهمين من أفعال تعد ماسة بالأمن الوطني. والمستفيدون من هذا النص هم الموقوفون والمتهمون والمحكوم عليهم على هذا الأساس، أما الذين مارسوا العنف مع المتهمين والموقوفين في تلك التهم، بصفتهم موظفين عموميين، فهم بالقطع واليقين ليسوا مشمولين بالعفو، ويستند هذا النظر إلى عدد من الأسانيد، هي:

1- كان العفو الشامل يطول الجرائم الماسة بالأمن الوطني والتي نظمها قانون العقوبات الصادر بالمرسوم بقانون رقم 15 لسنة 1976، في الفصل الخاص بجرائم أمن الدولة الخارجي والداخلي وهي المواد من 112 إلى 185، بينما تسري بشأن أفعال هؤلاء – الذين ورد العفو عنهم في المرسوم بقانون رقم 56/2002 محل هذه القراءة، المادة (208) من المرسوم بقانون العقوبات ذاته، والتي تنص على أنه: (يعاقب بالسجن كل موظف عام استعمل التعذيب أو القوة أو التهديد بنفسه أو بواسطة غيره مع متهم أو شاهد أو خبير لحمله على الاعتراف بجريمة أو على الإدلاء بأقوال أو معلومات في شأنها).

2- يستفيد من العفو الشامل وفق المادة الثالثة من المرسوم بقانون رقم 10 لسنة 2001 «الموقوفون والمتهمون والمحكوم عليهم ممن تسري عليهم أحكام هذا القانون من المواطنين الموجودين داخل البلاد أو خارجها» وذلك في الفترة السابقة على صدوره، بما يعني أن من يقبض عليه بعد تاريخ صدور هذا المرسوم بقانون يعد مدانا ولا يشمله العفو. أما من اقترفوا جرائم التعذيب، وإن افترضنا أن المرسوم بقانون رقم 10 /2001 شمل حالتهم فإنهم لم يقدموا إلى المحاكمة حتى الآن وبالتالي لا ينطبق عليهم حكم المرسوم بقانون 10/2001 ولا تفسيره الصادر به المرسوم بقانون 56/2002 محل هذه القراءة.

3– لو افترضنا أن العفو الشامل وفق المرسوم بقانون رقم 10/2001 شمل هؤلاء لوصم بعدم الدستورية، إذ انه بذلك يكون قد خالف نص المادة (19/د) من دستور 1973 التي تنص على أنه (لا يعرض أي إنسان للتعذيب المادي أو المعنوي، أو للإغراء، أو للمعاملة الحاطة بالكرامة، ويحدد القانون عقاب من يفعل ذلك…)، والسارية المفعول آنذاك حتى من وجهة النظر الرسمية، والتي ورد فيها تجريم للتعذيب وهي مطابقة للرقم الوارد ذاته في دستور 14 فبراير 2002. إذا وبالبناء على قاعدة «ألا جريمة ولا عقوبة إلا بنص»، المعروفة بقاعدة المشروعية، ولما كان تجريم التعذيب قد ورد في الدستور نفسه بحسب النص المتقدم، وورد العقاب بشأنه في المادة 208 من قانون العقوبات المذكورة سلفا، مما يمتنع معه إيقاع أي إعفاء، خاصا كان أم عاما. فإذا وقع عفو عن مثل ما تقدم من جرائم فإنه يكون قد خالف المبدأ الدستوري الوارد في المادة 31 من الدستورين، واللتين تنصان على أنه: (لا يكون تنظيم الحقوق والحريات العامة المنصوص عليها في هذا الدستور أو تحديدها إلا بقانون، أو بناء عليه. ولا يجوز أن ينال التنظيم أو التحديد من جوهر الحق أو الحرية)، إذ ان الإعفاء هنا في واقعه يتضمن إخلالا بجوهر الحق في السلامة البدنية المنصوص عليه في الدستورين في المادة رقم 19 السالفة الذكر.

4- لو افترضنا شمول العفو هذه الفئة التي اقترفت جرم تعذيب الموقوفين والمعتقلين، فإن البحرين تكون قد أخلت بالتزاماتها الدولية بخصوص التعذيب وخصوصا اتفاق مناهضة التعذيب والمواثيق الدولية الأخرى التي انضمت إليها البحرين، والتزمت بأحكامها.

5- أن ديباجة المرسوم بقانون رقم 10/2001 والظروف الموضوعية التي صدر فيها تمنع من أن يفهم إمكان تسرية حكمه على الموظفين العموميين الذين قاموا بتعذيب الموقوفين والمعتقلين بشأن ما نسب إليهم من المس بالأمن الوطني.

6- إمعانا من المشرع في تأكيد عدم دخول غير من تقدم ذكرهم في البند أعلاه في حكم مرسوم العفو الشامل الصادر برقم 15/2001، فقد نص في مادته الأولى على أنه: (يعفى عفوا شاملا عن الجرائم الماسة بالأمن الوطني التي تختص بنظرها المحكمة المنصوص عليها في المادة 185 من قانون العقوبات، والتي وقعت من مواطنين قبل صدور هذا القانون). ويقصد بالمحكمة هنا، محكمة أمن الدولة، وهي قضاء استثنائي. أما جرائم التعذيب التي اقترفها هؤلاء الموظفون العموميون فلا تنظر أمام محكمة أمن الدولة تلك، ولا ضمن نطاق اختصاصها المحدد وفق المادة 185 من قانون العقوبات بالمواد 112 حتى 184 من القانون ذاته. وإنما ينعقد الاختصاص بنظر جرائم التعذيب المنصوص عليها في المادة 208 من قانون العقوبات، للقضاء الجنائي العادي.

7- كان مرسوم العفو الشامل من ضمن أدوات تحقيق الوئام الاجتماعي، بوصفه أحد عناصر المشروع الإصلاحي الملكي، فصدر العفو الشامل عن الجرائم الماسة بالأمن الوطني في مرسوم بقانون أصدره عاهل البلاد، لكنه ومع ذلك، لم يدخل تحت مظلة العفو (على رغم أهميته الشديدة)، لم يدخل أي متهم في إحدى تلك الجرائم إذا نجم عن فعله موت شخص، على ما جرى به صريح نص المادة الثانية من المرسوم بقانون ذاته بشأن العفو من أنه: (لا يشمل العفو الجرائم المنصوص عليها في المادة السابقة إذا نجم عنها موت شخص، واشتملت على إحدى الجرائم الماسة بحياة الإنسان، المنصوص عليها في المادتين «333، 336» من قانون العقوبات). مما مقتضاه ولازمه أن من يزهق روح إنسان لا يكون جديرا بالعفو، حتى لو كنا بصدد مصالحة وطنية، وكان ذلك منحى موفقا من عظمة الملك، يظاهر هذا النظر أن عظمته أصدر بعد ذلك عفوا خاصا عمن نسب إليه فعل مما تحكمه المادتان 333، 336، المومأ إليهما، مسقطا العقوبة فقط دون التجريم، متحملا عظمته الديات.

وبإعمال ما تقدم من نص وروح القواعد القانونية على جرائم التعذيب التي اقترفها هؤلاء الموظفون العموميون بحق الموقوفين في تهم ماسة بالأمن الوطني، نجد أنها خارج نطاق العفو هذا، خصوصا مع ثبوت أن هناك من أودى التعذيب بحياته على يد من يقرر المرسوم بقانون محل القراءة العفو عنهم.

تعديل في ثوب تفسير

لكل ما تقدم نطمئن في القول إن تلك الفئة من الموظفين العموميين التي عذبت المتهمين والموقوفين، ليست مشمولة بالعفو الصادر بالمرسوم بقانون رقم 10/2001، بدليل صدور المرسوم بقانون رقم 56/ 2002 محل القراءة الذي شملهم بالعفو، متضمنا إقرارا بأنهم ارتكبوا جرائم تحتاج إلى تدخل تشريعي للعفو عنهم، أو بالأحرى تحصينهم قضائيا في مواجهة المجني عليهم. ويثور السؤال هنا عن أي نوع من الجرائم تم هذا الإعفاء في صورة تحصين قضائي؟

أن يأتي مرسوم بقانون آخر يفسر مرسوم العفو الشامل، فإنما هو تعديل في ثوب تفسير، لأن التفسير سلطة مناطة بالقضاء، يتلمس بها قصد المشرع، محكوما بضوابط مختلفة، منها روح النص، وما استقر في القانون المقارن وقواعد العدالة، والقانون الطبيعي، والمعاهدات التي ارتبطت بها البلاد، وكلها أمور لا تساعد على تفهم ما تضمنه المرسوم بقانون رقم 56/2002 محل هذه القراءة، فضلا عن قبوله، لأنه يطوح بروح الانفتاح والشفافية وحركة الإصلاح التي تضمنها ميثاق العمل الوطني، الذي صوت عليه المواطنون بنسبة قريبة من الإجماع، حتى غدت تلك النسبة شعارا للمملكة، وأي اتجاه بخلاف ذلك يعد انتكاسة غير مأمونة العواقب.

أما القول إن هذا التفسير التشريعي يجد سنده فيما للمشرع من سلطة إصدار التفسيرات التشريعية، فهو قول يحمل الكثير من المغالطات، إذ ان التفسير التشريعي تحوطه الكثير من القواعد والمبادئ التي استقر عليها فقهاء القانون. فبادئ ذي بدء، لا يلجأ إلى التفسير التشريعي إلا إذا كنا بصدد نص ران عليه غموض يخشى معه التباس فهمه على المخاطبين به، أما النص الواضح فلا يوضح، لقول الشاعر:

وإذا استطال الشيء قام بنفسه

وصفات ضوء الشمس تذهب باطلا

وقول آخر:

وكيف يصح في الأذهان شيء

متى احتاج النهار إلى دليل

وبالرجوع إلى نصوص المرسوم بقانون رقم 10 / 2001 نجدها كالشمس الضاحية لا تستدعي التفسير. كما أن التفسير التشريعي يقصد منه أن يرفع غموضا في نص قائم، لا أن يضيف أحكاما جديدة كما هي الحال التي نحن بصددها. هذا فضلاَ عن أن التفسير لابد أن يكون كاشفا عن الإرادة الحقيقية للمشرع وقت التشريع، إذ يشعر المشرع بوجوب إصدار تفسير لتشريعه بمجرد أن يكتشف الالتباس أو الغموض. أما ما نحن بصدده فلا يستقيم مع هذا السياق، ذلك أن ظروف إصدار العفو، وما أثير بشأنه من نقاش كفيل بأن يقف المشرع ليكشف عن إرادته الحقيقية بتفسير تشريعي بعد أسبوع أو قل شهرا تاليا لإصدار التشريع الذي ظهر غموضه أو التباسه على المخاطبين به، قطعا لدابر الجدل والبلبلة. أما أن يتراخى المشرع لمدة 20 شهرا، فإنه يعكس حالا غير التي سبقت، ولا نكون بصدد تفسير بل بصدد تعديل قانوني ألبس ثوب التفسير. وهو ما يتعارض مع النهج الإصلاحي الذي اختطه الملك في مشروعه والذي غدا سمة لعهده في الحكم.

وإذا قيل إن وصف المرسوم بقانون رقم 56/2002 بتفسير المرسوم بقانون رقم 10/2001 ، بالمعفي للموظفين العموميين من جرائم التعذيب التي اقترفوها بحق المواطنين الذين نسبت إليهم أفعال ماسة بالأمن الوطني، وصف مبالغ فيه، أو انه تحليل غير دقيق، فإن المرجع والعمدة هو نص المرسوم بقانون ذاته، إذ ينص في مادته الأولى على أنه: (… ويقصد بعبارة «لا تسمع الدعاوى المترتبة عن العفو الصادر بموجب هذا القانون، والمراسيم والأوامر التي صدرت في هذا الشأن» الواردة في ذات الفقرة «عدم سماع أية دعوى تقام أمام أية هيئة قضائية، بسبب، أو بمناسبة الجرائم محل العفو، أيا كان شخص رافعها، وأيا كانت صفة المقامة ضده، سواء كان مواطنا عاديا أو موظفا مدنيا أو عسكريا، وأيا كانت مساهمته في تلك الجرائم، فاعلا أصليا أو شريكا، وذلك خلال الفترة السابقة على العمل بهذا القانون»). فهذا النص يحصن مقترفي جرائم التعذيب من القضاء. فإذا كان واجب الدولة الحديثة إنشاء سلطات يتمكن الأفراد من خلالها من اقتضاء حقوقهم الأمر الذي يمنع عليهم اقتضاء حقوقهم بأنفسهم. ولما كان المشرع البحريني، بهذا التعديل التشريعي الذي ألبس ثوب التفسير، يمنع القضاء من نظر الجرائم الصادرة عن مقترفي جرائم التعذيب، فإن ذلك لا يمكن أن يفسر إلا أنه إعفاء لهم عن جرائمهم التي ارتكبوها من دون إحالتهم إلى القضاء، وإن عبر عنه بتعبير «عدم سماع الدعاوى» الذي يحمل في طياته التحصين ضد القضاء. إذ لا قيمة للحق من دون دعوى يسمعها القضاء لإسباغ الحماية القانونية على الحق أو المركز القانوني الذي تعرض للانتهاك.

بل إن الأمر لا يخلو من الإشكالات حتى لو سلمنا بأن هذا المرسوم بقانون محل القراءة مجرد تفسير للمرسوم بقانون بشأن العفو الشامل، وأن التفسير يقتضي عدم سماع الدعاوى، أو بتعبير آخر منع القضاء من نظر هذه الدعاوى، أو بتعبير أصرح التحصين من المحاكمة أمام القضاء. فإن هذا التكييف لا يستقيم مع النصوص الدستورية الخاصة بتنظيم الحقوق والحريات العامة. بل يعد مخالفة للمبادئ التي نصت عليها دساتير البحرين، وسائر دساتير الأمم المتمدينة في الديمقراطيات العريقة، والمواثيق الدولية التي انضمت إليها مملكة البحرين، كما سلف بيانه في البندين 3 و4، إضافة إلى ما نظمه الدستور من ضمان وكفالة حق التقاضي المنصوص عليه في المادة(20/و) في دستوري البحرين وميثاق العمل الوطني، (المقومات الأساسية للمجتمع، البند ثانيا، الفقرة الخامسة). خصوصا إذا ما أعملنا روح المادة 31 من الدستورين التي تحظر على المشرع العادي، فضلا عن الاستثنائي، المساس بجوهر الحق المنظم في الدستور.

ومع ذلك وإن أمكن القول بتحقق الحماية القانونية المحلية، لمن ارتكب جرائم تعذيب مع المتهمين الذين حقق معهم، أو أصدر بذلك أوامر لمرؤوسيه، أو علم أن مرؤوسيه يمارسون التعذيب مع المتهمين، ولم يمنعهم من ارتكابه، وهو ما يعرف بالأمر بالتعذيب بطريق الترك، أو الامتناع، وهو أكثر الفروض وقوعا في العمل، لأنه متى اتصل علم الرئيس بوقوع التعذيب، وهو دائما متصل، ولم يأمر مرؤوسيه بالكف عن تعذيب المتهم، فإن الرئيس يكون هنا قد عبر عن إرادته بتعذيب المتهمين، وهو جوهر الأمر بالتعذيب المحرم شرعا وقانونا وخلقا، والمنهي عنه من قبل المشرع الدستوري والمواثيق العالمية التي انضمت إليها البحرين، بما فيها الميثاق العالمي لحقوق الإنسان، والاتفاق الدولي لمناهضة التعذيب، والمعاقب عليه من قبل القوانين في سائر الأمم المتمدينة، بوصفه جناية لا تسقط بالتقادم، فإن أمكن حماية من وقعت منهم جرائم التعذيب فإنها حماية محلية قاصرة على إقليم مملكة البحرين وستظل الملاحقة الجنائية الدولية ممكنة كلما حيل بين المجني عليه والوصول إلى حقه في مقاضاة معذبيه في وطنه، وسيستفيد من وقع عليهم التعذيب بالإقرار التشريعي بوقوعه بدليل صدور المرسوم الذي يقضي بالعفو عمن ارتكبه، حائلا بين الضحية وحقها في مقاضاة جلادها، وهي مخالفة دستورية أخرى في المرسوم محل المناقشة، لأن المادة 38 من الدستور وضعت فيما وضعت من قيود على صدور لوائح الضرورة، أو المراسيم بقوانين قيد عدم مخالفة الدستور. فإذا ما صدر تشريع ما، يعفي هذا النوع من المجرمين من العقاب، على رغم خطرهم على البناء الاجتماعي والسلم الأهلي، فلا وسيلة للمجني عليهم سوى اللجوء إلى قضاء الدول التي يمد قانونها، وقضاتها سلطاتهم لملاحقة هذا النوع من المجرمين بغض النظر عن جنسياتهم وزمان ومكان وقوع جريمتهم تلك باعتبارها جرائم ضد البشرية، وسيكون من مارسوا التعذيب هنا، كالمستجيرين من الرمضاء بالنار، وسيظلون في البحرين رهن الإقامة الاختيارية، ظاهريا، الإجبارية واقعيا، مسكونين بهاجس الملاحقة الجنائية الدولية. «ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب»

إعادة نشر بواسطة محاماة نت