متى يكون العقد إداريا؟
المحامي صلاح بن خليفة المقبالي

كثيراً ما نسمع في الأخبار على التلفاز أو الصحف اليومية عن عقود تبرمها الحكومة بمئات الآلاف أو الملايين من الريالات، وهذه العقود يستخدم معها مصطلح عقود حكومية، فهل هي بذات معنى العقود الإدارية؟ وما هي العقود الإدارية؟ وكيف يمكن تمييزها عن العقود المدنية؟ وهل كل العقود التي تكون الدولة طرفاً فيها تكون عقوداً إدارية؟ والإجابة عن كل هذه التساؤلات تحتاج إلى بحث شامل وموسع، لكننا في هذه الزاوية عبر “أثير” سنتطرق إلى بيان مدلول العقد الإداري ومتى يمكن أن نعدّ العقد إداريا من عدمه.

بدايةً نعرج على تعريف العقد الإداري حيث لم يتطرق المشرع العماني إلى وضع تعريف خاص له عند إصدار قانون محكمة القضاء الإداري الصادر بالمرسوم السلطاني رقم (91/99) أو تعديله الذي تم بموجب المرسوم السلطاني رقم (3/2009)، وترك الأمر مفتوحاً لاجتهاد الفقه والقضاء في وضع تعريف له، وحسناً فعل المشرع إذ إن فكرة العقد الإداري تتسم بالمرونة والتطور بشكل يواكب حالات الطفرة الاقتصادية حول العالم، وعلى ذلك فإن ترك الأمر لوضع التعريف لاجتهادات الفقه والقضاء أمر حسن لسهولة تعديل التعريف من وقت لآخر بكل يسر وفق ما يواكب التقدم والتطور وذلك على خلاف النصوص التشريعية التي تحتاج إلى مزيد من الوقت والجهد لتعديلها وتتسم بطابع الجمود، ومن منطلق ذلك فقد عرفت محكمة القضاء الإداري العمانية في أحدث مجموعة مبادئ قانونية صادرة عنها للعام القضائي الرابع عشر، بأن ” المستقر عليه فقهاً وقضاء أن العقد الإداري هو العقد الذي يبرمه شخص من أشخاص القانون العام بقصد إدارة مرفق عام أو بمناسبة تسييره، وتظهر من خلاله النية في الأخذ بأسلوب القانون العام وذلك بتضمين العقد شرطاً أو أكثر من الشروط غير المألوفة في مجال عقود القانون الخاص” (ص1260).

وعلى ذلك فإن العقد الإداري هو عقد لكي ينعقد صحيحاً يجب أن تتوفر به مجموعة من الأركان والشروط الخاصة، فلابد أن يكون العقد الإداري مستجمعاً لكافة أركان العقد العامة المتمثلة في الرضا والمحل والسبب حاله في ذلك حال العقد المدني لكنهما يختلفان من حيث النظام القانوني الذي يخضع له كل منهما، وسبب ذلك يرجع إلى كون الإدارة تعد طرفاً في هذا العقد فهي تبرم العقد باعتبارها سلطة عامة تتمتع بامتيازات لا تتوفر للمتعاقد معها وذلك بهدف تحقيق أهداف وغايات المرفق العام الذي تم إبرام العقد من أجله، ويضاف إلى الأركان الأخرى ركن خاص يتعلق بالعقد الإداري وهو ركن الشكل، وذلك خروجاً عن الأصل العام في العقود التي في أصلها تنعقد صحيحة بمجرد أن تستجمع أركانها الثلاثة المتقدمة، وتصبح بذلك واجبة التنفيذ حتى وإن كانت غير مكتوبة، أما العقد الإداري فإنه لا ينعقد صحيحاً إلا باتباع الشكليات المرسومة قانوناً لإبرام هذا النوع من العقود ومتى ما خالفت الجهة الإدارية هذا الشرط فإن العقد لا ينعقد صحيحاً ويترتب عليه بطلان العقد.

وكما تساءلنا بداية في مطلع هذه الزاوية فهل كل العقود التي تبرمها الدولة تعد عقوداً إدارية؟ إن إجابة هذا التساؤل محل خلاف دار بين فقهاء القانون والقضاء الإداري ولا يزال محل خلاف، ولا يسع المقام للتطرق إليه، لكن خلاصة القول إن الفقه والقضاء الإداري العماني وفق التعريف المتقدم للعقد الإداري يخلصون إلى وجود ثلاثة معايير لتمييز العقود الإدارية وهي على النحو الآتي:

أولاً: أن تكون الإدارة طرفاً في العقد: إن هذا الشرط هو شرط بديهي أن يتوفر بالعقد الإداري وذلك بأن تكون الجهة الإدارية أحد أطراف العقد، فلا يمكن أن تعد المؤسسات الخاصة أو الشركات والأفراد الطبيعيون وهم يبرمون عقوداً أن تكون عقودهم عقوداً إدارية، إلا أن هذا الشرط لا يتشدد فيه كثيراً فبإمكان شخص آخر أن يقوم بالوكالة بإبرام عقد يمكن أن يعد عقداً إدارياً، شريطة توافر العنصريين الآخرين أو أحدهما.

ثانياً: أن يرتبط العقد بالمرفق العام: والمرفق العام هو ذلك التنظيم الذي تنشئه الدولة وتقوم بإدارته سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة بهدف تلبية حاجة عامة تحقيقاً للصالح العام، وعليه فإن العقد لا يمكن أن يعد إدارياً إلا إذا ارتبط بالمرفق العام سواء وجدت معه عناصر أخرى أم لا، وذلك وفق الجانب من الفقه الذي قال بأن هذا المعاير هو المميز للعقد الإداري، وهم في هذا الصدد يدخلون المعيار الأول ضمن هذا المعيار إذ المرافق العامة تنشأ وتدار من قبل الجهاز الإداري بالدولة، وعلى ذلك اكتفوا بالأخذ بهذا المعيار لوحده، لكنه ليس بكاف لتمييز العقد الإداري عن العقد المدني أن يكون هذا العقد مرتباً بمرفق عام، فالإدارة ذاتها قد تبرم عقوداً مدنية خروجاً عن أصل تعاملاتها بالعقود الإدارية وذلك لما تتسم به التعاملات المدنية من سهولة ويسر وتعد أخف من ناحية الالتزامات التي تقع على كاهل كل طرف فيها بالمقارنة مع العقود الإدارية، وبذلك اشترط القضاء لزاماً وعلى قدم المساواة أن تكون العقود الإدارية متصلة بالمرفق العام وكذلك أن تتضمن شروطاً استثنائية غير مألوفة في روابط القانون المدني، وهذا هو المعيار الثالث المميز للعقود الإدارية.

ثالثاً: أن تتوفر بالعقد الشروط الاستثنائية: وهي الشروط التي تمنح أحد المتعاقدين حقوقاً أو تحمّل المتعاقد الآخر التزامات غير مألوفة في روابط وعقود القانون المدني، الروابط الخاصة بين الأفراد الطبيعيين والمعنويين، فليس بكاف كما أشرنا سلفاً أن تكون الإدارة طرفاً في العقد وأن يتصل بمرفق عام، بل يجب أن يكون هناك نية واضحة من العقد إلى الأخذ بأسلوب القانون العام في التعاقد، وذلك يظهر في صورة الشروط الاستثنائية في العقد، والتي إن وجدت في العقود الخاصة لاعتبر معها العقد مخالفاً للنظام العام مثلاً، ومثالها سلطة فسخ العقد بالإرادة المنفردة، أو سلطة تعديله بالإرادة المنفردة، أو أن يكون المتعاقد مع الإدارة ملزما بتنفيذ التزامه العقدي حتى وإن أخلت الجهة الإدارية بالتزاماتها، وهذه الشروط متى ما وجدت في عقد يتبع فيه أسلوب القانون الخاص أو عقد مدني فإن هذا العقد يكون باطلاً أو قابلاً للإبطال بحسب الأحوال، وليس جميع الشروط الاستثنائية الواردة بالعقد تكون التزامات على المتعاقد مع الجهة الإدارية فإن منها حقوقا له غير حقه في اقتضاء الثمن عن العقد الذي يختلف من عقد إلى آخر بحسب طبيعته وتختلف آلية تقاضيه عن آلية تقاضي الثمن في العقود الخاصة، فإن من بين الحقوق الاستثنائية هي حق إعادة التوازن المالي للعقد إذا ما طرأت ظروف أدت إلى إثقال كاهل المتعاقد مع الجهة الإدارية – وللفقه القضائي نظريات في ذلك سنطرق إليها في زاوية خاصة – فيكون من حقه طلب إعادة التوازن المالي للعقد إما بالتوافق مع الجهة الإدارية أو عن طريق القضاء، وقد اعتبر جانبا من الفقه أن الشروط الاستثنائية هي المعيار الحقيقي والعامل الأبرز في تمييز العقد الإداري عن العقد المدني، والمتتبع لأحكام القضاء الإداري يجد أن القضاء لا يأخذ بمعيار وحيد لتمييز العقد الإداري وإنما يجمع بين معياري اتصال العقد بالمرفق العام الشروط الاستثنائية.

وخلاصة القول: ليس جميع العقود التي تبرمها الدولة تعد عقوداً إدارية إلا إذا توافرت الشروط المميزة للعقد الإداري بأن كان متصلاً بمرفق عام وتم التعاقد بأسلوب القانون العام بأن برزت بالعقد شروط غير مألوفة في روابط القانون الخاص، وخير مثال في ذلك عقود الإيجار التي تبرمها الدولة سواءً كانت مؤجرة أم مستأجرة فهي إن لم تتضمن شروطاً استثنائية فإنها تبقى عقودا مدنية تختص محاكم مجلس الشؤون الإدارية للقضاء بنظرها، وإن تضمنت شروطاً استثنائية – وهي نادرة في هذا النوع من العقود – فإن محكمة القضاء الإداري هي التي تختص بنظر المنازعات الناشئة عن هذا العقد.

إعادة نشر بواسطة محاماة نت