مسألة مشروعية الدستور وضوابط التشريع

موجز الدراسة

باتت الإحاطة بعموميات العملية التشريعية أمرا واجبا لترشيد المشرع فى الحاضر والمستقبل.

وثمة اسئلة جوهرية لابد من طرحها من وجهة النظر العلمية البحتة.
السؤال الأول والمحورى هو: هل توجد مبادىء حاكمة للتشريع تكون السلطة التشريعية مقيدة بها وتضفى على عملها صفة المشروعية؟ الاجابة على هذا السؤال طبعا بالايجاب إذ ان السلطة التشريعية تتقيد فى تشريعاتها بقواعد الدستور النافذ والا صدرت معيبة بعيب عدم الدستورية ولكن هذه الاجابة على بساطتها لاتقدم حلا لمشكلة المشروعية فى كل جوانبها اذ يبقى سؤالان جوهريان،

أولهما عما اذا كانت هناك مبادىء أسمى من نصوص الدستور المكتوبة حاكمة للعملية التشريعية؟ والسؤال الثانى: هل يمكن أن يعاب على التعديل الدستورى اللاحق بعيب عدم الدستورية لمخالفته هذه المبادىء الأسمى؟

التأسيس للمبادئ العليا

من الناحية التاريخية كانت صياغة مبادىء عليا تسمو على القانون الوضعى النافذ أحد الهموم التى انشغل بها الفكر القانونى والسياسى فى مختلف العصور، كان الالحاح على صياغة هذه المعايير العليا يشتد فى الاوقات التى يتوحد فيها التشريع مع ارادة السلطة السياسية على نحو لايسمح لاشواق الناس العاديين عن العدل والحرية أن تجد تعبيرا عنها بشكل كامل فى التشريع الوضعى،

كان البحث فى القانون الطبيعى الذى يسموعلى القانون الوضعى ويضفى عليه المشروعية أحد أبرز أسهامات الفكر القانونى والسياسى فى الارتفاع بفكرة المشروعية عن المستوى القانونى الوضعى لتكسب طابعا فلسفيا يسهم فى نزع رداء المشروعية عن القانون الظالم ولو كان صادرا وفقا لمعايير الشرعية الشكلية المعتمدة وفى هذا الاطار تندرج أفكار ارسطو عن القانون الطبيعى، وأفكار القديس توماس الأكوينى عن القانون الأزلى والإلهى والطبيعى، وافكار جان جاك روسو وجون لوك عن العقد الاجتماعى، وأفكار فقهاء المسلمين عن المقاصد الشرعية، باعتبارها جميعا أفكارا تهدف الى تقييد السلطة التشريعية الوضعية حتى لاتكون مطلقة اليد فى أمور التشريع استنادا الى ارادتها المطلقة.

الجهد الفقهى المعاصر

على أن ابرز المحاولات المعاصرة فى تأكيد سمو العدل على التشريع تتمثل فى الجهد الفقهى البارز الذى بذله العلامة الفرنسى دوجى الذى يقول فى عبارة بليغة “كلما تقدمت بى السن وزدت دراسة للقانون وتعمقا فيه ازددت اقتناعا بأن القانون لم تخلقه الدوله، بل هو شىء خارج عنها، وبأن فكرة القانون مستقلة كل الاستقلال عن فكرة الدولة، وبأن القاعدة القانونية تفرض طاعتها على الدولة كما تفرض طاعتها على الافراد.

ويخرج دوجى من ذلك بنتيجة مؤداها أن الدولة تخضع لقاعدة قانونية أعلى منها، لاتملك لها خلقا ولا تستطيع لها خرقا.

يريد دوجى أن يقول لنا إن سلطة التشريع التى تمارسها الدولة الحديثة محكومة بقواعد قانونية أعلى غير مكتوبة، قواعد مستقرة فى الضمير الاجتماعى أو ما يطلق عليه مبدأ التضامن الاجتماعى، ولا تستطيع الدولة أن تتحلل منها بمقولة اطلاق سلطتها التشريعية ولو كانت هذه السلطة الأخيرة سلطة الأغلبية.

الجهد الفقهى المصرى

فى منتصف القرن الماضى حاول فقيه مصر البارز عبد الرزاق السنهورى أن يصوغ نظرية حاكمة للسلطة التشريعية فنشر بحثا بعنوان (مخالفة التشريع للدستور والانحراف فى استعمال السلطة التشريعية – مجلة مجلس الدولة 1952) نتوقف فيه عند مفهومه عن الانحراف فى التشريع، والفرض هنا أن التشريع قد صدر شكلا موافقا لأحكام الدستور المكتوب ولكن السلطة التشريعية قد انحرفت به عن ضوابطه الحاكمة المتمثلة فى مجموعة من المبادىء غير المكتوبة التى تنطبق على التشريع العادى والدستورى على حد سواء.

معايير تقييم التشريع

ماهى المعايير التى يقترحها السنهورى للقول بوجود انحراف فى استعمال السلطه التشريعيه؟

يتوجس السنهورى من تطبيق معيار استهداف المصلحة العامة على اعمال السلطة التشريعية ويفضل تبنى معايير أكثر موضوعية لتقييم التشريع:

المعيار الأول يرجع الى طبيعة التشريع ذاته بأن يكون فى جوهره عاما مجردا فاذا صدر التشريع مفتقرا فى الواقع الى صفة العمومية والتجريد حتى ولو كان فى ظاهره عاما مجردا فهو تشريع باطل. يقول السنهورى “ومعيار الانحراف هنا معيار موضوعى بحت اذ لسنا فى حاجه الى الكشف عن النوايا المستترة التى اقترنت بهذا التشريع، وحسبنا ان نثبت انه لم يطبق إلا فى حالات فردية بالذات وأن هذا كان واضحا كل الوضوح للبرلمان عند اصداره له”.

المعيار الثانى ان يحدد الدستور للمشرع غرضا معينا فيتجاوز المشرع الغرض الذى رسمه الدستور له. مثال ذلك اذا حظر الدستور وقف الصحيفة أو الغاؤها الا لوقاية النظام الاجتماعى، فاذا جاء المشرع ليتوسع فى مفهوم وقاية النظام الاجتماعى توصلا الى التوسعة فى وقف الصحف أو الغائها كان منحرفا فى استعمال السلطة التشريعية.

المعيار الثالث يتمثل فيما اذا خرج المشرع عن كفالة الحقوق والحريات العامة وقام بتقييدها تحت ستار التنظيم.

على أن اهم المعايير من وجهة نظرنا أن يخالف المشرع مبادىء الدستور العليا والروح التى تهيمن على نصوصه (نظرية القانون الأعلى) فاذا كان الدستور يعلى من قيمة الفردية وجاء المشرع ليبخس الفرد حقه دون مقتض، أو كان الدستور يكرس نظام التعددية الحزبية وجاء المشرع ليكرس هيمنة حزب واحد على باقى الاحزاب أو كان الدستور يضع السلطة القضائية فى وضع مستقل وجاء المشرع بنصوص تؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر على هذا الاستقلال، فى مثل هذه الحالات وغيرها يعتبر المشرع منحرفا فى استعمال السلطة التشريعية لمخالفته روح الدستور ومبادئه العليا.

والملاحظ على السنهورى فى بحثه هذا تردده واحجامه عن صياغة معايير للانحراف فى استعمال السلطة فى نوايا المشرع المضمرة، وهذا موقف مفهوم فى وقت لم يكن قد تبلور فيه فقه الرقابة الدستورية بعد، ومع ذلك فلاشك فى ان نظرية السنهورى قابلة للتطوير فى ضوء مستجدات الفقه الدستورى ومعطيات السياسة.

الختام

وما يهمنا قوله فى الختام ان سلطة المشرع ليست سلطة مطلقة فى التشريع، وان الأغلبية البرلمانية التى تسيطر على المجلس التشريعى ليست مطلقة اليد، بل هناك قيود وضوابط تتمثل فى الالتزام بمعايير عليا سواء عند وضع التشريع العادى او الدستورى.

ومن هنا فلا مانع فى نظرنا أن توصف بعض نصوص الدستور بانها نصوص غير دستوريه اذا شابها عيب من العيوب السابقة رغم مفارقة أن يكون الدستور غير دستورى.

منفقول لــــــــ
الكاتب د. محمد نور فرحات
فى مسألة مشروعية الدستور وضوابط التشريع