قراءة في تمييز الشرط الجزائي عما يشتبه به من أوضاع قانونية أخرى .

1- الشرط الجزائي، والالتزام الشرطي:

تسمية “الشرط” تستخدم في المُصطلح القانوني بمعاني عديدة، فقد يُقصد به الدلالة على جزء من مضمون ما اتفق عليه المتعاقدان، أي جزء من التصرف القانوني أو بند من بنود العقـد([11]). وقد يُقصد به “وصف” للالتزام.([12])،([13])

و”الشرط الجزائي” هو اتفاق يُحدد بموجبه المتعاقدان مُسبقاً مقدار التعويض عند عدم التنفيذ، فهو بند من بنود العقد.

أما “الالتزام الشرطي” فهو التزام يرتبط في وجوده أو زواله بأمر مُستقبل غير مُحقق الوقوع، أي هو التزام مشروط، والشرط فيه (كوصف للالتزام) قد يكون “شرطاً واقفاً”([14]) يترتب على تحققه وجود الالتزام، وقد يكون “شرطاً فاسخاً”([15]) يترتب على تحققه زوال الالتزام.

والتفرقة بين الشرط كوصف والشرط كجزء من مضمون التصرف (أو الاتفاق) تفرقة أساسية، ولذا يجب أن تكون واضحة كل الوضوح، فالشرط كوصف يُعلق على تحققه وجود الالتزام أو زواله، هو واقعة خارجة عن غايات المُتعاملين، أي كما يقول الفقه، عنصر عرضي في الاتفاق، ولا يحمل تعليق نشوء الالتزام عليها (في الشرط الواقف مثلاً) أي قصد إلى الحصول على مُقابل مُعين. وبذا لا يدخل الاتفاق عليها في مضمون العقد، بخلاف الحال بالنسبة لما يسمى بنود العقد، فهي أعباء يتم الاتفاق على تحمل طرف العقد بها كمُقابل لالتزام على الطرف الآخر.([16])

بينما يقول السنهوري أن: “الشرط الجزائي – كتعويض – هو التزام تابع للالتزام الأصلي، وهو التزام مُعلق على شرط لأنه لا يُستحق إلا إذا أصبح تنفيذ الالتزام الأصلي مُستحيلاً بخطأ المدين([17]). وأن تكييف الالتزام بأنه التزام شرطي أو بأنه شرط جزائي يُنظر فيه إلى نية المُتعاقدين.([18])

2- الشرط الجزائي والتهديد المالي ( Les Astreintes ):

تتلخص وسيلة التهديد المالي (التي نظمتها المادتان 213 و 214 من القانون المدني المصري) في أن القاضي يلزم المدين بتنفيذ التزامه عيناً في خلال مدة معينة، فإذا تأخر في التنفيذ كان مُلزماً بدفع غرامة تهديدية عن هذا التأخر، مبلغاً مُعيناً عن كل يوم أو كل أسبوع أو كل شهر أو أية وحدة زمنية أخرى أو عن كل مرة يأتي عملاً يخل بالتزامه، وذلك إلى أن يقوم بالتنفيذ العيني أو إلى أن يمتنع نهائياً عن الإخلال بالالتزام. ثم يرجع إلى القاضي فيما تراكم على المدين من غرامات تهديدية، ويجوز للقاضي أن يخفض هذه الغرامات أو أن يمحوها بتاتاً.([19])

ومما تقدم نستطيع أن نميز بين التهديد المالي والشرط الجزائي من الوجوه الآتية:

فالتهديد المالي يحكم به القاضي، أما الشرط الجزائي فيتفق عليه الدائن والمدين.

والتهديد المالي “تحكمي” لا يقاس بمقياس الضرر، وإنما يُقصد به التغلب على عِناد المدين، فينظر إلى موارده المالية وقدرته على مُقاومة الضغط، أما الشرط الجزائي فالأصل فيه أن يقاس بمقياس الضرر.

والتهديد المالي “حكم وقتي تهديدي”، فهو لا يقبل التنفيذ إلا إذا حول من غرامة تهديدية إلى تعويض نهائي. أما الشرط الجزائي فليس بوقتي ولا تهديدي، وإنما هو اتفاق قابل للتنفيذ بحالته. وإذا جاز تخفيض الشرط الجزائي للمُبالغة في التقدير، فالأصل فيه عدم التخفيض، أما التهديد المالي فالأصل فيه التخفيض، لأنه يكون عادة أزيد بكثير من الضرر الحقيقي، فيغلب تخفيضه عند تحويله إلى تعويض نهائي.

وليس التهديد المالي إلا وسيلة غير مباشرة للتنفيذ العيني، أما الشرط الجزائي فعلى العكس من ذلك يتصل بالتعويض لا بالتنفيذ العيني.

والتهديد المالي يقدر عن كل وحدة زمنية أو عن كل مرة يخل فيها المدين بالتزامه. أما الشرط الجزائي فلا يُقدر على هذا النحو إلا إذا كان تعويضاً عن تأخر المدين في تنفيذ التزامه، فإذا كان تعويضاً عن عدم التنفيذ فإنه يُقدر عادة مبلغاً مقطوعاً (Forfaitaire).

ومن المُقرر في قضاء محكمة النقض المصرية أن: ” مُؤدى النص المادة 213/2 من القانون المدني أن الغرامة التهديدية وسيلة للضغط على المدين لحمله على تنفيذ التزامه تنفيذاً عينياً كلما كان ذلك ممكناً، ومن ثم فهي ليست تعويضاً يقضى به للدائن ولكنها مبلغ من المال يقدر عن كل وحدة زمنية يتأخر فيها عن تنفيذ هذا الالتزام أو عن كل مرة يخل به، فهي ليست مبلغاً يقدر دفعة واحدة، حتى يتحقق معنى التهديد، ولا تقرر إلا بحكم القاضي بناء على طلب الدائن، ويتفرع على ذلك أن الحكم بها يُعتبر وقتياً لأن القاضي يجوز له أن يزيد في مقدارها إمعاناً في تهديد المدين لحمله على التنفيذ أو العدول عنها إذا رأى أنه لا جدوى منها ومن ثم تختلف عن الشرط الجزائي الذي يجوز بمقتضاه للدائن والمدين أن يتفقا مقدماً على التعويض المُستحق لأولهما في حالة ما إذا لم يقم الثاني بالوفاء بالتزامه، هو سبب استحقاق التعويض لا الشرط الجزائي الذي يترتب على وجوده في العقد اعتبار الضرر واقعاً في تقدير المتعاقدين ومن ثم لا يكلف الدائن بإثباته كما يفترض معه أن تقدير التعويض على أساسه يتناسب مع الضرر الذي أصابه ولا يكون على القاضي إلا القضاء به إلا إذا أثبت المدين أن الدائن لم يلحقه ضرر أو أن التقدير كان مبالغاً فيه إلى درجة كبيرة إذا يكون له في تلك الحالة ألا يقضي بالتعويض أو يخفضه إلى الحد المناسب”.([20])

3- الشرط الجزائي والعربون ( Les Arrhes ):

إذا كانت دلالة العربون هي جواز العدول عن العقد([21])، فإنه يجوز لكل من المتعاقدين أن يرجع في العقد بعد إبرامه نظير دفع مبلغ العربون، فيُشتبه العربون بالشرط الجزائي من هذه الناحية، وقد يُحمل العربون على أنه شرط جزائي لتقدير التعويض في حالة العدول عن العقد.

ولكن الفرق كبير بين العربون والشرط الجزائي، ويظهر هذا الفرق في النواحي التالية:

العربون هو المُقابل لحق العدول عن العقد، فمن أراد من المُتعاقدين أن يعدل عن العقد كان ذلك في مُقابل دفع العربون، أما الشرط الجزائي فتقدير لتعويض عن ضرر قد وقع ويترتب على ذلك أن الالتزام بدفع العربون قائم حتى ولو لم يترتب على العدول عن العقد أي ضرر، أما الشرط الجزائي فلا يُستحق إلا إذا وقع ضرر للدائن.

والعربون لا يجوز تخفيضه، سواء كان الضرر الذي أصاب المُتعاقد الآخر من جراء العدول عن العقد مُناسباً للعربون أو غير مُناسب، بل يجب دفع مبلغ العربون كما هو حتى ولو لم يلحق الطرف الآخر أي ضرر من العدول عن العقد. أما الشرط الجزائي فيجوز تخفيضه حتى يتناسب مع الضرر.

ويمكن تكييف العربون بأنه البدل في التزام بدلي. ففي البيع مع العربون مثلاً، يلتزم المشتري التزاماً أصلياً بدفع الثمن في مُقابل أخذ المبيع، وله إذا شاء أن يعدل عن هذا المحل الأصلي – دفع الثمن في مُقابل أخذ المبيع – إلى محل بدلي هو دفع مبلغ العربون في غير مُقابل([22]). أما الشرط الجزائي فتكييفه القانوني هو أنه تعويض اتفاقي، لا هو بالتزام تخييري ولا هو بالتزام بدلي. ومن ثم لا يكون المدين حراً – بخلاف المشتري في المثل المُتقدم – في العدول عن تنفيذ التزامه الأصلي إذا كان هذا التنفيذ مُمكناً إلى تنفيذ الشرط الجزائي، بل يتعين عليه أن يقوم بتنفيذ التزامه الأصلي إذا طُلِبَ منه ذلك. وينبغي دائماً الرجوع إلى نية المُتعاقدين لمعرفة ما إذا كانا قد أرادا بالعربون تحديد قيمة جزافية لا يجوز الانتقاص منها، أو تقدير تعويض اتفاقي يجوز إنقاصه، لا سيما إذا كان الجزاء المشروط فادحاً.([23])

4- الشرط الجزائي وغرامات التأخير في العقود الإدارية:

المُقرر في قضاء محكمة النقض المصرية أن: “الغرامات التي ينص عليها في العقود الإدارية – على ما جرى به قضاء محكمة النقض – تختلف في طبيعتها عن الشرط الجزائي في العقود المدنية، لأنها جزاء قصد به ضمان وفاء المتعاقد مع الإدارة بالتزامه بحسن سير المرفق بانتظام واطراد، وفي سبيل تحقيق هذه الغاية يحق للإدارة أن توقع الغرامة المنصوص عليها في العقد بمجرد وقوع المخالفة التي تقررت الغرامة جزاء لها، كما أن للإدارة أن تستنزل قيمة هذه الغرامة مما يكون مستحقاً في ذمتها للمتعاقد دون أن يتوقف ذلك على ثبوت وقوع ضرر للإدارة من جراء إخلال المتعاقد معها بالتزامه، ولا يجوز للطرف الآخر أن ينازع في استحقاقها للغرامة بحجة انتفاء الضرر أو المبالغة في تقدير الغرامة إلا إذا أثبت أن الضرر راجع إلى قوة قاهرة أو إلى فعل الإدارة المتعاقد معها”.([24])

وعلى ذلك، فالغرامات المنصوص عليها في العقود الإدارية تختلف عن الشرط الجزائي في أن القانون جعل من وقوع المخالفة التي تقررت الغرامة جزاء لها، قرينة قانونية لا تقبل إثبات العكس على حدوث ضرر للجهة الإدارية، وأن هذا الضرر المفترض لا يقل عن قيمة الغرامة المقررة، وبالتالي لا يجوز للمتعاقد مع الإدارة أن ينازع في هذه القرينة القانونية، فلا هو يستطيع أن يزعم عدم استحقاق الغرامة بحجة انتفاء الضرر، ولا هو يستطيع المجادلة بأن الضرر الواقع أقل من قيمة الغرامة وأن تلك الغرامة قد تمت المبالغة في تقدير قيمتها. وإن كان لهذا المتعاقد أن ينفي ركن الخطأ في جانبه بإثبات أن وقوع المخالفة التي تقررت الغرامة جزاء لها راجع إلى قوة قاهرة أو سبب أجنبي أو خطأ الإدارة ذاتها. كما أن للإدارة في حالة ما إذا كان الضرر الذي أصابها أكبر من قيمة الغرامة المقررة، ولم تستطع الحصول على مستحقاتها بالطرق الإدارية، أن تلجأ للقضاء للمطالبة باستكمال قيمة التعويض المستحق لها عما أصابها من أضرار بسبب المخالفة التي ارتكبها المتعاقد معها.

فضلاً عن أن للجهة الإدارية في حالة وقوع المخالفة التي تقررت الغرامة جزاء لها، أن توقع الغرامة بمجرد وقوع المخالفة وبدون حاجة إلى تنبيه أو إنذار أو اتخاذ أي إجراء آخر؛ فالإدارة توقع الجزاء بنفسها مباشرة دون اللجوء إلى القضاء.([25])

وقد قضت المحكمة الإدارية العليا (في مصر) بأنه: “ومن حيث أنه بالنسبة لغرامة التأخير فإنه طبقاً لما أستقر عليه قضاء هذه المحكمة فإن غرامات التأخير في العقود الإدارية تختلف عن الشرط الجزائي في العقود المدنية، وذلك أن الشرط الجزائي في العقود المدنية هو تعويض متفق عليه مقدماً يستحق في حالة إخلال أحد المتعاقدين بالتزامه فيشترط فيه ما يشترط لاستحقاق التعويض بوجه عام من وجوب حصول ضرر للمتعاقد الآخر وإعذار للطرف المقصر وصدور حكم به وللقضاء أن يحققه إن ثبت أنه لا يتناسب والضرر الذي لحق بالمتعاقد، بينما الحكمة في الغرامات التي ينص عليها في العقود الإدارية هي ضمان تنفيذ هذه العقود في المواعيد المتفق عليها حرصاً على حسن سير المرافق العامة بانتظام واضطراد، وقد نصت لائحة المناقصات والمزايدات على حق الإدارة في توقيعها بمجرد حصول التأخير ولو لم يترتب عليه ضرر ودون حاجة إلى تنبيه أو إنذار أو اتخاذ أية إجراءات قضائية أخرى، ومن ثم فالجهة الإدارية توقعها بنفسها دون حاجة إلى حكم بها إذا أخل المتعاقد بالتزامه قبلها ولا يقبل منه إثبات عدم حصول ضرر لها من تأخيره في تنفيذ التزامه فاقتضاء الغرامة منوط بتقديرها باعتبارها القوامة على حسن سير المرافق العامة”.([26])
وعلى ذلك فالغرامات المنصوص عليها في العقود الإدارية تختلف من هذه الأوجه عن الشرط الجزائي الذي يشترط فيه وقوع ضرر وسبق إنذار للطرف المقصر ولا يوقع – عند المنازعة في استحقاقه – إلا عن طريق القضاء الذي يملك تخفيضه إذا كان الضرر الحادث أقل من قيمة التعويض الاتفاقي المتمثل (المتمثل هنا في الغرامة) كما لا يملك الطرف المضرور المطالبة بأكثر من قيمة التعويض الاتفاقي إلا إذا أثبت الغش أو الخطأ الجسيم في حق الطرف المقصر.

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .