الدين … الاخلاق … القانون / فتحي الجواري
(ترابط جدلي )

لاشك ان احد اهم مصادر القانون هو تلك القواعد الاخلاقية التي استقرت في الضمير الانساني وجرى العرف على التمسك بها . ولهذا فإن القواعد القانونية من اهم وظائفها ضبط السلوك الانساني وتنظيم اتجاهاته ، فالقاعدة القانونية تقرر حقوق الانسان ومسؤوليته اتجاه الحياة الاجتماعية واتجاه غيره .

وإذا ما رجعنا الى الوراء سنجد ان القواعد القانونية ، اذ هي برزت على اسس ومفاهيم نابعة من الاخلاق ، فسنجد ان منظومة الاخلاق تكونت من العقائد الدينية التي تعتنقها شعوب العالم على الرغم من اختلافها في التصور للالوهية وامور العبادات ، إذ يجمع العقائد الدينية مباديء عامة اساسية متفق عليها لدى جميع الشعوب وسنجد ان مصدر العقائد الدينية على مختلف مسمياتها هو الله سبحانه وتعالى . وهكذا فالاخلاق اذ يكون مصدرها الدين فهي تتضمن قيما انسانية عليا تتجه نحو الكمال الاخلاقي ، فيعتنقها الناس ، ويتمسكون بها ، ويحرصون عليها من اجل ان تستقيم حياتهم .

فهذا الكون ليس جسما ماديا فحسب بل تحركه الروح الانسانية التي تنسجم في وفاق مع الخالق الاعظم لهذا الوجود ، ومن خلال هذا الترابط المنسق بين الناس على مباديء الاخاء ، والمحبة ، والوفاء ، والعدالة . فرغم ما ساد الحياة البشرية من شرور الا ان ذلك الشر لم يستطع ان يحطم ذلك الترابط بين الناس ، واستمرت المجتمعات البشرية في كل فترات تاريخها تسير بخطى حثيثة بقوة ايمانها الذي لايتزعزع بأن الخير لابد ان ينتصر وان الشر لابد أن يندحر ، والدليل على ذلك ، ان الحياة البشرية لازالت مستمرة رغم مامرت به البشرية من ويلات حتى ليظن من يطلع على قسوة ماعانته من همجية ان الحياة لم تكن لتستمر . الا ان حياة اقام بنيانها الله تعالى لن يكون مصيرها الفناء الا بأمره .(ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الارض ولكن الله ذو فضل على العالمين[1])

وهكذا التقى الدين مع الاخلاق ومن ثم مع القانون .

فالاخلاق (ايها القاريء الكريم) تمثل اهم جانب لشخصية الانسان ، وهي (أي الاخلاق) تحدد القيم والمباديء الانسانية التي يتحلى بها الانسان السوي ، فتعطيه القدرة على التمييز بين الخير والشر ، وبين الفضيلة والرذيلة ، وبين العدل والظلم . فالعدل فضيلة اخلاقية ، ومن هنا كان العدل داخلا في نطاق الاخلاق [2]. وكان للاخلاق هذه القدرة لارتباطها بالعقائد الدينية التي عرفتها البشرية كافة منذ ظهور الحياة الانسانية . ومخطأ من يظن او يعتقد ان الدين لم يرافق الحياة البشرية منذ ظهورها الاول على هذه الارض . فالدين بمختلف مسمياته وطقوسه رافق الانسان في مختلف اطوار حياته . ان الاخلاق هي النسغ الذي يحي الضمير الانساني ويبقيه حيا فعالا ، ومتى افتقد الضمير ذلك النسغ يكون قد مات ، وتعذر عليه ان يؤشر لصاحبه للاتجاه نحو العمل الصالح .

فالاخلاق تتضمن قيما ومباديء عامة محددة لاستقامة السلوك الانساني تصلح للبشر كافة دون اعتبار للزمان او المكان . فالله تعالى خلق الانسان من اجل ان يعمر هذه الارض وينشر فيها السلام والمحبة على اساس الفطرة الخيرة للانسان . ويرى بعض العلماء ان اصل فطرة الانسان تشبه كيانه الجسدي على اساس ان اصل الجسم الانساني هو الصحة وما المرض الذي يعتريه الا حالة طارئة بسبب الغذاء او الهواء ، وهكذا الاخلاق الانسانية فعوامل الشر التي تعتري الانسان عبارة عن امر طاريء على اصل فطرة الانسان [3]. فقد قال الله تعالى 🙁 لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم …[4]) وهذا دليل اكيد على ان الانسان خلق وفطرته قد طبعت على الخير وليس الشر . وقد يتحول الانسان الى الشر نتيجة عوامل مختلفة من بينها ان يحيا في مجتمع غير منظم تسوده الفوضى لان المجتمع المنظم يتحقق فيه العدل الذي هو نعمة من نعم الله على الانسان . اذ به يتحقق التوازن بين الحقوق والواجبات ، فلا تبرز الى الوجود طائفة تتمتع بامتيازات تختلف عن الاخرين ، اذ يؤدي ذلك (إن حصل) الى تولد الشعور بانعدام العدالة ، وبالتالي انعدام الاستقرار في المجتمع . فالاسلام أكد بنصوص واضحة صريحة على اهمية تحقيق العدل (ان الله يأمركم ان تؤدوا الامانات الى اهلها واذا حكمتم بين الناس ان تحكموا بالعدل[5]) . كما أكد الاسلام على المساواة بين كل افراد الامة بما فيهم من هم في اعلى المستويات عن طريق قواعد قانونية عادلة تطبق على الكل مهما كانت مواقعهم ، ويتجلى ذلك في قول رسول الله محمد (ص) : (انما أهلك من كان قبلكم انهم كانوا اذا سرق فيهم الشريف تركوه ، واذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد ، والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها[6]) . فالانسان اذا عاش في مجتمع غير منظم تسوده اللامساواة فقد تنحرف فطرته الخيرة الى الشر ، فالمجتمع غير المنظم مرتعا من مراتع الفوضى والانانية والجحود وانعدام الوفاء والظلم والفساد .

ومن العوامل المؤثرة في ابتعاد الانسان عن فطرته الحكم الظالم المتمثل بالاستبداد والزعيم الاوحد الذي يتجه الى الظلم والاستغلال الذي يولد في نفوس الناس الحقد والكراهية .

واذا كانت الفلسفة الماركسية قد دعت الى اقامة الحكم العادل الذي تختفي فيه الشرور وعوامل الانحراف والاستغلال ، فإن هذه المباديء تصلح لكل نظام حكم يحقق العدل على اساس قانوني عادل يضبط سلوك الحكام والمحكومين ويردعهم عن الانحراف ، ويؤمن للناس الامن والاستقرار والحياة .

واذ نؤمن ان العقيدة الدينية هي مصدر الاخلاق ، فإن السلوك الانساني لايصلح بمفرده ان ينظم العلاقات بين الافراد ، مهما سمت تلك القيم والاخلاق ، فلابد من وجود قواعد تنظم تلك العلاقات وتضبط اتجاهاتها ، وهذه القواعد هي القانون .

ولم تظهر تلك القواعد القانونية تلقائيا ، بل ان السلوك الانساني هو الذي مهد لظهورها بعد ان حدد الضمير الانساني الواجبات التي يجب مراعاتها في العلاقات بين البشر من خلال ما يجب وما لايجب ان يسود علاقات الافراد بهدف الوصول الى تحقيق الخير في الحياة الانسانية .

وهكذا نصل الى ان القانون ظاهرة اجتماعية ارتبط وجوده بوجود الجماعة ، نشأ معها ، وتطور بتطورها ، من اجل تنظيم السلوك الانساني للمحافظة على حقوق وحريات الافراد والجماعات ، وصيانة الامن والسلام بهدف تحقيق النظام ، والاستقرار ، والعدل في المجتمع . فالقانون غايته نفعية اجتماعية لانتظام الحياة الانسانية واستمرارها ، وهو يكون كذلك متى عبر عن ارتباطه الوثيق بالعقيدة الدينية والمعايير الاخلاقية .

انه لترابط جدلي بين الدين ، الذي لايمكن التمسك به والتعبير عنه الا من خلال وجود الاخلاق ، التي لن تسود في اي مجتمع الا اذا وجدت قواعد قانونية تنتظم السلوك الانساني المعبر عنها . ان هذا الترابط الجدلي هو الذي ساعد على استمرار الحياة الانسانية وتطورها مكونا لها اطارا يحيطها من مختلف جوانبها . فرغم ان دائرة الاخلاق اوسع واشمل من دائرة القانون الذي يوجد ويحيا من مصادر الاخلاق ، الا ان طبيعة العقيدة الدينية في ضبط وتنظيم السلوك الانساني لايمكن الاستغناء عنها لانها شاملة واساسية في تنظيم حركة الحياة الانسانية .

ان هذه الرابطة الجدلية الحية جعلت لحمة الترابط بين الدين والاخلاق والقانون قوية متلاحمة منذ الظهور الاول للبشرية . فقانون (حمورابي) الذي يمثل التقدم الحضاري الذي كانت عليه بلاد ما بين النهرين قد اعطى دليلا واضحا وجليا على ارتباط القانون بالدين والاخلاق ، حيث نظمت مواد ذلك القانون (وهي بحدود 282مادة) امور الحياة [7]. وقد جاء في مقدمة القانون ان الاله امره ان ينظم سلوك الناس ونشر العدالة بينهم كما تنشر الشمس نورها على الارض ، وبين ان الغرض من القانون تحقيق الخير والسعادة للناس ، وتضمنت خاتمة القانون كلمات تحذر الناس من مخالفة القانون لان الالهة سوف تنزل لعناتها بمن يخالفونه . ونجد ان هذا القانون استخدم كلمة (دين) بمعنى (القانون) ، حينا ، وبمعنى (حكم القانون) أحيانا أخرى . وورد فيه إسم (الحاكم) و(رجل القانون) بمعنى (ديان) ، و(القضاة) بمعنى (الديانيين) ، و(دار القضاء) بمعنى (بيت الدين) [8].

حقا انه لترابط جدلي بين الدين ، والاخلاق ، والقانون .

سورة البقرة آية 251 [1]

د.جمال مولود ذيبان – تطور فكرة العدل في القوانين العراقية القديمة (دراسة قانونية مقارنة) دار الشؤون الثقافية العامة – بغداد – 2001 – ص 24 [2]

د.سمير عبد المنعم – البعد الاخلاقي لقانون العلاقات الدولية – ط1-القاهرة- 1988 – ص 148[3]

سورة التين آية 4[4]

سورة النساء آية 58 [5]

د. محمد رأفت عثمان – الحقوق والواجبات والعلاقات الدولية في الاسلام – 1973 – مطبعة السعادة بالقاهرة – ص 54 [6]

عبدة حسن الزيات – الترجمة الكاملة لمواد قانون حمورابي عن اللغة الانكليزية – مجلة القضاء – وزارة العدلية – العراق – السنة الثانية – العدد الخامس – كانون الاول 1936 – ص ص 13 – 39 [7]

اندريه ايمارد وجانين اوبوايه – تاريخ الحضارات العام – الشرق واليونان القديمة – الجزء الاول – ترجمة فريد داغر وفؤاد ابو ريحان

الطبعة الاولى – 1964 – منشورات عويدات – بيروت – لبنان – ص 164 . وعبد الكريم العلوجي – حمورابي موحد بلاد الرافدين – الطبعة الاولى – دار الكتاب العربي – دمشق – القاهرة – 2010 – ص ص 44 – 46 . [8]

إعادة نشر بواسطة محاماة نت