نظم المشرع الحبس كعقوبة لبعض الجرائم، كما نظمه كإجراء احتياطي في جميع الجرائم، فهو كعقوبة يُقضى به على من تثبت ادانته في جريمة من الجرائم، سواء أكانت جناية كالقتل أو السرقة بالاكراه او الرشوة او اختلاس المال العام، أم كانت جنحة كالسرقة البسيطة او النصب او إعطاء شيك بدون رصيد أو السب والقذف. ففي هذه الجرائم جميعاً قد يقضى على من تثبت ادانته فيها بعقوبة الحبس مع اختلاف في المدة، فهي في الجنحة لا تزيد على ثلاث سنوات، اما في الجناية فقد تزيد مدة الحبس المقضي بها على ثلاث سنوات وتصل الى خمس عشرة سنة. أما الحبس موضوع هذا المقال فهو الحبس الاحتياطي وهو ليس عقوبة كما قد يظن، وانما هو اجراء احتياطي أناطه المشرع بالمحقق، فهو الذي يأمر بحبس المتهم وهو الذي يأمر بالافراج عنه في أي وقت.

وقد يبدو من هذا ان المشرع منحه في هذا المجال سلطة تقديرية مطلقة، لكن من يتأمل النص يجد انه وضع ضوابط وقيودا لممارسة هذه السلطة، فقد نص على انه «اذا رؤي ان مصلحة التحقيق تستوجب حبس المتهم احتياطياً لمنعه من الهرب او من التأثير في سير التحقيق جاز حبسه احتياطياً مدة لا تزيد على ثلاثة أسابيع من تاريخ القبض عليه…» (المادة الـ٦٩ من قانون الاجراءات والمحاكمات الجزائية) ومعنى هذا انه قيد الامر بالحبس بقيد مهم هو ان تستوجبه مصلحة التحقيق، ولم يترك تحديد مصلحة التحقيق لمحض إرادة المحقق، وانما حدد صوراً لهذه المصلحة، فحصرها في صورتين فقط هما منع المتهم من الهرب، أو منعه من التأثير في سير التحقيق، فاذا كان لا يخشى فرار المتهم، أو كان لا يتصور انه في مكنته التأثير في سير التحقيق فإن الحبس لا يكون له مبرر، كما قيد سلطة المحقق في الامر بالافراج عن المتهم المحبوس بقيود مماثلة.

فقد نصت المادة الـ٧٢ من القانون ذاته على انه: «للمحقق في أي وقت ان يصدر قراراً بالافراج عن المتهم المحبوس متى وجد ان حبسه لم يعد له مبرر، وأنه لا ضرر على التحقيق من إخلاء سبيله، ولا يخشى هربه أو اختفاؤه…»، ومعنى هذا أن المشرع لم يترك أيضاً أمر الإفراج عن المتهم المحبوس لمحض اختيار المحقق وانما قيده بان يجد ان الحبس لم يعد له مبرر، وضرب أمثلة لهذه الحالة كأن يتبين انه لا ضرر على التحقيق من إخلاء سبيله أو أنه لا يُخشى من هربه أو اختفائه. والواضح من هذه النصوص ان المشرع أولى اهتماماً خاصاً بالحبس بوصفه اجراءً تحفظياً خطيرا، وتتبدى خطورته في انه يصدر قبل محاكمة عادلة تسمع فيها أقوال المتهم ويحقق فيها دفاعه، ولأنه قيد خطير على حرية المتهم، فقد أحاطه المشرع بضمانات تمنع إساءة استخدامه. فشروط الحبس أو الإفراج تتطلب من المحقق بحثاً مستفيضاً للتحقق من توافرها او عدم توافرها فهو لا يستطيع ان يقرر الحبس أو الإفراج إلا بعد ان يتحرى ظروف المتهم جميعاً ليقف على ما اذا كانت له مصالح تربطه بالبلاد بحيث تجعل هروبه أمراً مستبعداً خاصة بالمقارنة بالتهمة الموجهة اليه والعقوبة التي تنتظره في ما لو ثبتت ضده، وبعد ان يتحرى ظروف المتهم كذلك من ناحية موقعه الوظيفي او الاجتماعي ليتثبت من مدى قدرته على التأثير في مجريات التحقيق وهذا كله يتطلب من المحقق تحرزاً ودقة متناهية حتى لا يظلم احداً.

واذا كان القضاة يدققون كثيراً في الحكم بالحبس في حالة اعتباره عقوبة، فيتجنبون الحكم به في بعض القضايا او مع بعض الفئات كما هو الحال في جرائم النشر مثلاً باعتبار ان المحكوم عليه في جريمة من هذه الجرائم له ظروف خاصة، من حيث ثقافته فقد تربى على حرية النقد والتعبير وحرية ابداء الرأي حتى يستطيع ان يكشف عيوب المجتمع ويتعقبها، فمهنته هي المسؤولة عن تشكيل الرأي العام مما يستوجب اتاحة مساحة له للتحرك بحرية يتم فيها تبادل الرأي والرأي الآخر لكن في حدود مرسومة تكفل الحفاظ على كرامة الآخرين دون مساس أو تجريح. ومن ثم فإن تجاوزه لهذه الحدود يكفي لردعه توقيع عقوبة بسيطة كالغرامة مثلاً، وهذا ما سار عليه القضاء في الكويت، فنادراً ما يحكم بالحبس في جرائم الرأي، وهو الاعتبار ذاته الذي حدا بالدستور المصري أن يمنع الحبس في قضايا النشر فقد نص على انه «لا توقع عقوبة سالبة للحرية في جريمة من الجرائم التي ترتكب بطريق النشر أو العلانية..» (مادة ٧١) فإذا كان هذا هو موقف المشرع وموقف القاضي فإنه يجب ان يكون من باب أولى موقف المحقق الذي يتعين عليه ان يدقق كثيراً قبل ان يقرر حبس المتهم فلا يأمر به الا في حالة الضرورة التي تستوجبها مصلحة التحقيق!

المستشار عادل بطرس

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .