علاقة صياغة النصوص بالاجتهاد
د. عبد اللطيف القرني
تعتبر الصياغة من العوامل الفنية التي تؤثر في دلالة النص, لأن الاجتهاد – كأي جهد بشري- بحاجة إلى إطار ضابط ومجال محدد يحوي هذا الجهد، ويصوبه في الاتجاه الصحيح، ومن ثم تكون النصوص الشرعية من القرآن أو السنة أو غيرهما من النصوص القانونية وهي الإطار الضابط والمجال المحدد الذي يدور الاجتهاد في فلكه، ولذلك لا يجوز كما قال الشهرستاني بحق – أن يكون الاجتهاد مرسلاً خارجاً عن ضبط الشرع, فإن القياس المرسل شرع آخر, وإثبات حكم من غير مستند وضع آخر، والتزام المجتهد بالمعاني الموجودة في النص وفق صياغتها لا يعتبر قيداً على رغبة المجتهد في تحقيق مصلحته ومصلحة المجتمع, التي هي غاية كل عمل تشريعي؛

لأن ما قد يتوهمه المجتهد من مصلحة قد لا يكون كذلك والعكس صحيح؛ لأن المصلحة أمر نسبي طبقاً لقوانين العقل، وتختلف وتتعدد بحسب تفاوت العقل البشري، واختلاف ظروف البشر وحاجاتهم، ولذلك فإن إدراج المعاني في النص ثم تفسيرها مستقبلاً حسب الظروف يعتبر من الأمور التي تحدث التفاعل الإيجابي في النص؛ لأن المقصد من النص في النهاية هو الأحكام العملية، وهذه تحتاج إلى عملية اجتهادية تفاعلية من حركة الصياغة التي أحدثها النص القانوني، أما النصوص الشرعية فيغلب عليها وصف التجريد المطلق عن كل القيود الزمانية والمكانية والأشخاص، لذلك فصياغتها بحد ذاتها معجزة كما في النص القرآني أو في السنة النبوية، وقد ورد في الحديث الصحيح (أوتيت جوامع الكلم) لكن في غيرهما تأتي الصياغة النصية كقوة دافعة لتفسيره والاجتهاد في تحويل الإرشادات الكلية العامة إلى مشاريع مصوغة صياغة عملية تتنزل على الواقع، وتصبح الحلقة الواصلة بين الحكم النظامي العام وبين الواقع الجاري، مراعية لخصائص التشخّص فيه.

إن الصياغة الفنية للأنظمة تعتبر حركة وصل ذهنية لعملية الاجتهاد الواقعة بين النص والواقع أو الثابت والمتغير، فينشأ عن هذه الصلة تفاعل يتم بمقتضاه إضفاء عنصر الحركة على النص من خلال الحوار بينه وبين الواقع, حيث ينتج هذا الحوار عدداً من الصور النظامية المتأسسة على النص، كما يتم بمقتضاه إضفاء عنصر التسديد والترشيد على الواقع من خلال حصر وضبط حركته وفقاً لمقصد النص. ولكن هذا التفاعل يتسع ويضيق بحسب النص وصياغته لا بحسب الواقع، إذ إن الحاكمية في النهاية للنص – عند وجوده – وفي النصوص الشرعية يضيق التفاعل إلى درجة قصوى في فهم النصوص القطعية في معانيها, ذلك أن هذه النصوص هي في عمومها موجهة لحياة الإنسان المطلقة التي لا ينظر فيها إلى الظرف الزماني والمكاني باعتبارهما المحور الثابت الذي تدور عليه الحياة فيحفظ سَمْتها الأصلي المتقوّم بالحق الدائم، ويحفظ بالتالي ثبات الحقيقة الدينية واستمراريتها.

ومن أمثلة ذلك ما يتعلق بنصوص العقيدة والعبادات وأحكام الحدود فهي نصوص قطعية في أغلبها تحمل معاني يقينية متعالية عن أحداث الواقع ومتغيراته من حيث الفهم. وفي النصوص الشرعية الظنية يتسع دور الواقع في فهم النص من خلال أثر الصياغة عليه، ويكون للعقل مجال للترجيح بين الاحتمالات أو الاجتهاد وفقاً للمقاصد العامة, وحينئذٍ فإنه يمكن استخدام مجريات الواقع والمتغيرات في الترجيح والاجتهاد على أنحاء مختلفة.

ومثل ذلك في النصوص القانونية فإن الواقع له دور كبير في تفهم معطيات النصوص واكتشاف ما تختزله من معانٍ يمكن صياغتها على هيئة أحكام عملية تعالج صوراً واقعية؛ لأن النصوص وإن كانت بصياغة مجردة من أجل تنظيم حياة الناس بشكل عام لا في صورة عينية محددة لكنها في الواقع الإنساني في صورته الفردية أو الاجتماعية – لا تتسم بالتجرد وإنما تتسم بالخصوصية والتميز كما تتسم بالتغير المطرد، تبعا لسنة الله في خلقه حيث تتبدل الحياة الإنسانية باستمرار ويعاد تشكيل الواقع الإنساني في ضوء هذه السنة الكونية وفقاً لشروط الصلاح والفساد. وهذا من شأنه أن يجعل الواقع صوراً متعددة تحتاج كل صورة منها إلى وضع خاص في تنزيل الأحكام عليها بحيث تتحدد ظروف كل واقع على حدة, ويُختار لها من الأحكام ما يحقق مصلحته التي لا تخالف منهج النظام العام الذي دل عليه الاستقراء المستوحى من دستور البلد، ولدينا نحن منهج الشريعة الإسلامية هو المهيمن على كل التشريعات الأخرى.

إن الصياغة النصية للقوانين تعتبر مرحلة مهمة في عالم التشريع والتنظيم لأن لها تداعياتها في الاجتهاد والفتوى القانونية ويعتبر الإخلال بها إغلاق لميزان فقه المتغيرات والظروف، لأن الواقع بكل ما يحتويه من أفكار وعادات وأوضاع قانونية وغير قانونية وما يتميز به من البساطة أو التعقيد أو الحضارة والبداوة، وما ينشأ عنه من احتكاك بين الراكد والوافد من الفكر والثقافة وأنماط الحياة المختلفة، كل هذا وما ينتج عنه من تغير في الطبيعة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية تتطلب صياغة النصوص بما يناسب الظروف الواقعية للبيئات المختلفة، بحيث إذا اختلفت هذه الظروف تبعاً لاختلاف البيئات والأحوال فإن النصوص تحتمل معاني تتفق مع المعطيات الجديدة، وإذا تعذر حملها لكون النص القانوني جامداً، فإنه تجب المبادرة لإعادة صياغتها بما يتفق مع المعطيات الجديدة، وما يحقق ديمومة شمول النص للواقع مهما تشكّل أو تغير.

وكم تمنيت أن تؤسس هيئة عليا تعنى بالفتوى التشريعية القانونية وتتولى مراجعة كل الأنظمة والقانونين ومدى انسجامها مع معطيات الحياة الجديدة.
إعادة نشر بواسطة محاماة نت