بحث قانوني و دراسة حول الصلح الجزائي

بسم الله الرحمن الرحيم
الصلح الجزائي
الطالب أحمد أبوزنط
إشراف الدكتور
كمال العلاوين
قدم هذا البحث استكمالا لمتطلبات النجاح في مادة مشروع البحث
كلية الحقوق – الجامعة الأردنية
2008/2009

إهداء

لتلك الأرض التي رعتني بالوصال مع قسوة الهجران..
وطني
لذلك القلب الذي ألهمني التصميم في لحظات الانكسار…
أبي
لتلك الروح التي حملتني وهنا ووضعتني وهنا…
أمي
لتلك الأيدي التي أضاءت الأيام مع عتمة الزمان…
إخوتي
لؤلئك الذين يتمكنون من تحقيق وقار الذات ورزانة العدالة، نأياً عن ابتذال النفس ومجون البغي…
أساتذتي
لؤلئك الذين يعلمون كيف يكون الاجتهاد في موضع الريبة صواب وفي موضع اليقين ضرب من العبث…
زملائي

الفهرس
المقدمة……………………………………………………………………..5
المبحث الأول: ماهية الصلح الجزائي……………………………………..6
المطلب الأول
مفهوم الصلح الجزائي…………………………………………………….7
المطلب الثاني
الطبيعة القانونية للصلح الجزائي ………………………………………..10

المبحث الثاني: المصالحة الجزائية في التشريعات المقارنة…………..13
المطلب الأول
موقف الفقه الإسلامي من الصلح الجزائي ………………………………14
المطلب الثاني
موقف القوانين المقارنة من الصلح الجزائي …………………………….16
الخاتمة……………………………………………………………………19
المراجع …………………………………………………………………..20

المقدمة

الحمد لله بداية كل أمر ونهايته والشكر له على النعم وما قد يخصنا به من المحن، والحمد والشكر لله موصول على نعمة العلم، ونسأله تعالى أن ييسره لنا وأن يرزقنا الصبر والحلم.
هذا البحث يسلط الضوء على قاعدة قانونية، حديثة التطبيق في المفهوم القانوني، ضاربة القدم في النشأة التاريخية؛ الصلح الجزائي؛ تحد مستقبلي لولادة قاعدة قانونية ستهدم ثوابت النظام القانوني في أصول الإجراءات الجزائية، هذه القاعدة لم تجد لها مكانا في ظل تزاحم القوانين وتعقديها، إلا أن تطور الفكر الدولي لمفهوم الردع الجزائي من كونه آلة عقاب إلى جعله سبيل إصلاح، أدى في نهاية المطاف لتبلور دور هذه القاعدة على الصعيد الجزائي بحيث تسللت هذه القاعدة من أروقة المحاكم الحقوقية إلى صدارة الدعاوى الجزائية.

إن انتشار الصلح الجزائي بين الأنظمة القانونية للدول في الوقت الراهن لا يعدو كونه انتشار نسبي يختلف من دولة إلى أخرى وفقا لتطور السياسة التشريعية في تلك الدول، المرتبط أولا وأخيرا بتطور الفكر القانوني لدى المجتمع صاحب الحق العام من جهة، وتوفر الإرادة السياسية بإحداث تغيير جذري في الأنظمة القانونية الرجعية من جهة أخرى.
إن هذه التجاذبات بين ما كان وما سوف يكون، يفضى بالبحث إلى تركيز حزمة من النور حول مضامين الصلح الجزائي، للوصل إلى مغزى هذه القاعدة القانونية والاضطلاع على فحوى معانيها وتحديد دلالاتها، حيث أن هذه القاعدة ولمحدودية تطبيقها في الأردن وبعض الدول، ولعمومية تفعيلها في باقي الدول يدفع إلى دراسة مدى فاعلية تطبيقها من جهة وأثار العزوف عن الأخذ بها من جهة أخرى، ومن هنا تتأتى أهمية البحث في موضوع الصلح الجزائي من حيث بيان المواطن التي أخذ بها المشرع الأردني بقاعدة الصلح الجزائي كسبب لسقوط الدعوى الجزائية ومقارنة نهجه في ذلك بغيره من التشريعات.
إن نطاق البحث في هذا الموضوع يقتصر على دراسة قاعدة الصلح الجزائي كسبب مسقط للدعوى الجزائية وفق قواعد الأصول الإجرائية سواء كان في قانون أصول المحاكمات الجزائية أو في القواعد الإجرائية الأخرى المكملة لقانون أصول المحاكمات الجزائية، وينسحب نطاق البحث إلى النيابة العامة والمتهم بوصفهما أطراف الدعوى الجزائية.
سيتنقل هذا البحث بين المنهج الوصفي لنصوص القانونية تارة وبين المنهج التحليلي لهذه النصوص تارة أخرى، حيث سيتم التعرض للقوانين ذات الصلة بموضوع البحث وفق التشريع الوطني ثم سيتم عرض النصوص القانونية المقارنة لموقف المشرع الأردني.
فإذا قصرت في محاولتي المخلصة فحسبي أن الكمال لله وحده، وإن حالفني توفيق المولى فذلك منتهى الأمل وغاية الرجاء، والحمد لله بداية كل أمر ونهايته وهو من وراء القصد وإليه حسن المآل.

المبحث الأول
ماهية الصلح الجزائي

المطلب الأول
مفهوم الصلح الجزائي

الصلح بمفهومه الجزائي تتناوله تعريفات عدة تختلف في صياغتها وبعض أحكامها وذلك تبعا للطبيعة القانونية التي أصبغها المشرع على الصلح الجزائي تبعا لاختلاف الأنظمة القانونية المختلفة التي تناولت هذا الموضوع، وهذا ما سيتم التعرض له في المطلب الثاني عند الحديث عن الطبيعة القانونية للصلح الجزائي، لذا واستكمالا لتحديد مفهوم الصلح الجزائي لا بد من عرض تعريف واضح يحدد ماهية هذا الصلح.
إن الصلح الجزائي بشكل عام هو أداة لانقضاء الدعوى الجزائية وتجنب صدور حكم جزائي في الواقعة الجرمية والاستعاضة عنه بغرامة يدفعها المتهم وتحدد بموجب القانون، إن التعريف السابق يرسم ملامح الصلح الجزائي بشكل عام إلا أن التعمق في التعريفات الموضوعة من قبل فقهاء القانون سيعطي معنا أكثر تحديدا إلا أن هذا المعنى لا يمكن تعميمه وذلك لاختلاف الأنظمة القانونية للدول.
إن النظم القانونية المتبعة في الإجراءات الجزائية تتباين فيما بينها من دولة إلى أخرى؛ ففي حين أن بعض الدول تتبع النظام الاتهامي الذي يرجح المصلحة الفردية ، بحيث يكون الإجراء الجزائي وفق هذا النظام شفوي عام ومتقابل ، هنالك دول تتبع النظام التفتيشي؛ الذي يرجح مصلحة المجتمع ليكون الإجراء وفق هذا النظام سري، مكتوب وغير متقابل، إلا أن التوجه العالمي يميل إلى الأخذ بنوع ثالث من الأنظمة الإجرائية ألا وهو النظام المختلط، ففي ظل تراجع مفهوم السيادة المطلقة للدولة بحيث أصبحت هذه السيادة نسبية بدأت الدول تميل إلى الخلط بين النظام الاتهامي والتفتيشي، فعند بداية الإجراء وفي مرحلة التحقيق يميل الطابع التفتيشي على سير الإجراءات، ويبدأ هذا النظام بالتلاشي كلما اقترب الإجراء من مرحلة المحاكمة حتى يكتسب الطابع الاتهامي .

إن الصلح الجزائي وفق التعريف السابق لا يمكن تصوره في أي حال من الأحول في ظل وجود إجراءات جزائية تتسم بالطابع التفتيشي، حيث أن النيابة العامة ليس بإمكانها التصرف بالدعوى الجزائية كالتنازل عنها أو التصالح مع المتهم أو إيقاف الدعوى بعد بدء إجراءاتها أو أن تتفق مسبقا على عدم ممارسة طرق الطعن، فالدعوى الجزائية ذات صفة عامة وبمجرد تحريكها لا تستطيع النيابة العامة إيقافها ،
وهذا هو منطوق المادة الثانية من قانون أصول المحاكمات الجزائية الأردني، حيث جاء فيها
1- تختص النيابة العامة بإقامة الدعوى الحق العام ومباشرتها ولا تقام من غيرها إلا في الأحوال المبينة في القانون
2- وتجبر النيابة العامة على إقامتها إذا أقام المتضرر نفسه مدعيا شخصيا وفاقا للشروط المعينة في القانون.
3- ولا يجوز تركها أو وقفها أو تعطيل سيرها إلا في الأحوال المبينة في القانون.”
من خلال هذا النص يمكن معرفة أن النيابة العامة لا تملك الدعوى الجزائية فالمشرع استخدم عبارات مثل:” تختص النيابة العامة”، “تجبر النيابة العامة” و “لا يجوز تركها…” وفي هذا دليل واضح على أن النيابة العامة في الأردن بشكل عام لا تملك حق الصلح مع المتهم.
إلا أن هذا الأصل العام يرد عليه بعض الاستثناءات كما هو الحال بالنسبة لبعض الجرائم الاقتصادية حيث أن المشرع الأردني عرف المصالحة الجزائية وأخذ بها في مثل هذه الجرائم، كما اعتبرها سببا لسقوط الحق بالملاحقة الجزائية.
الجرائم الجمركية تعتبر من الجرائم ذات الصفة الاقتصادية وفي هذا النوع من الجرائم خرج المشرع الأردني عن السياسة الجزائية المتبعة من حيث أن الدعوى الجزائية هي حق المجتمع وليس ملكا للنيابة العامة، حيث أن المشرع في القسم الثالث من الفصل الخامس من قانون الجمارك الأردني وتحديدا في المادتين (212) و(213) منح وزير المالية أو من يفوضه عقد تسوية صلحية في جرائم التهريب أو الجرائم التي في حكمها سواء قبل إقامة الدعوى أو خلال النظر فيها وقبل صدور الحكم البدائي ، حيث أن من حق الوزير أو من يفوضه استبدال الجزاءات المنصوص عليها في قانون الجمارك بغرامات جمركية ومصادرة البضائع الممنوعة، وغير ذلك من البدائل عن العقوبات الجزائية.

كما أن المشرع الأردني سار على النهج ذاته بالمصالحة الجزائية بالنسبة لجرائم التهرب الضريبي حيث منح المشرع الحق للمدير العام لدائرة الضريبة العامة على المبيعات بإجراء مصالحة على الأفعال المرتكبة خلافا لقانون الضريبة العامة على المبيعات، حيث يترتب على ذلك وقف السير بإجراءات الدعوى وإسقاطها نهائيا وإلغاء ما قد يترتب على ذلك من أثار، كما تستحق الدائرة بموجب عقد المصالحة تعويض يكون بمثابة التعويض المدني تأخذه الدائرة كغرامة من المتهم
بعض الفقهاء اعتبروا أن حالة تقييد تحريك الدعوى الجزائية بتقديم شكوى من الضحية هي من حالات التصالح التي تؤدي إلى سقوط الدعوى الجزائية ، إلا أن الأخذ بهذا الرأي يؤدي إلى اعتبار أن جميع الجرائم التي يتم تحريكها عن طريق الادعاء المباشر هي أيضا من حالات الصلح الجزائي الذي يؤدي إلى سقوط الدعوى الجزائية، حيث أنه ووفق قانون أصول المحاكمات الجزائية الأردني جميع المخالفات والجنح التي تكون من اختصاص محكمة الصلح لا يتم تحريكها إلا عن طريق وجود إدعاء مباشر من المدعي (الضحية) ولا تختص النيابة العامة بأمر تحريكها ، فهل يتصور القول أن هذه الحالة هي عبارة عن صلح جزائي ! خاصة وأن النيابة العامة ليست طرفا في الدعوى الجزائية فكيف ستكون طرفا في عقد الصلح الجزائي، فضلا عن أنه إذا ما تم تحريك الدعوى الجزائية بناء على وجود شكوى أو إدعاء مباشر لا تملك النيابة العامة في حالة الشكوى ولا محكمة الصلح في حالة الادعاء المباشر أمر التصالح مع المشتكى عليه بل وتلزم النيابة أو محكمة الصلح بالاستمرار في الإجراءات لحين صدور حكم مبرم، وأبعد من ذلك فإنه ليس كل الجرائم التي يتوقف أمر تحريكها للمجني عليه أو ما يعرف بجرائم الشكوى يمكن أن تسقط بعد تحركها بإسقاط الحق الشخصي، حيث تستمر الدعوى الجزائية لوجود الحق العام، وتجدر الإشارة إلى أن الشكوى وإن كانت تؤدي إلى تحريك الإجراءات الجزائية من قبل النيابة العامة، إلا أنها لا تجبر على رفعها للمحاكمة نظرا لقاعدة ملائمة الملاحقات .
إن تجربة المصالحة الجزائية في الأردن ما زالت في مرحلة التبرعم، فالمشرع على ما يبدو متردد في سبر أغوار هذه التجربة، حيث أنه عندما لجأ إليها في قانون المخدرات والمؤثرات العقلية سرعان ما عاد عنها وعدل النص القاضي بسقوط الدعوى الجزائية إذا ما تقدم المتعاطي بطلب المعالجة حتى ولو تم إلقاء القبض عليه إلى أن يتم تحويله إلى المحكمة ، واستبدل هذا النص بنص المادة (14/د) من قانون المخدرات والمؤثرات العقلية حيث أصبح النص كالآتي: “لا تقام دعوى الحق العام على من يتعاطى المواد المخدرة والمؤثرات العقلية أو يدمن عليها إذا تقدم، قبل أن يتم القبض عليه، من تلقاء نفسه أو بواسطة أحد أقربائه إلى المراكز المختصة للمعالجة التابعة لأي جهة رسمية أو إلى إدارة مكافحة المخدرات أو إلى أي مركز أمني طالبا معالجته”
هذا التشديد وإن كان له مبرراته وذلك نظرا لخطورة ما ينطوي عليه النص السابق من احتمال لجوء المدمن لطلب المعالجة بعد إلقاء القبض عليه وذلك تحايلا منه على القانون، يدفع إلى القول بأن السياسية التشريعية في الأردن عرفت بشكل أو بآخر المصالحة الجزائية ولكن على سبيل الاستثناء وبأضيق الحدود، حيث أن المشرع لجأ إليها لاعتبارات علاجية وأخرى اقتصادية، ولم يعمم هذه القاعدة بشكل عام لتشمل باقي الجرائم ولو كانت من درجة جنحة أو مخالفة.
إن مفهوم الصلح المسقط للدعوى الجزائية لا يختلف كثيرا عن الصلح بصفته المدنية، حيث أن الأخير يعرف وفق القانون المدني الأردني بأنه عقد يرفع النزاع ويقطع الخصومة بين المتصالحين بالتراضي ، هذا التعريف القانوني للصلح بصفته عقد مدني يشير إلى رغبة طرفي عقد المصالحة في إنهاء النزاع دون استمرار الدعوى المدنية وهذا ما يتم تحديدا مع أطراف الدعوى الجزائية حيث أن أطراف هذه الدعوى تجتمع لديهم الإرادة لإنهاء النزاع والرغبة في عدم متابعة الإجراءات الجزائية، لكن الفرق يكمن من حيث الأطراف فالصلح المدني لا يكون إلا بين أطراف الخصومة من المدنيين في دعوى حقوقية، أما الصلح الجزائي فيكون بين النيابة العامة من جهة وبين المتهم من جهة أخرى حيث أن كلاهما طرفان في الدعوى جزائية، كما أن الدعوى المدنية تتعلق بحق فردي ومصلحة شخصية لا ينسحب أثرها على المجتمع، أما الدعوى الجزائية فإنها تتعلق بحق المجتمع حيث أن الجريمة موضوع الدعوى الجزائية هددت أمن المجتمع ككل لذا فإنه صاحب الحق في الدعوى الجزائية، والنيابة العامة لا يعدو دورها إلا كممثل للمجتمع في هذه الدعوى.

المطلب الثاني
الطبيعة القانونية للصلح الجزائي

إن الطبيعة القانونية للصلح الجزائي كانت محل اختلاف بين الفقهاء، حيث أن إطفاء وصف قانوني على طبيعة هذا الصلح وتكييفه تباينت باختلاف الأنظمة القانونية التي نظمت موضوع الصلح الجزائي، حيث أن السياسة التشريعية للدول لعبت دورا هاما في تحديد كنه هذا الصلح مما أدى إلى وجود تباين في طبيعته القانونية، وفيما يلي عرض للآراء التي تناولت تكييف الصلح الجزائي.
ذهب الرأي الأول إلى أن الصلح الجزائي ما هو إلا عمل إجرائي ذو صفة إدارية يرتب أثاره بموجب القانون؛ حيث تنقضي سلطة الدولة في توقيع العقاب مقابل دفع مبلغ مالي أو التنازل عن المضبوطات، يذهب أنصار هذا الرأي إلى القول أن انقضاء سلطة الدولة بالعقاب وما يقابله من دفع المتهم للمال ما هو إلا التزام يقوم على مسألة عامة وليست خاصة حيث أن تنازل السلطة بعدم رفع الدعوى الجزائية هو حق للمجتمع ولا يرجع لمصلحة فردية، وعلى ذلك فإن إرادة الأطراف لا تتحكم في تحديد الأثر المترتب على الصلح، وإنما يرتب أثره بموجب القانون ، إذ أن هذا الصلح هو بمثابة تنازل من الهيئة الاجتماعية عن حقها في الدعوى الجزائية مقابل الجعل الذي قام عليه الصلح ويحدث هذا بقوة القانون، مما يترتب على ذلك أن على المحكمة وجوبا أن تحكم بانقضاء الدعوى الجزائية فإن أهملت ذلك وفصلت المحكمة في الدعوى فإنه يترتب عليها وقف تنفيذ العقوبة المقضي بها .
أما الرأي الثاني فقد ذهب إلى اعتبار أن الصلح الجزائي “هو رخصة تشريعية ممنوحة من المشرع للمتهم إن شاء استعملها وإن شاء عزف عنها” وهذا الرأي مؤداه أن الصلح الجزائي هو حق خالص للمتهم مصدره القانون، وليس عمل إجرائي إداري كما ذهب أنصار الرأي الأول حيث أن الصلح لا يتم إلا إذا قبل به المتهم، ولكن ذلك لا يعني أن الصلح الجزائي قد يصبغ بالصفة العقدية حيث أن السلطة هنا مجبرة بموجب القانون على عرض التصالح مع المتهم، وهذا ما ذهب إليه المشرع الليبي في قانون الإجراءات الجنائية الليبي
ذهب الرأي الثالث إلى القول أن الطبيعة القانونية للصلح الجزائي تكيف على أنها عقد رضائي شأنه في ذلك شأن ساء العقود الأخرى، حيث يرى هذا الجانب من الفقه أن الصلح الجزائي عقد يبرم بين السلطة من جهة وبين المخالف “المتهم” من جهة أخرى بحيث يمكن عند غياب نصوص تشريعية خاصة اللجوء إلى قواعد القانون المدني وهذا ما أكده الدكتور أمين مصطفى نقلا عن الفقيه الفرنسي الأستاذ Jean Pradel حيث يرى الأخير أن تصالح الإدارة مع المخالف يكيف على أنه عقد مدني يخضع للنصوص الواردة في القانون المدني الفرنسي ، كما يرى أصحاب هذا المذهب أن عقد الصلح الجزائي هو عقد رضائي ينعقد بين الإدارة من جهة وبين المتهم من جهة أخرى، بحيث تتنازل الجهة الإدارية عن طلب رفع الدعوى الجزائية مقابل أن يتنازل المتهم عن ضمانات التحقيق والمحاكمة بالإضافة للبدل المالي الذي يدفعه المتهم للجهة الإدارية كتعويض عن جريمته التي ارتكبها
أما بالنسبة للمشرع الأردني، فيظهر جليا واضحا أنه اعتنق هذا المذهب الفقهي حيث أن الصياغة التشريعية في نصوص القانون التي نظمت الصلح الجزائي تُظهر بشكل لا يدع مجالا للشك أن المشرع الأردني اعتبر أن الصلح الجزائي هو عقد مصالحة ينعقد بين الإدارة وبين المتهم، حيث أن المادة 212 من قانون الجمارك بينت أن لوزير المالية أو من يفوضه عقد تسوية صلحية في جرائم التهريب سواء قبل إقامة الدعوى أو خلال النظر فيها وقبل صدور الحكم البدائي وذلك مع جميع المسؤولين عن التهريب أو مع بعضهم عن كامل الجرم المسند إليهم وضمن الشروط الواردة في عقد الصلح، وبهذا يظهر أن المشرع وصف الصلح الجزائي بشكل صريح على أنه عقد مصالحة وتأكيدا لذلك يلاحظ أن المشرع استخدم حرف اللام في مطلع النص القانوني حيث قال ” للوزير…” وهذه اللام تفيد وجود سلطة جوازية يملكها الوزير وليست واجب عليه وذلك خلافا لمذهب المشرع الليبي الذي سيتم بيان موقفه في المبحث الثاني، كما أكد المشرع الأردني على موقفه في قانون الضريبة العامة على المبيعات حيث أكد في المادتين (32/د) و(36) من القانون على الطبيعة العقدية للصلح الجزائي.
إن الطبيعة العقدية للصلح الجزائي في الأردن أصبح من ثوابت النظام القانوني الأردني وهذا ما ذهبت إليه اجتهادات محكمة التمييز، حيث أن محكمة التمييز ذهبت إلى أن الصلح الجزائي هو عقد رضائي ينتج أثاره بتلاقي إراداتي أطراف الدعوى الجزائية، وهذا ما نجده في منطوق الحكم القضائي الذي أصدرته المحكمة في قضية تتلخص وقائعها بأن المميز وهي مؤسسة تجارية قامت باستيراد بضاعة مؤلفة من نظارات طبية، إلا أنها صرحت على متن المعاملة الجمركية عند التخليص على البضاعة أن ما استوردته هو نظارات شمسية، كما أن المميز أخفى القيمة الحقيقة للبضاعة مما أدى إلى وجود فرق في القيمة بلغ 12123 دينارا ، مما دفع بالمميز ضده مدعي عام الجمارك تغريم المدعية بواقع مثلي الرسوم ومثلي ضريبة المبيعات عن فرق القيمة، وذلك سندا لعقد الصلح المبرم بينهما، وبعد ذلك نشأ خلاف حول دفع المبلغ المستحق للإدارة في ذمة المؤسسة مما أدى لوصول النزاع إلى محكمة الجمارك البدائية التي حكمت برد دعوى المدعية مما حدا بها إلى الطعن بالاستئناف وبعد صدور الحكم المستأنف لم ترض به المدعية فطعنت فيه بالتمييز، بعد ذلك أصدرت محكمة التمييز حكما ضمنته مبدأ قانونيا هاما ألا وهو أن عقد الصلح الجزائي هو عقد رضائي ينعقد بتلاقي الإيجاب والقبول وهذا يستشف من منطوق الحكم حيث جاء فيه “وُقع طلب المصالحة الذي رضي به وزير المالية ورضيت به المدعية”

وفي قرار آخر لمحكمة التمييز في قضية تقدمت فيها المميزة (المتهمة) بطعن في الحكم الصادر عن محكمة الجمارك الاستئنافية التي حكمت برد الاستئناف وتصديق القرار المستأنف الصادر عن محكمة الجمارك البدائية والقاضي برد دعوى المدعية، وذلك في الدعوى المقامة ضد المميز ضدها النيابة العامة الجمركية.
حيث وضحت محكمة التمييز في حكمها ملامح الصلح الجزائي وطبيعته القانونية بل وحددت الآثار المترتبة عليه، حيث أكدت المحكمة على أن الصلح الجزائي هو عقد تسوية صلحية مبرم بين السلطة ممثلة بوزير المالية من جهة وبين المتهم من جهة أخرى سندا لأحكام قانون الجمارك، كما حددت المحكمة آثار الصلح الجزائي بحيث وصفته بأنه صلح يقطع النزاع في قضية التهريب من الناحيتين الجزائية والمدنية ويسقط العدوى بما يمنع من إعادة البحث في جريمة التهريب سواء كان لغايات الملاحقة الجزائية من قبل النيابة العامة الجمركي أو لغايات إثبات البراءة أو عدم المسؤولية من قبل المسؤولين عن التهريب

المبحث الثاني
المصالحة الجزائية في التشريعات المقارنة

المطلب الأول
موقف الفقه الإسلامي من الصلح الجزائي

من الأسباب الموجبة لحفظ الدعوى الجزائية في الشريعة الإسلامية الصلح الجزائي حيث أن الشريعة الإسلامية أجازت الصلح في الجرائم الواقعة على الأفراد ولا سيما جرائم الدم، وهذا الصلح يسقط القصاص وهو العقوبة المقدرة شرعا لهذه الجرائم ، حيث أن الدية تحل محل القصاص.
وذلك مصداقا لقوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى) كما قال تعالى: (ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا) ، ومن الأدلة أيضا قول الله تعالى: ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما) صدق الله العظيم
إن الآيات القرآنية الكريمة السابقة هي السند الشرعي لمشروعية القصاص كعقوبة لجريمة القتل، كما أن الآية الكريمة الثانية دليل على مشروعية الصلح كسبب من أسباب سقوط الدعاوى الجزائية وذلك من خلال قوله تعالى: (… فلا يسرف في القتل…)
حيث أنه إذا ما اتفق على الصلح، وتنازل ولي المجني عليه عن حقه في القصاص، مقابل الدية أو بدونها إذا ما عفا الولي عنها أيضا، سقط تبعا لذلك الصلح تطبيق العقوبة المقدرة شرعا، وهذا الحكم الشرعي اتفق عليه جميع فقهاء المسلمين وذلك سندا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” من قتل عمدا دفع إلى أولياء المقتول فإن شاءوا قتلوا، وإن شاءوا أخذوا الدية، ثلاثين حقه، وثلاثين جزعة، وأربعين خلفة، وما صولحوا الحق عليه فهو لهم” كما قال صلى الله عليه وسلم “الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحلّ حراما أو حرم حلالا”، والجدير بالذكر أن عقوبة القصاص كل لا يتجزأ قلا يمكن استيفاء القصاص من بعض النفس دون البعض الآخر.
الدية وفق تعريف المادة 294 من قانون العقوبات الإسلامي، في الجمهورية الإسلامية الإيرانية هي: “مال يعطى في الجناية على النفس أو العضو إلى المجني عليه أو إلى وليه أو أولياء دمه” .
والدية في الجرائم العمدية والجرائم التي يسقط فيها القصاص لاستحالة التماثل، تكون مقدارا معلوما، فلا يجوز الاتفاق في مثل هذه الأحول على ما يريده الولي كبدل للصلح، حيث أنه في مثل هذه الأحوال تعتبر الدية هي العقوبة المقدرة شرعا والواجبة التطبيق وليس القصاص، إلا أنه في الدية المقدرة في الجرائم العمدية كبدل للقصاص، فخاضعة لحكم الاتفاق حيث يجوز الاتفاق على أكثر منها، وفي كلتا الحالتين أجمع فقهاء المسلمين أنه يجوز الاتفاق على أقل مما هو مقدر شرعا، وذلك سندا إلى أنه من له الحق في الدية يملك أن يسقطها كلها بعفوه، ومن يملك إسقاط الكل يملك إسقاط الجزء
أما بالنسبة للحدود فقد تطلب قانون العقوبات الإسلامية لسقوط حد شرب الخمر توافر شروط معينة إذا ما توافرت سقط الحق تبعا لوجودها، حيث أن توبة شارب الخمر قبل الشهادة تسقط الحد أما إذا تاب بعدها فلا يسقط الحد، أما إذا تاب بعد الإقرار بالشرب، كان للقاضي طلب العفو من ولي الأمر أو تنفيذ الحد بحقه .
أما بالنسبة لباقي الحدود فإنها لا تسقط بالتوبة أو بالإقرار، حيث أن الحد عقوبة لمخالفة حق تعلق بالله لا يمكن التنازل عنه أو التصالح بشأنه، كحد الزنا، اللواط، السحق، القوادة، القذف، المحاربة والإفساد في الأرض وحد السرقة
ودليل ذلك من السنة المطهرة ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم عن عائشة رضي الله عنها:
أن قريشا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: ومن يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة ابن زيد، حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلمه أسامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتشفع في حد من حدود الله). ثم قام فاختطب ثم قال: (إنما أهلك الذين قبلكم، أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) .

المطلب الثاني
موقف القوانين المقارنة من الصلح الجزائي

عند النظر إلى التشريعات الأجنبية المقارنة يظهر أنها تباينت فيما بينها في مدى الأخذ بالمصالحة الجزائية فمنها ما كان على سبيل الاستثناء والحصر، بحيث اعتبر أن الصلح الجزائي من الأسباب الخاصة لسقوط الجريمة التي يذكرها المشرع بموجب قوانين خاصة، ومنها ما اعتبر المصالحة الجزائية قاعدة عامة بالنسبة لدرجات معينة من الجرائم لا تعدو كونها مخالفة أو جنحة، وذلك إذا ما توافرت شروط معينة .
المشرع الفرنسي حدد حالات استثنائية يحدث فيها تصالح يقضي على الدعوى الجزائية، من هذه الحالات إجازة القانون الفرنسي التصالح في جرائم الإخلال بنظام الجمارك والتعامل النقدي وبنظام الضرائب غير المباشرة ونظام البريد، المياه، الغابات، صيد الحيوانات، صيد الأسماك في الأنهار والبحار إضافة لنظام الإذاعة بالراديو أو التلفزيون كما أن المشرع الفرنسي أجاز التصالح المسقط للدعوى الجزائية في حالة الإذعان الاختياري ذو الطبيعة الاتفاقية حيث يقوم المتهم بتأدية غرامة جزافية إلى أيدي محرر محضر المخالفات التي ترتكب خلافا لقواعد بوليس خدمات النقل العام للمسافرين .
أما بالنسبة للمشرع البلجيكي فقد ذهب إلى جعل اللجوء إلى التصالح المسقط للدعوى الجزائية قاعدة عامة بالنسبة للجرائم المعاقب عليها بعقوبة الغرامة أو الحبس الذي لا يتجاوز الشهر أو بكلتا هاتين العقوبتين مع استبعاد حالة أن يكون الجرم قد سبب ضررا للغير لم يعوض بطريقة قطعية، كما أن المشرع البلجيكي توسع بالمصالحة الجزائية ليشمل أيضا الحالات التي لا يتجاوز الحبس فيها مدة ثلاثة شهور ولكن ضمن شروط مشددة من أبرزها أن لا يكون قد سبق الحكم على الجاني بعقوبة جنائية.
المشرع الليبي أخذ بالصلح الجزائي،وجعله قاعدة عامة مؤداها سقوط الدعوى الجزائية من درجة مخالفة، حيث عرف الدكتور مأمون سلامة الصلح في المخالفات وفق قانون الإجراءات الجزائية الليبي بأنه :” مكنة خولها المشرع للمتهم الحاضر في اسقط الدعوى الجنائية في جرائم محددة بدفع مبلغ معين في ميعاد محدد”
أما بالنسبة للجرائم التي يجوز فيها الصلح الجزائي وفق التشريع الليبي فهي الجرائم التي تكون من درجة مخالفة إذا لم ينص القانون فيها على عقوبة الحبس، أما بالنسبة للقيمة القانونية لعرض الصلح على المتهم من قبل محرر المحضر فهو وجوبي، حيث أنه يجب عليه في الأحوال التي يجوز فيها الصلح أن يعرض الصلح على المتهم الحاضر ويترتب على عدم عرض الصلح على المتهم وبدء الدعوى الجزائية مباشرة، يترتب على ذلك وجوب وقف الدعوى الجزائية إلى أن يتم الصلح إذا دفع المتهم بذلك.
التشريع المصري لم يكن غائبا عن مفهوم المصالحة الجزائية بل تعرض لها وأخذ بها وجعلها من الأسباب العامة لسقوط الدعوى الجزائي، حيث أن المادة 18 (أ) من قانون الإجراءات الجنائية المصري قضت بجواز التصالح في مواد المخالفات، وكذلك الحال في مواد الجنح بشرط أن يعاقب عليها القانون بالغرامة فقط وبمفهوم المخالفة إذا ما كان القانون يعاقب بالحبس أو أي جزاء آخر غير الغرامة فإن الصلح الجزائي لا يكون له مكان في التطبيق وذلك لانتفاء الشرط القانوني، كما أفادت المذكرة الإيضاحية لنص المادة 18مكرر(أ)
أن ” للمجني عليه في جرائم الجنح المذكورة في النص ومنها جرائم الضرب البسيط والإتلاف، أن يطلب بنفسه أو بوكيله الخاص إلى النيابة العامة أو المحكمة المنظورة أمامها الدعوى إثبات صلحه مع المتهم فتنقضي بذلك الدعوى الجنائية ولو كانت الدعوى مرفوعة بطريق الإدعاء المباشر”
ويلاحظ أن المشرع المصري توسع في تطبيق المصالحة الجزائية، ليشمل المخالفات والجنح التي لا يعاقب عليها بالحبس وإن كان اقترب من المشرع الليبي في أن كلاهما اشترطا أن لا تكون الجريمة معاقب عليها بالحبس، إلا أن المشرع الليبي لم يأخذ بالصلح بالجنح وأقتصر على المخالفات، كما أن المشرع المصري ذهب بعيدا إلى درجة جعل معها التصالح سببا مسقطا للدعوى الجزائية وإن كانت قد رفعت عن طريق الإدعاء الشخصي، وبذلك يكون المشرع المصري اختلف اختلافا جذريا مع قرينه الفرنسي الذي اشترط لإعمال الصلح المسقط للدعوى الجزائية أن لا يكون الجرم قد أدى إلى الإضرار بالغير، وعليه فإن الباحث يرى أن المشرع المصري قد غالى بالتوسع في تطبيق قاعدة الصلح الجزائي، حيث أنه أسقط تبعا لسقوط الدعوى الجزائية حق الأفراد بتحريك الدعوى الجزائية عن طريق الإدعاء المباشر الذي يعتبر ضمانة من “جمود أو تعسف النيابة العامة” في تحريك هذه الدعوى، وعليه فإن إسقاط الدعوى المرفوعة بطريق الإدعاء المباشر عن طريق الصلح مع المحكمة أو النيابة هو إسقاط لحق المدعي الذي قد يستفيد من الحكم بإدانة المدعى عليه في الدعوى للحصول على التعويض المدني استنادا لقاعدة حجية الحكم الجنائي على المدني، كما أن الصلح في الدعاوى التي تنطوي جرم أضر بالغير يؤدي عدم تحقيق العدالة حيث أن الغير حرم من حق التقاضي واللجوء للمحاكم بسبب سقوط الدعوى الجزائية بالصلح، إضافةً إلى أن إسقاط الدعوى الجزائية بالصلح بالرغم من وجود إدعاء مباشر كان سببا في تحريك الدعوى ابتداء قد يؤدي إلى انتهاك حق الأفراد بوجود ضمانة حامية من تعسف النيابة العامة وجمودها في تحريك الدعوى الجزائية.
إن الصلح الجزائي وفق القانون المصري يتسم بكونه حق للمتهم وواجب على النيابة العامة ومأمور الضبط، حيث أن الصلح الجزائي بمفهوم القانون المصري هو ” رخصة تشريعية ممنوحة من المشرع للمتهم إن شاء استعملها وإن شاء عزف عنها” كما أن نص الفقرة الثانية من نص المادة 18 مكرر جاء فيها ” على مأمور الضبط القضائي المختص عند تحرير المحضر أن يعرض التصالح على المتهم أو وكيله في المخالفات ويثبت ذلك في محضره، ويكون عرض التصالح في الجنح من النيابة العامة” كما أن الفقرة الرابعة من المادة ذاتها جاء فيها “ولا يسقط حق المتهم في التصالح…” وهذه جميعها أدلة قانونية على أن التشريع الجزائي المصري يأخذ بأن الصلح الجزائي هو حق للمتهم، كما أن محكمة النقض المصرية وصفت الصلح “بأنه بمثابة تنازل من الهيئة الاجتماعية عن حقها في الدعوى الجنائي مقابل الجعل الذي قام عليه الصلح” .
وإن كان ما سبق الإشارة إليه من عرض عام لموقف المشرع المصري من معالجة التصالح الجزائي كسبب عام لإسقاط الدعوى الجزائية، فإن المشرع المصري عرف أيضا الصلح الجزائي كسبب خاص لسقوط الدعوى الجزائية في أنواع خاصة من الجرائم كما هو الحال بالنسبة للجرائم الجمركية، كما أخذ المشرع المصري بالتصالح الضريبي وفي رسوم الإنتاج وكذلك الحال بالنسبة لجرائم النقد، وعند الإذعان الاختياري لدفع غرامة محددة.

الخاتمة

مع بيان مفهوم الصلح الجزائي وبيان طبيعته القانونية وتحديد أثاره، ومن ثم الانتقال للكشف عن موقف التشريعات المقارنة من الصلح الجزائي، بعد هذا العرض يظهر أن مفهوم الصلح الجزائي ما هو إلا أمر نسبي يتراوح بين اتجاهات متعددة وفق المنظومة القانونية للدول، فما قد يعطي معنا صحيحا للصلح الجزائي في دولة لا يشترط أن يكون صحيحا في غيرها، إلا أن المتتبع لتطور السياسة التشريعية للدول سرعان ما سيكتشف أن قاعدة الصلح الجزائي في طور النمو ولم تستقم بعد على أسس ثابتة، إلا أن ذلك لا يعني أن هذه الأسس غير واضحة، بدليل ما قد سبق تبيانه في هذا البحث.
فالصلح الجزائي بطريقة أو بأخرى، بدأ يتمحور باتجاه واحد ألا وهو الاستعاضة عن عقوبة الحبس بعقوبات بديلة، تجنب الإنسان التعرض لعقوبة سالبة للحرية كما تجنب الدولة الآثار السلبية لعقوبة الحبس بكافة أطيافها، فلا أحد يستطيع أن ينكر أن الدول تُمارس عليها الضغوط من أجل تقليل نسبة العقوبات السالبة للحرية حيث أن الأخيرة تكاد أن تثبت فشلها في الحد من نسبة الجريمة في المجتمع بل على النقيض من ذلك أصبحت تعطي أثرا عكسيا على سلوكيات السجين الذي يؤمل إصلاحه للدخول في دوامة زيادة انحرافه، كما أن عقوبة الحبس في نهاية المطاف هي عقوبة مكلفة للدولة ومستنزفة لمواردها، لذا بدأ مفهوم العقوبات البديلة يتألق بالفكر القانوني، بحيث أصبح قادرا على لفت الأنظار إليه لدرجة أنه وجد لنفسه مكانا في التشريع الجزائي.
الصلح الجزائي هو عقوبة بديلة، يحقق مفهوم الردع الاجتماعي، ينزل العقاب بالمجرم، يرضي الشعور العام بتحقيق العدالة، وأخيرا فإنه قادر على إثبات مدى فعاليته في الحد من انتشار الجرائم، وعليه وسندا لهذه المبررات توصي هذه الدراسة بتبني قاعدة الصلح الجزائي كقاعدة أصيلة في أصول الإجراءات الجزائية، بحيث يتم تعميمها دون اقتصارها على أنواع محددة من الجرائم، بشرط عدم الوصول لدرجة تؤدي إلى سقوط الدعوى الجزائية التي يتعلق فيها حق للغير، أو الصلح بالجرائم الخطيرة الني ترقى لمستوى الجناية، بحيث يتم تعميم قاعدة الصلح الجزائي بالنسبة للمخالفات والجنح.
كما توصي الدراسة بعدم تضيق نطاق البدل في الصلح الجزائي بحيث يقتصر فقط على التعويض المالي أو الغرامة، حيث أنه إذا ما تم تبني قاعدة الصلح الجزائي كقاعدة عامة في المخالفات والجنح يجب توسيع نطاق البدل ليشمل صنوف أخرى من التعويض، فالهدف من الصلح الجزائي ليس شراء العقوبة بل تحقيق عقوبة رادعة تمنع من تكرار الجرم مرة أخرى، كتقديم خدمات اجتماعية، أو إجبار المتهم على اللحاق بدورة تثقيفية أو جلسات علاجية قد تحول دون تكرار جريمته مرة تلو أخرى، مما يؤدي إلى علاج السبب بدلا من إخفاء النتائج.
إن الصلح الجزائي فرصة ذهبية لمن زل في حياته فأخطأ في حق المجتمع، فهي فرصة لإصلاحه أولا وفرصة لتجنب الحكم عليه ثانيا، إلا أن ذلك لا يعني أن تبقى هذه الفرصة متاحة ليصبح الأمر لا يعدو كونه تساهل مع الإجرام وتشجيع له، حيث أن الضابط لمنع ذلك يكمن في تشديد العقوبة وعدم جواز اللجوء للصلح الجزائي عند تكرار الجرم الذي تم المصالحة بشأنه أول مرة.

المراجع

• القرآن الكريم
• د: المنجى، محمد ، الدفع بانقضاء الدعوى بالصلح في المواد المدنية والجنائية، الطبعة الأولى، الإسكندرية، منشأة المعارف، 2004
• د. حجازي، عبد الفتاح بيومي. سلطة النيابة العامة في حفظ الأوراق والأمر بألاوجه لإقامة الدعوى الجنائية، مصر، دار الكتب القانونية
• د.عبد التواب، معوض ، الموسوعة الشاملة في التعليق على نصوص قانون الإجراءات الجنائية، الطبعة الثالثة، طنطا – مصر ، مكتبة عالم الفكر والقانون للنشر والتوزيع، 2003
• د.عبد الفتاح، محمود سمير، النيابة العامة وسلطتها في إنهاء الدعوى الجنائية بدون محاكمة، منشأة المعارف، الإسكندرية، 1986
• د. فودة، عبد الحكيم ، انقضاء الدعوى الجنائية، منشأة المعارف، الإسكندرية، 2005
• د. محمد، أمين مصطفى – انقضاء الدعوى الجنائية بالصلح، القاهرة، دار النهضة العربية، 2002
• د. محمد، عوض، جرائم المخدرات والتهريب الجمركي والنقدي، الطبعة الأولى، الإسكندرية، المكتب المصري الحديث للطباعة والنشر،1966
• د. سلامة، مأمون محمد ، الإجراءات الجنائية في التشريع الليبي/الجزء الأول، ليبيا، منشورات جامعة بنغازي، 1971
• د. إدريس، سر الختم عثمان، النظرية العامة للصلح في القانون الجنائي، رسالة دكتوراه، جامعة القاهرة، مصر، 1979
• د. العطور، رنا. ” محاضرات الجرائم الخاصة” ألقيت على طلبة كلية الحقوق بالجامعة الأردنية ، 2007/2008
• د. العطور، رنا. ” محاضرات في أصول المحاكمات الجزائية ” ألقيت على طلبة كلية الحقوق بالجامعة الأردنية ، 2007/2008
• المملكة الأردنية الهاشمية – القانون المدني – رقم ( 43) لسنة 1976(الجريدة الرسمية الأردنية: عدد 2645- تاريخ 1/8/1976) ص 1
• المملكة الأردنية الهاشمية – قانون أصول المحاكمات الجزائية، انظر أيضا المادة (5/أ) و (5/ج) من قانون محاكم الصلح رقم 13 لسنة 2001 ( الجريدة الرسمية، عدد: 4480، تاريخ 18/3/2001) ص 1294
• المملكة الأردنية الهاشمية – قانون الجمارك – رقم 20 لسنة 1998 والمعدل رقم 27 لسنة 2000 – (الجريدة الرسمية الأردنية: عدد 4443 – تاريخ 2/7/2000) ص2677
• المملكة الأردنية الهاشمية – قانون الضريبة العامة على المبيعات – رقم ( 25) لسنة 2002 (الجريدة الرسمية الأردنية: عدد 4547- تاريخ 16/5/2002) 2057
• الجمهورية الإسلامية الإيرانية- قانون العقوبات الإسلامي، دائرة العلاقات الدولية في السلطة القضائية، النظام القضائي في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، الطبعة الأولى، دائرة التعليم والأبحاث في السلطة القضائية، 2002
• الأردن. محكمة التمييز. حقوق (3094/99) مجلة نقابة المحامين. عمان: نقابة المحامين. سنة 2002 ( 4/5/2000) ص 2290 – 2295
• الأردن. محكمة التمييز. حقوق (1080/87) مجلة نقابة المحامين. عمان: نقابة المحامين. سنة 1990 (27/1/1988) ص 1033 – 1036