الموازنة بين السياسة الشرعية والسياسات الوضعية

ذكر فروق تتعلق بالأصول التي يرجع إليها في تقرير السياسات

هذه المسألة مُتَفَرِّعة عن المسألة السابقة ( الاختلاف في المصدر ) ، غير أنَّها أُفرِدَت ؛ لأهمية إفرادها من الناحية التفريعية فقهاً شرعيا وقانوناً وضعياً – الذي هو محل البحث هنا .

فالمراد بأصول السياسة الشرعية : الأدلة الشرعية التي تُستفاد منها أحكامها [1] .
والمراد بأصول السياسات الوضعية : مصادرها التي يستند إليها في وضعها [2] .

وبيان الفرق بين أصول السياسة الشرعية ، ومصادر السياسات الوضعية يتضح بعرضها ، ثم ذكر الفرق بينها ؛ وذلك على النحو الآتي .

أولاً : عرض أصول السياسة الشرعية ، ومصادر السياسات الوضعية .
أ – أصـول السياسة الشرعيـة .

السياسة الشرعية جزء من الشريعة الإسلامية ، فإنَّ أصول السياسة الشرعية – وإن تعدَّدَت طرائق استنباطها واشتهر تعليل أحكامها بتلك الطرائق [3] ، هي ذاتها أصول الشريعة الإسلامية وفقهها ، التي هي :

1) الكتاب [4] ( الآيات القرآنية) ولا يقتصر الاستدلال به في التشريع على ما ذكره المؤلفون في آيات الأحكام .

2) السنـة ، ” الأقوال ، والأفعال ، والتقريرات ، الثابتة عن النبي e ؛ وتستفاد منها الأحكام بطريق النص الصريح ، أو الاستنباط المعتبر ، أو بهما معاً .

ب- مصادر السياسات الوضعية .

مصادر السياسات الوضعية تختلف باختلاف تلك السياسات ، وما نشأت فيه من مجتمعات ، تبعاً للظروف الخاصة المحيطة بكل منها ، المتفاوتة زماناً ومكاناً [5] ؛ غير أنَّ ثمة مصادر مشتركة بين تلك السياسات ، وإن اختلفت نسب الرجوع إليها من سياسة إلى أخرى : أهميةً ، ومرتبةً ، وزماناً ، ومكاناً .

وقد حصرها بعض من ألَّف في القوانين الوضعية ، في مصدرين رئيسيين [6] :

1) العـرف .

وهو : ” دَرْجُ النَّاس على قاعدة معيَّنة ، واتباعهم إيَّاها في شؤون حياتهم ، وشعورهم بضرورة احترامها ” [7] .

أو هو باختصار : الممارسة الدستورية ، المقبولة عند أهلها كالقانون [8] .

وله أهمية في نشأة السياسات الوضعية ( الدساتير ) ؛ تَتَّضح من خلال النقاط التالية :

– قيام أحد نوعي ( الدساتير ) عليه ، وهو ما يعرف بـ( الدساتير العرفية ) [9] ، أي : التي مصدرها ( العرف ) ، فهي نتيجة تقاليد لم تلْق اعتراضاً من نصٍّ سابق [10] ؛ وترجع طريقة صدوره إليه [11] .

– كونه مصدراً رئيساً لنشأة النوع الثاني من الدساتير ، التي هي ( الدساتير المكتوبة ) ، فعند ابتداء وضع هذا النوع من الدساتير ، يكون العرف مصدراً رئيساً يرجع إليه في وضعه [12] .

– كونه ينشأ إلى جانب ( الدساتير المكتوبة ) ، وتُكَوَّن منه قواعد دستورية ، تُعرف بـ( العرف الدستوري ) [13] .

وهكذا يتضح من خلال هذه النقاط ، ما للعرف من أهمية في إنشاء السياسات الوضعية وتغيرها [14] .

2) القواعـد الدستوريـة المدونـة .

ويعبّر عنها – أيضاً – بـ( الدستور المدوَّن ) ، وهو : الذي أَصدر واضعُه و مُنَظِّمُه [15] ، أحكامَه ، وضمَّنَها وثيقة ، أو بضعة وثائق معينة [16] .

وتتضح أهمية القواعد الدستورية المدوّنة من حيث كونها مصدراً للسياسات ( الدساتير ) الوضعية – في حالة تغيير دستور قائم ؛ حيث يتم هذا التغيير ، وفقاً للطريقة التي يُفْتَرَضُ النص عليها في الدستور القائم – المرادِ تغييره – سواء كان هذا التغيير كليّاً ( الإلغاء ) ، أو جزئياً ( تعديل بعض قواعده ) [17] ؛ فالقانون الدستوري ( شكل السياسة الوضعية ) يُستمد من الوثيقة الدستورية المسطورة ( المكتوبة ) ، أو الدستور بالمعنى الشكلي ، ومن بعض المسائل الدستورية المدونة خارجَه [18] .

هذه هي مصادر السياسات الوضعية أو “الدساتير” بالمصطلح السياسي المعاصر .

بعد هذا العرض لأصول السياسة الشرعية ، ومصادر السياسات الوضعية ، يأتي ذكر الفرق بينها ، وهي الفقرة التالية .

ثانياً : ذكر الفروق بين أصول السياسة الشرعية ، ومصادر السياسات الوضعية .
ليس ثمة مقارنة بين أصول السياسة الشرعية ، ومصادر السياسة الوضعية ؛ يؤكِّد ذلك الموازنة بينها في دائرة الاختلاف التي تحوي عدداً من الفروق الجوهرية المجملة و المفصَّلة .

فأما الفروق المجملة، فإنَّها متفرعة عن الحقيقة السابق ذكرها ، وهي : أنَّ أصول السياسة الشرعية هي ذاتها أصول الشريعة الإسلامية ، ومنها اكتسبت وصف (الشرعية) .

وأهم هذه الاختلافات هذه والفروق ما يلي :

1- أنَّ أصـول السياسـة الشرعية منشـؤها الوحي الإلهي ؛ أمَّا الوضعية فمنشؤها الفكر البشري عقليا كان أو طبعيا ، صحيحا كان أو سقيما .

أصول السياسة الشرعية منشؤها الوحي الإلهي ؛ ومجال العقل فيها منحصر في الكشف عن طرائق استنباط الأحكام من تلك الأصول ، وفق ضوابط حُدِّدَت من خلال أصول الشريعة ذاتها .

أمَّا أصول السياسات الوضعية فمنشؤها البشر ؛ فالوضع العقلي في إنشائها يكاد يكون مستقلاً ؛ لذا وصفت بالسياسات ( العقلية ) ، و ( الوضعية ) ، سواء كانت في شكل أعراف ، أو وثائق مكتوبة .

2- أنَّ أصول السياسة الشرعيـة ، تتميـز بخصائص الشريعـة ؛ أمَّـا الوضعية ، فتتصف بصفات واضعها القاصر .

أصول السياسة الشرعية ، تتميز بخصائص الشريعة – ذاتها – السابق ذكرها ، من مثل : الثبات ، والدوام مع المرونة ؛ وعليه فلا نسخ ولا تغيير فيها ، ولا إضافة عليها ، بعد انقطاع الوحي . وأمَّا ما يُعَلِّلُ به المجتهد لأحكامَ التي لم يُنصّ عليها ؛ فإنَّما هي طرائق استنباط ، وضوابط اجتهاد ؛ يؤكد بها صحة استنباطه من الوحي ، واستناده إليه فيما يُبَيِّنُه من أحكامٍ ، مستندها الكليات والقواعد الشرعية ، وقد سبق ذكر أسس السياسة .

أمَّا أصول السياسات الوضعية ؛ فهي وضعية تتصف بصفات واضعها – التي سبق الإلماح إليها – فيعتريها ما يعتريه من قصور ؛ فلا دوام لها ولا ثبات ولا مرونة ؛ لذا فهي تقبل الإضافة والتعديل ؛ بل الإلغاء ، تبعاً للتطورات الزمانية والمكانية ، وغيرها من المؤثرات التي لا تستطيع الدساتير ( العرفية ) ولا ( المدونة ) مسايرتها ، دون تعديل أو تغيير ؛ إذ التعديل والتغيير طريقة مرونتها ! كيف لا ،

وقد عُدَّ من خصائص الدستور الجيّد : ” أن يتضمن الدستور طريقة تعديله [19] ؛ فوجود طريقة قانونية لتعديل الدستور تجنب البلاد التعرض للثورات من أجل هذا التعديل … ” [20] كما يطلق على الدساتير التي تزيد شروط تعديلها أو إلغائها ، عن شروط أو إلغاء القوانين العاديـة ( غير الدستورية ) – الدساتيرُ الجامدة ! مع أنها تقبل التعديل والإلغاء ، لكن بشروط أشدّ ، وذلك في مقابل النوع الآخر من الدساتير ، وهي ( الدساتير المدونة ) ، أي : التي يتم تعديلها أو تغييرها باتِّباع إجراءات تعديلِ وإلغاءِ القوانين العادية ، وعن طريق السلطة التنظيمية ذاتها [21] .

وهكذا يتضح أنَّ القواعد الدستورية – من حيث كونها أصولاً للسياسات الوضعية – تقبل التعديل ، والإلغاء ، بخلاف أصول السياسة الشرعية [22] .

3- أنَّ أصول السياسة الشرعية ، هي أصول الشريعة في جميع المجالات ؛ أمَّا مصادر السياسات الوضعية ؛ فتختلف عن أصول بقية القوانين .
فأصول السياسة الشرعية ، ليست خاصة بها ، بل هي لجميع الأحكام ، في جميع المجالات ؛ لاتصاف الشريعة الإسلامية بوحدة النظام ؛ فليس هناك أصول خاصة بالسياسة الشرعية خارجة عن هذه الأصول .

أمَّا أصول السياسات الوضعية ؛ فإنها تختلف عن أصول بقية القوانين ؛ فمصادر القانون الدستوري تتميز في قيودها وعددها عن أصول بقية القوانين ، حيث يُرى أن مصادر القوانين العادية أقلّ شأناً [23] .

4- أنَّ أصـول السياسة الشرعية تقريرية متبعة ، أمَّا مصادر السياسات الوضعية ، فهي في مجملها تقريرية تابعة .

أصول السياسة الشرعية تقريرية متَّبَعَة ؛ فهي تتميز بالتوجيه والتنظيم ، وهو المعبر عنه في تعريف السياسة الشرعية – بمدلولها العام – بأنَّها : ” حمل الناس على مقتضى النظر الشرعي” ، أي الإلزام بالإصلاح ولو جبراً [24] ؛ وهذا مبناه الصفة الدينية للشريعة ، التي سبق الحديث عنها في الفرع الأول .

أمَّا مصادر السياسات الوضعية ، فهي في مجملها تقريرية تابعة ؛ ذلك أنَّها ترصد الظواهر الاجتماعية ، ومن ثم تبني تلك السياسات على أساسها ، وما قد وجد من تقويم [25] ؛ فهو في حقيقته متأثر بالأصول المبنية على التقرير ، المتمثل في مضمون ( الدستور ) ، ثم هو قاعدة قد جاءت متأخرة عن التقويم – الذي تتميز به أصول السياسة الشرعية – بما يقارب ثلاثة عشر قرناً [26] .

وأمَّا الاختلافات والفروق المفصَّلة فيؤجل الحديث عنها إلى الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى .


[25] ينظر : المراجع السابقة .
[26] ابتداء النقد لتصرفات الحكّام المسلمين الذين لا يتجاوزون فيها أحكام الشريعة دون مسوغ مقبول أو مردود أو محل نظر ، وتدوين العلماء لذلك .