دراسة حول الصناعة التشريعية في غياب الدستور بدولة ليبيا

أولاً: ملامح التجربة الدستورية الليبية
1. استقلال ليبيا 1951
بتاريخ 7-10- 1951 صدر الدستور الليبي، وذلك قبل إعلان استقلال ليبيا في 24- 12- 1951 حالة نادرة)، إلا أنه دخل حيز النفاذ مع إعلان استقلال ليبيا في 24.-12-1951
قدمت الأمم المتحدة الخبرة والمساعدة في إعداد الدستور الليبي.

جاء الدستور خليطاً من النظم الدستورية المتعارف عليها دولياً1 ويحتوي على اثني عشر فصلاً و 213 مادة.

لم يعط الدستور الليبي للمحكمة العليا الليبية اختصاصاً دستورياً بالرقابة على القوانين، إلا أن هذا الاختصاص انعقد للمحكمة العليا بموجب قانون المحكمة العليا لسنة 1953 وتحديداً المادتين 15 16

كان أول حكم يصدر عن المحكمة العليا تحت رقم 1 /1 ق بتاريخ 5. 4. 1954 حكماً دستورياً بإلغاء مرسوم ملكي بحل المجلس التشريعي بولاية طرابلس.
عدل الدستور مرتين في عامي 1962- 1963

2- قيام الثورة 1969
صدر الإعلان الدستوري بعد قيام الثورة بثلاثة أشهر، بتاريخ 11ـ 12ـ 1969 يحتوي على ثلاثة أبواب فقط ( الدولة /نظام الحكم / أحكام متفرقة وانتقالية)، و37 مادة.

لم يلغ الإعلان الدستوري صراحة، دستور عام 1951 وإن كان قد أشار اليه، حيث نصت المادة 33 من الإعلان الدستوري ” يلغى النظام الدستوري المقرر في الدستور الصادر في 7. 10. 1951 وتعديلاته مع ما يترتب على ذلك من آثار”.

أعطى الإعلان الدستوري بموجب المادة 35 “للقرارات والبيانات والأوامر الصادرة من مجلس قيادة الثورة منذ سبتمبر 96 وقبل صدور هذا الإعلان الدستوري قوة القانون وكان قد سبق الإعلان الدستوري هذا بيان مجلس قيادة الثورة بسقوط المؤسسات الدستورية ونظام الحكم2.

تجدر الإشارة إلى أن المحكمة العليا ذكرت في طعن دستوري رقم 1/ 12ق3 أن البيان الاول للثورة صادر عن مجلس قيادة الثورة رغم أنه في العدد 1 لعام 1977 من الجريدة الرسمية لم يذكر ذلك.

أن الإعلان الدستوري ما هو إلا دستور مؤقت: حيث تمت الإشارة إلى ذلك في هذا الإعلان في موضعين:
1- الديباجة ” يصدر هذا الإعلان الدستوري ليكون أساساً لنظام الحكم في مرحلة استكمال الثورة الوطنية الديمقراطية، وحتى يتم إعداد دستور دائم يعبر عن الإنجازات التي تحققها الثورة ويحدد معالم الطريق أمامها”.
2- المادة 37 ” يبقى هذا الإعلان الدستوري نافذ المفعول حتى يتم إصدار الدستور الدائم..

3- موقف المحكمة العليا من التغيير السياسي/ الدستوري
يمكن أن يوصف موقف المحكمة العليا الليبية تجاه الدستور الليبي لعام 1955 بعد قيام الثورة، بأنه موقف متردد. إلا أن هذا التردد لم يستمر طويلاً وحسم لغير مصلحة الدستور، وذلك على مراحل ثلاث على النحو التالي:
استمرارية الدستور: جاء في الطعن الدستوري رقم 1/ 12 ق الصادر في 11. 1. 1970: “أن إعلان قيام الثورة والبيان الثاني الخاص بسقوط المؤسسات الدستورية ونظام الحكم، لم ينصا على سقوط الدستور، إذ أطاح أولهما بالنظام الملكي وألغى ثانيهما المؤسسات التابعة للعهد السابق، وسقوط المؤسسات أمر جد مختلف عن سقوط قانون الانتخاب المطعون في دستوريته”.
إلغاء الدستور: جاء في الطعن الدستوري رقم 4/ 14 ق، الصادر بتاريخ 14. 6. 1970 أخذ الدستور الملغي بنظرية الفصل بين السلطات الثلاث” طعن دستوري.
ثم بعد ذلك وصفت المحكمة العليا صراحة الإعلان الدستوري “بالدستور”.4
كما أطلقت المحكمة العليا على الإعلان الدستوري “الإعلان الدستوري المؤقت”5.

4 -الخلاصة:
قرارات مجلس قيادة الثورة قبل صدور الإعلان الدستوري لها قوة القانون.
الإعلان الدستوري لم يلغ دستور عام 1951 صراحة، وإن كان قد ألغى النظام الدستوري المقرر في الدستور، كما ألغى المؤسسات الدستورية ومؤسسات الحكم بموجب البيان الصادر عن مجلس قيادة الثورة، وهو موقف أكدته المحكمة العليا ثم عدلت عنه واعتبرت أن دستور 1951 لاغياً6.
أعلن الإعلان الدستوري أنه مؤقت مرتين في ذات الوثيقة.
وصفت المحكمة العليا صراحة الإعلان الدستوري “بالدستور” وذلك بموجب الطعن رقم 70/ 19ق، الصادر بتاريخ 6. 3. 1973

5- إعلان عن قيام سلطة الشعب 1977
صدر في 2- 3-1977 بموجب قرار صدر في جلسة أستثنائية لمؤتمر الشعب العام بعد دورتين من انعقاده.
جاء فيه أنه صدر عن – الشعب الليبي – يتكون من ديباجة وأربع نقاط وهي: الاسم الرسمي/ القرآن شريعة المجتمع/ السلطة الشعبية هي النظام السياسي في ليبيا/ الدفاع عن الوطن مسؤولية. نشر في الجريدة الرسمية، العدد 1- 1977مختصراًمن صفحة واحدة، لم يقدم شرحاً لنظام الحكم الجديد، وتمت الإشارة في ديباجته إلى الإعلان الدستوري.
عليه، حل نظام الحكم الجديد محل جزء كبير من الباب الثاني من الإعلان الدستوري المعنون “نظام الحكم” وتحديداً المواد من 18 – 26

6- القانون رقم 6 لسنة 1982 بإعادة تنظيم المحكمة العليا:
سبق وأن بينا أن المحكمة العليا الليبية انعقد لها الاختصاص الدستوري بموجب قانون تأسيسها الصادر في سنة 19530 إلا أنه وبتاريخ 25-5- 1982صدر القانون رقم 6 لسنة 1982 بإعادة تنظيم المحكمة العليا والذي ألغى قانون المحكمة العليا الصادر في 1953 واللائحة الداخلية للمحكمة7 والذي يؤخذ عليه ما يلي:
إلغاء الاختصاص الدستوري للمحكمة العليا بعد مضي حوالي ثلاثين عاماً على أنعقاده للمحكمة العليا بموجب قانون المحكمة العليا لسنة 1953

نجم عن صدور هذا القانون، أن صدرت عن المحكمة العليا أحكام بعدم الاختصاص بالنظر في الطعون الدستورية. وعلى سبيل المثال، حكمها في الطعن 3-28 ق، بتاريخ 30- 10-1982 القاضي بعدم الاختصاص بنظر الطعن المرفوع بشأن عدم دستورية المادة 40 من قانون الجرائم الاقتصادية8.

أعقب صدور هذا القانون صدور قانون آخر وهو القانون رقم 7 لسنة 85 بتقرير بعض الأحكام الخاصة بدعاوى التعويض، وهو قانون يتكون من مادتين فقط، وينص على عدم قبول دعاوى التعويض بسبب تطبيق المقولات الثورية، أو بسبب الزحف على المصانع والأنشطة الاقتصادية الخاصة، أو بسبب الإجراءات التي تتخذ بشأن الأراضي الزراعية وبوقف النظر في دعاوى التعويض بسبب ذلك، ووقف الأحكام الصادره فيها.

موقف المحكمة العليا تجاه القانون رقم7 85 المذكور أعلاه، كان بأنه غير موصوم بعدم الشرعية لأنه لم يقرر بصورة نهائية حرمان أي شخص من اللجوء إلى القضاء بشكل نهائي بل هو ينص على أحكام وقتية، وهو تدخل من المشرع لتنظيم استعمال حق التقاضي9.

وجب الانتظار ثلاث سنوات من صدور القانون رقم 7 لسنة 1985 والذي حصن الإجراءات التنفيذية لتطبيق المقولات الثورية وأبرزها على الإطلاق مقولتا البيت لساكنه وشركاء لا أجراء من مراقبة القضاء أو القوانين ذات العلاقة مثل القانون رقم 4 لسنة 1978 حتى صدر قانون محكمة الشعب رقم 5 لسنة 88 بشأن إنشاء محكمة الشعب والذي نص على اختصاصها بالنظر في طلبات الإلغاء أوالرد أو التعويض المتعلقة بالانحراف في تطبيق المقولات الثورية10.

إن موقف المحكمة العليا هذا باعتبار أن القانون رقم 7/ 85 المذكور أعلاه غير موصوم بعدم الشرعية وإنه إجراء وقتي غير دائم، يتناقض مع مبادئ مستقرة للمحكمة العليا بحق اللجوء إلى القضاء، كأحكامها التي تقضي بأن هذا الحق مقدس، وعلى سبيل المثال ما ورد في مبادئها على النحو التالي:

حرمان أي مواطن من حق الالتجاء إلى القضاء مخالف لكل دساتير العالم المكتوبة وغير المكتوبة على أنه إذا خلا إي دستور مكتوب من النص على حق كل مواطن في hghلتجاء إلى قضاء تؤمن له فيه حقوق الدفاع فإن هذا الحق مكفول دون الحاجة إلى النص عليه صراحة لأنه حق مستمد من أوامر العلي القدير وهو من الحقوق الطبيعية للإنسان منذ أن خلق” طعن دستوري رقم 1/ 14 ق، بتاريخ 14- 6- 1970.

وحكمه القاضي بـ ” تجريد الحقوق الدستورية من الحماية القضائية بحجة تنظيم التقاضي يجعل الحريات العامة والحقوق الأساسة .. عبثاً لا طائل من تحته ومثل هذه الحقوق لا يجوز أن تتجاوز سلطة المشرع بتنظيمها إلى إهدارها ومصادرتها”. طعن دستــــــــــوري رقم 1- 19ق، بتاريخ 10-6- 1972.

صدر بعد ذلك القانون رقم 17 لسنة 1994 بتعديل القانون رقم 6 لسنة 1982 بإعادة تنظيم المحكمة العليا، وهو القانون الذي أعاد الاختصاص الدستوري إلى المحكمة العليا.
7- الوثيقة الخضراء لحقوق الإنسان 1988

صدرت في جلسة طارئة لمؤتمر الشعب العام ، نشر قرار أمانة مؤتمر الشعب العام رقم 51 لسنة 1988 في شأن الدعوة لجلسة طارئة في الجريدة الرسمية.

نشرت في عددين خاصين للجريدة الرسمية : الأول في الوثيقة فقط، والثاني رفقة القرار رقم 11 لسنة 1988 بشأن إصدار الوثيقة.

جاء في القرار ” تبلغ الوثيقة.. لكافة المنظمات والهيئات الدولية التي تهتم بحقوق الإنسان في العالم”.

الوثيقة خليط من الأحكام السياسية، وأحكام تتعلق مباشرة بحقوق الإنسان، وأخرى تشير اليها إشارة غير مباشرة.

رغم هذا فإنه يمكن القول بأن ما ورد في الوثيقة من حقوق تجاوزت ما ورد في الإعلان الدستوري من حقوق، خاصة وأن ما سقط سهواً في الوثيقة ( حظر تسليم اللاجئين/ مبدأ الشرعية) تم تداركه بموجب قانون تعزيز الحرية .

الخلاصة: يمكن القول إن الإعلان الدستوري ثبت إنه إعلان مؤقت، فرغ تدريجياً من محتواه، بأبوابه الثلاثة سواء ما تعلق منه بالدولة أو بنظام الحكم والحقوق، وحتى الأحكام المتفرقة والانتقالية.

8- إعلانات ووثائق وقوانين أخرى
إعلان قيام اتحاد الجمهوريات العربية / بنغازي 1971
دستور دولة اتحاد الجمهوريات العربية. (قانون رقم 53 لسنة 1971 في شأن الاستفتاء على الأحكام الأساسية لإتحاد الجمهوريات العربية ودستور دولة الاتحاد.

وثيقة الشرعية الثورية ( تمت الإشارة إليها في القانون رقم 1 لسنة 2007 بشأن نظام عمل المؤتمرات الشعبية واللجان الشعبية، ولم ترد في القــــوانين ذات العلاقـــة) .

لم تنشر وثيقة حقوق وواجبات المرأة في المجتمع الجماهيري في الجريدة الرسمية (مدونة التشريعات كما يطلق عليها اليوم)، كما تمت الإشارة اليها في القانون رقم 1 لسنة 2001 بشأن المؤتمرات واللجان الشعبية دون غيره من القوانين التي تنظم نظام الحكم، علماً بأن هذه الوثيقة التي تضمنتها ديباجة قانون بأهمية القانون رقم 1 لسنة 2001 لم تنشر في مدونة التشريعات، ولا يوجد ما يفيد صدورها عن مؤتمر الشعب العام، إذ ورد فيها : ” أصدرت جماهير النساء في الجماهيرية العظمى بياناً تلي خلال المؤتمر الثاني لانعتاق المرأة الذي أقيم في سبها”. أي أنها في حقيقتها لا تعدو أن تكون بياناً من ملتقى نسائي فحسب11.
قانون تعزيز الحرية رقم 20 لسنة 1991.

9- قوانين رئيسة تتعلق بنظام الحكم:
في غيبة الدستور، تصدت القوانين العادية لبيان قواعد نظام الحكم (سلطة الشعب)/ النظام السياسي للدولة، أي أن نظام الحكم وقواعده تحكمه قوانين عادية.
إن التشريعات ذات العلاقة بنظام الحكم منذ إعلان سلطة الشعب، تتراوح بين عدد ستة قوانين ولوائحها التنفيذية، إضافة إلى لائحة مستقلة، وذلك على النحو التالي:
قرار أمانة مؤتمر الشعب العام رقم 1 لسنة 1979? ولائحته التنفيذية.
قرار الأمانة العامة لمؤتمر الشعب العام رقم 7 لسنة 1980 بشأن لائحة المؤتمرات الشعبية، المعدل بقرار مؤتمر الشعب العام رقم 8 لسنة 1984.

اللائحة العامة للمؤتمرات الشعبية الأساسية الصادرة بقرار مؤتمر الشعب العام رقم 10/ 1987-
القانون رقم 9 لسنة 1984 في شأن المؤتمرات الشعبية .
القانون رقم 16 لسنة 1992 بشأن الهيكلة الإدارية.
القانون رقم 2 لسنة 1423 (1994) في شأن تنظيم المؤتمرات الشعبية الأساسية (ألغي القانون رقم 9 لسنة .1984
القانون رقم 1 لسنة 1425( 1996) في شأن نظام عمل المؤتمرات الشعبية واللجان الشعبية(الغي القانون رقم 2 لسنة 1994)) والمعدل بالقانون رقم 6 لسنة 1426 (1997) بشأن تعديل بعض أحكام القانون رقم 1 لسنة 1425 ) (1996) والقانون رقم 2 لسنة 1428 (1999) بشأن تعديل بعض أحكام القانون رقم 1 لسنة (1425) (1996)

قانون رقم 1 لسنة 1369 (2001) بشأن عمل المؤتمرات الشعبية واللجان الشعبية ولائحته العامة، والمعدل بالقانون رقم 12 لسنة 1371 (2003) بإضافة حكم للقانون رقم 1 لسنة 2001. ( الغي القانون رقم 1 لسنة 1425 (1996)) مع ستمرار العمل باللائحة السابقة لحين صدور لائحتة التنفيذية. ثم صدرت لائحته التنفيذية بتاريخ 18- 7- 2001.
قانون رقم 1 لسنة 1375 (2007) بشأن نظام عمل المؤتمرات الشعبية واللجان الشعبية (ألغي القانون رقم 1 لسنة 2001 مع الاستمرار بالعمل باللائحة التنفيذية للقانون السابق إلى حين صدور اللائحة المنفذة لهذا القانون، و صدرت اللائحة التنفيذية له في 17- 5- 2007

قرار مؤتمر الشعب العام رقم 10 لسنة 2008 بشأن تشكيل لجان مؤتمر الشعب العام، وهي اللجان التالية:
– لجنة الميزانية.
– لجنة توزيع الثروة.
– لجنة الهيكلة الإدارية الجديدة: تتولى إعداد تصور بالهيكلة الجديدة، وتحديد الجهات ذات العلاقة بالعمل الخارجي.
– اللجنة القانونية: تتولى مراجعة التشريعات ذات العلاقة بالهيكلة الإدارية والتنظيمية وتقديم المقترحات بشأنها.
– لجنة النشاط الاقتصادي.

كما جاء في القرار أن تقدم كل من اللجنتين القانونية والاقتصادية تقريرهما إلى أمانة مؤتمر الشعب العام شهر الماء (مايو) من العام الجاري، أما باقي اللجان فتقدم تقاريرها في شهر الفاتح ( سبتمبر) من العام الجاري.
السؤال المطروح هو: هل ستنظم الهيكلة الإدارية الجديدة بقانون عادي في غياب الدستورالأغلب أن الأمر سيكون كذلك.
موقف المحكمة العليا بالخصوص: أكدت المحكمة العليا على أن قواعد ونظام الحكم إنما تنظمه القوانين العادية، إذ ورد في حكم المحكمة العليا في الطعن رقم 131 لسنة 42 ق، الصادر بتاريخ 22- 6- 1998
” إن القوانين المنظمة للنظام السياسي والإداري في الجماهيرية العظمى ابتداء من القانون رقم 16ـ 92 بشأن الهيكلة الإدارية ومروراً بالقانون رقم 2 لسنة 1423 (1994)… ونتهاء بالقانون رقم 1 ـ 25 ( 1996)? قد تواترت على النص على أن المؤتمرات الشعبية الأساسية هي النظام السياسي والإداري في الجماهيرية وأنها الأداة الوحيــــدة لممارسة السلطة في البلاد.
قانون رقم 17 لسنة 1994 بتعديل القانون رقم 6 لسنة 1982 بإعادة تنظيم المحكمة العليا: إعادة الاختصاص الدستوري للمحكمة العليا.

10. ملاحظات ختامية :
إن النظام السياسي في الدولة (نظام الحكم) عقب إعلان سلطة الشعب مباشرة نظمته تشريعات فرعية ( قرارات ولوائح).
ثم بات تنظيمه بموجب تشريعات رئيسة أي قوانين عادية.
ولا ينظمه تشريع أساسي ( دستور).
إن قانونا واحدا فقط من بين هذه التشريعات المنظمة لنظام الحكم نص على أن أحكامه أساسية وهو القانون رقم 1 لسنة 1369 (2001) حيث ورد فيه أن ” أحكام هذا القانون اساسية، وتعدل التشريعات الأخرى كافة بما يتماشى معها”12.
تتسم التشريعات المنظمة لنظام الحكم بعدم الاستقرار، كثرة التعديلات وتعاقبها على وتيرة سريعة.
رغم وجود قواعد أساسية للنظام السياسي في الدولة ( المؤتمرات الشعبية الأساسية/ لجان شعبية/ مؤتمر الشعب العام) إلا أنها مازالت عرضة للتعديل، ومازالت تستحدث هياكل جديدة في إطارها، وعلى سبيل المثال استحداث ما سمي بالمؤتمرات الشعبية غير الأساسية المنصوص عليها في المادة 4 من القانون رقم 1 لسنة 1375 (2007)).

11- خلاصة الجزء الأول
لا وجود لدستور مكتوب موحد في ليبيا.
أن لليبيا تاريخياً تجربة دستورية لم تستمر.
أن الدستور المؤقت ( الإعلان الدستوري) قد فرغ من محتواه بموجب إعلانات ووثائق ذات طبيعة دستورية وبموجب قوانين عادية. إن غياب الدستور في ليبيا جاء تدريجياً حيث غلبت القوانين العادية عليه، كما أعطيت الوثائق أهمية استثنائية.
أن لليبيا وثائق وقوانين عادية ذات طبيعة دستورية، إلا أنها عرضة للتقليل من قيمتها وأهميتها.
السؤال: كيف تتم الصناعة التشريعية في غياب الدستور؟

لكل صناعة: قواعد. أدوات. علم وأيادٍ ماهرة وتراكم خبرة.

أولاً القواعد: قاعدة التدرج في التشريع
التشريع هو المصدر الأساسي للقاعدة القانونية في القانون الليبي، ومايزال رغم كل الجدل الدائر حوله، وذلك استناداً للمادة الأولى من القانون المدني الليبي الصادر في عام 1953 وهو نص يعتبر حجر الأساس في النظام التشريعي الليبي.
ويعرف التشريع بأنه وضع القواعد القانونية في شكل مكتوب من قبل أداة التشريع.
والتشريع في ليبيا قائم على قاعدة مهمة ألا وهي مبدأ التدرج في التشريع (التشريع الأساسي/ التشريع العادي (الرئيس)/ التشريع الفرعي).
قاعدة التدرج في التشريع هي قاعدة راسخة في مبادئ المحكمة العليا، ويمكن على سبيل المثال لا الحصر الإشارة إلى المبدأ التالي:
إن التشريع في الدولة درجات ثلاث، يمثل التشريع الأساسي فيها المقام الأعلى، ويتلوه في المرتبة التشريع العادي أو الرئيس وهو ما يعرف بالقانون، ثم يأتي التشريع الفرعي وهو ما يسمى باللوائح..
وإن هذا التدرج بسن التشريعات في القوة يقتضي خضوع الأدنى منها للأعلى وذلك أن كل تشريع يستمد قوته من مطابقته لقواعد التشريع الذي يعلوه14.
في غياب دستور موحد ومكتوب كما سبق بيان ذلك في السياق التاريخي لتطور الدستور في ليبيا استناداً إلى للمراحل السياسية والتاريخية التي مرت بها البلاد، فقدت القاعدة أحد أعمدتها ومن ثم لا يمكن اليوم القول بأنها سارية بالشكل الهرمي الذي تتخذ منه قالباً كما هو منصوص عليه في القانون المدني.

ولمزيد من التوضيح يمكن بيان ذلك من خلال الشكلين التاليين:
قاعدة التدرج في التشريع وفقاً للمادة 1 من القانون المدني الليبي:
إن كل تشريع يستمد قوته من مطابقته لقواعد التشريع الذي يعلوه، فمن أين تستمد القوانين قوتها؟

الآثار المترتبة على الخلل في قاعدة التدرج في التشريع:
ولو اعتقد البعض بأن الوثائق أو النصوص أو القوانين ذات الطبيعة الدستورية كافية لتحقيق مبدأ التدرج التشريعي، فإن الواقع التشريعي أثبت فشل ذلك فشلاً ذريعاً. وللتدليل على ذلك:
الاختلاف والتضارب بين النصوص ذات الطبيعة الدستورية فيما بينها: مثال: الوثيقة الخضراء/ قانون تعزيز الحرية15.
ضعفها في المنظومة التشريعية وعدم تأثيرها على القوانين السارية الصادرة قبل صدورها بعدم تعديلها بما يتماشى معها.
عدم احترام هذه الوثائق والقوانين عند إصدار القوانين العادية اللاحقة عليها.
تغليب القوانين العادية على وثائق أعطيت لها مكانة دستورية.

عدم قابليتها للتطبيق حسب موقف المحكمة العليا القائل بما يلي:
س.. إن إعلان سلطة الشعب…وهو خطاب كما هو موجه إلى الكافة موجه على وجه الخصوص إلى المشرع، ولذلك فإن التشريعات السابقة على صدور هذا الإعلان لا سبيل إلى إلغائها إلا بأن تنشط المؤتمرات الشعبية الأساسية صاحبة السلطة في التشريع لأداء واجبها في تعديل التشريعات القائمة بما يرفع التعارض بينها وبين أحكام الشريعة الإسلامية طعن دستوري 197/ 39 ق، 3. 11. 1997.

س مبادئ الوثيقة الخضراء غير قابلة للتطبيق حتى تصاغ في قوانين لها قوة الإلزام
ط مدني رقم 58/ 38ق، 23. 11. 1992

التعدي على قواعد دستورية بموجب قوانين عادية: آخرها المادة 13/ من القانون رقم 1 لسنة 2007 بشأن نظام عمل المؤتمرات الشعبية واللجان الشعبية والتي تنص على أنه لا تكون القوانين والقرارات الصادرة عن المؤتمرات الشعبية الأساسية نافذة إلا بعد صياغتها في مؤتمر الشعب العام، عدا القرارت ذات الطابع المحلي التي لا تتعارض مع القوانين النافذة.

و المادة 39/ من القانون رقم 1 لسنة 1369 (2001) بشأن المؤتمرات الشعبية واللجان الشعبية: التي تنص على أنه لا تكون القوانين والقرارات التي تصدرها المؤتمرات الشعبية الأساسية نافذة إلا بعد صياغتها وتلاوتها في مؤتمر الشعب العام…. وتنشر هذه القوانين والقرارات في مدونة التشريعات.
وهما مادتان تتناقضان مع ما ورد في وثيقة دستورية ألا وهو الإعلان الدستوري الذي ينص في المادة 36 على قاعدة نشر القوانين للعلم والإحاطة بها بشكل كاف، بالقول:
ستنشر القوانين في الجريدة الرسمية ويعمل بها من تاريخ نشرها إلا إذا نص على خلاف ذلك.
إحجام المحكمة العليا عن الخوض في طبيعة بعض هذه الوثائق، كموقفها المبين أعلاه في عدم الخوض في طبيعة الوثيقة الخضراء أوإعلان قيام سلطة الشعب، وإحجامها عن بيان فيما إذا كانت ذات طبيعة دستورية من عدمها او على الأقل موقعها في إطار قاعدة التدرج في التشريع.
الإختلاف الفكري و النظري رغم مرور الزمن في تحديد طبيعة هذه الوثائق هل هي دستورية أم مجرد إعلان مبادئ16.
العجز عن بيان مكانتها في المنظومة التتشريعة الوطنية، ويحضرني في هذا موقف الوفود الرسمية الليبية امام اللجان المتخصصة المنبثقة عن إتفاقيات حقوق الإنسان، حيث إنه وبسؤالها من قبل هذه اللجان عن مكانة الوثيقة الخضراء ضمن النظام التشريعي الليبي، فإن إجاباتها ليست واضحة بالخصوص، مما ينم عن عدم معرفة بمكانتها التشريعية17.
الخلاصة: مما سبق بيانه، يمكن الخلوص إلى أن هناك خللاً في قاعدة تدرج التشريع في ليبيا، على اعتبار أن القاعدة السائدة في التشريع _ الذي هو المصدر الأول للقاعدة القانونية_ قائمة على درجات ثلاث تحترم الدرجة الأدنى الأعلى منها، بينما الوضع الحالي هو اننا مازلنا نتخذ من هذه القاعدة أساساً للتشريع بينما قمتها أزيلت.
فإما الأخذ بالقاعدة كما هي عليه بوجود القانون الاساسي متربعاً على قمتها، وإما الاعتراف بأن لا قاعدة لدينا في التشريع، وهو ما يسبب ويفسر الخلل والإرباك الحاليين في الصناعة التشريعية.

ثانياً: أدوات التشريع
لا شك أن مصدر التشريع في ليبيا هي المؤتمرات الشعبية الأساسية، وأن نظاماً سياسياً استحدث في ليبيا منذ عام 1977. وأن التجربة التي مضى عليها اليوم حوالي ثلاثين سنة قد أرست هيكلية سياسية وإدارية ما يمكن معها تلمس قواعد لنظام الحكم، وأرست قواعد دستورية استقر بها المقام، إلا أن التشريعات ذات العلاقة بنظام الحكم وكلها منظمة بموجب قوانين ( تشريعات رئيسة) يؤخذ عليها ما يلي:
عدم الاستقرار وكثرة التعديلات.
عدم استقرار الهيكلية الإدارية للدولة.
سهولة تعديل القوانين ذات العلاقة بنظام الحكم وقواعده، أدى إلى عدم وجود قواعد ثابتة له، وخلق مناخ يجعل من التعديل أمراً سهلاً وممكناً.
سهولة التدخل التشريعي من جهة التنفيذ باقتراح القوانين أو اصدار اللوائح والقرارت بالمخالفة للقانون، دون مراعاة لمبدأ تدرج التشريع المعيب أصلاً.

ثالثاً: العلم والأيدي الماهرة وتراكم الخبرة:
لكل صناعة علم ومهارات وخبرة، أين كل ذلك في الصناعة التشريعية في غياب الدستور؟:
من أين تأتي مشاريع القوانين؟ من جهات الإدارة (اللجان الشعبية العامة) في قوالب جاهزة يصعب على المواطن العادي فهم نصوصها وتغلب عليها مصلحة الإدارة ذاتها.
ويمكن أن نتساءل مثلاً عمن يقوم بإعداد مشاريع القوانين؟ وهل يمكن لجماهير المؤتمرات الشعبية الأساسية استيعاب مثل مشاريع القوانين هذه؟

تمنح المادة 12/8 من اللائحة التنفيذية للقانون رقم 1/07 صلاحيات لأمين الشؤون القانونية و حقوق الإنسان، إعداد مشروعات القوانين واللوائح التي تقترحها أمانة مؤتمر الشعب العام ومراجعة مشروعات القوانين المراد عرضها على مؤتمر الشعب العام. ما المقصود بالمراجعة هنا؟
ما دور أمانة مؤتمر الشعب العام في عملية الصياغة؟ رغم أن القوانين ذات العلاقة تنص على أن الصياغة من اختصاص مؤتمر الشعب العام وليس أمانته؟ وهل بإمكان فئة قليلة أن تستوعب ملاحظات المؤتمرات و بالتالي صياغتها بما يكفل تلبية متطلباتها؟
من يراجع الصياغة التي تتولاها أمانة مؤتمر الشعب العام؟ يفترض أن المشرع هو من يراجع الصياغة (المؤتمرات الشعبية الأساسية) هذا أمر لا يحدث، وتظل اللمسات الأخيرة في يد أمانة مؤتمر الشعب العام.
أمانة مؤتمر الشعب العام هي من يضع ديباجة القوانين ويقرر المهم من الأهم حسب وجهة نظرها.
إن صياغة القوانين علم وفن وخبرة، وإن في كثرة التعديلات وتلاحقها التي نشهدها لدليلا على فقدان هذه الصفات. فبينما مازلنا نتعامل مع القانون المدني والتجاري والجنائي منذ عام 1953 وقانون العلامات التجارية الصادر في عام 1956 فإن القوانين الاقتصادية التي صدرت في بداية التسعينيات عدلت مرات ومرات ( مثال قانون رقم21/ 2001 بشأن مزاولة الأنشطة الاقتصادية المعدل بالقانون رقم 1 لسنة 21 والذي صدرت له أربع لوائح تنفيذية) وما لذلك إلا تفسير واحد ألا وهو ضعف الصناعة التشريعية في غياب الدستور؟
كثرة الوثائق دون تحديد مكانة كل منها أو مرتبتها في الهرم التشريعي أضعفها وقلل من مكانتها.
الحرية في إهمال أو إسقاط أية وثيقة ذات طبيعة دستورية، مثال التعامل مع الإعلان الدستوري وذلك بإهمال الإشارة إليه في عدة قوانين. إذ أن هذا يمكن ملاحظته على العدد 1 من الجريدة الرسمية الصادرة بتاريخ 15- 3- 1977 حيث ضم هذا العدد ما يلي:
البيان الأول للثورة، خطاب زوارة، الكتاب الأخضر/ الفصل الأول، قرار إعلان سلطة الشعب، ولم يضم الإعلان الدستوري.
كذلك ومن خلال الاطلاع على الموقع الالكتروني الرسمي لمؤتمر الشعب العام في باب التشريعات، فإنه يضم البيان الأول للثورة، ووثيقة حقوق وواجبات المرأة، ولا يضم الإعلان الدستوري مثلاً.

خلاصة وتوصيات:
إعادة القاعدة التشريعية إلى وضعها الطبيعي: فلكي تستعيد الصناعة التشريعية أصولها وقواعدها دون خلل يجب إعادة القانون الأساسي إلى قمتها أي وضع دستور مكتوب موحد يضبط العملية التشريعية ويؤطرها.
الهيكل السياسي والإداري: طالما أن نظام الحكم / النظام السياسي للدولة قد أرسى قواعد له بعد مضي أكثر من ثلاثين سنة، وطالما أن هناك وثائق وقوانين تكفل الحريات العامة وحقوق الإنسان إلا أنها غير مفعلة، إضافة إلى انضمام ليبيا إلى الاتفاقيات الدولية ذات العلاقة، فإن قواعد الدستور ذات العلاقة بالحقوق متاحة لا ينقص إلا وضعها في قالب تشريعي أساسي.
البداية ليست من الصفر: وجود مبادئ دستورية مبعثرة في قوانين وإعلانات ووثائق، مما يسهل معه تنقيحها و جمعها، فالبداية ليست من الصفر إذ لدينا تجربة دستورية سابقة.
التأطير للمشرع: ضبط يد المشرع (الصانع) في عملية الصناعة التشريعية من خلال قواعد دستورية تؤطر هذه العملية وتهذبها، وبما لا يمكن معه إهمال أو تعطيل القواعد الدستورية بمزاجية أو لمصلحة ما.
ضرورة النص على الاختصاص الدستوري للمحكمة العليا في الدستور، لتفادي تكرار ما حدث، حتى لا تفتئت عليه القوانين العادية ويكون عرضة للتعديلات بل حتى الإلغاء.
تقول المحكمة العليا في هذا الصدد: إن السلطات القضائية هي التي تختص وحدها بمزاولة تطبيق القانون على الخصومات، والدستور وحده هو الذي يملك تقييد ولاية القضاء وليس للشارع بحجة ترتيب جهات القضاء أن يمنع المنازعات من ولاية القضاء متى ترتب عليها مساس بحقوق الأفراد.
وإذا خرج القانون على هذا الأصل الدستوري كان معطلاً لوظيفة السلطة القضائية ويعتبر لذلك غير دستوري طعن دستوري رقم 1/ 72ق، صادر يتاريخ 10/6/1972.
الحاجة إلى حراك دستوري، وإثراء قضائي دستوري، بدلاً من حالة الركود التي يعيشها القضاء بالخصوص، رغم عودة الاختصاص الدستوري ووضع اللائحة الداخلية للمحكمة العليا.

إعادة نشر بواسطة محاماة نت