دراسة حول الإشعار بدون صائر في ميدان تحصيل الديون بين إرادة المشرع واختلاف مواقف القضاء الإداري المغربي

يشكل تحصيل الديون العمومية ذلك الجانب التنفيذي للقرارات الإدارية المالية الصادرة عن الجهات التي خول لها المشرع مباشرة إجراءات التحصيل، باعتبارها من بين أهم المساطر الحساسة التي استأثرت ولازالت تستأثر باهتمام المدينين بالديون العمومية ، والذين عادة ما يتعاملون مع آجالات التحصيل بنوع من الحذر والحيطة ، ويدخلونها في برامجهم وحياتهم الخاصة.

ولقد كانت هذه الإجراءات تخضع لظهير 21 غشت 1935 ، قبل صدور القانون97\15[1] بمثابة مدونة تحصيل الديون العمومية[2].

وهذه الأهمية التي انفردت بها عملية التحصيل لا تقتصر على المدينين فقط بل تنسحب إلى الخزينة العامة للمملكة التي توليها درجة من الأهمية ، ذلك أن استراتيجياتها التنموية ونفقاتها رهينة بما تم استخلاصه من موارد في غالبيتها مستحقة الأداء.

ولهذا كان لزاما على المشرع أن يمتع المحاسبين العموميين بصلاحيات واسعة لضمان تحصيل الضرائب ، وكذا منحهم ضمانات أساسية من شأنها أن تجعلها ديونا محققة ومصانة من أي هدر أو ضياع أو تماطل في الأداء. وقد تمظهرت هذه الضمانات التي هي في نفس الوقت تكرس حماية المشرع لحقوق المدينين ، في ضرورة تجميع الديون العمومية والحصول على الترخيص المسبق[3] ، وكذلك إرسال أخر إشعار بدون صائر derniére

Avis sans frais، باعتباره إجراء شكلي من إجراءات التحصيل الحبية للديون العمومية. وهو عبارة عن تنبيه بالأداء أو تذكير بالمديوينة يتم سدادها للقباضة المعنية بها ، بعد انصرام المدة القانونية المقررة في هذا الإطار[4]

ولعل أن هذا الإجراء الأخير، أي إرسال أخر إشعار بدون صائر له أهمية قصوى للاعتداد بالإجراءات اللاحقة وترتيب الآثار القانونية عليها ، حيث يجب أن يحتوي على معلومات تبين المدين ومعلومات تفيد نوع الضريبة ومبلغها ، بالإضافة إلى مطالبة المدين بأداء الضرائب ، وإخباره بأنه سيكون عرضة للمتابعة بعد مضي 20 يوما على إرسال هذا الإشعار. وإذا كان هذا الإجراء لا يرتب أي مصاريف ضد المدين حتى لو لم يأتي بنتيجة ، إلا أن الإشكال الذي يثيره هذا الإشعار يكمن في كون إرادة المشرع تفيد إرساله فقط وليس تبليغه ، الشيء الذي أفضى إلى وجود تضارب بين اجتهادات القضاء الإداري التي تارة تتمسك بحرفية المادة 36 من مدونة تحصيل الديون العمومية وتارة أخرى تستبعدها وتأكد على ضرورة تبليغ المدينين ، أي تحقق واقعة التوصل.

واستنادا إلى ما سبق نطرح الإشكالية التالية.

إلى أي حد يمكن أن نعتبر إرسال أخر إشعار بدون صائر وليس تبليغه حماية أقرها المشرع للمدينين ؟ وما موقف القضاء الإداري من عبارة الإرسال ؟ هل يتمسك بها ؟ أما يتجاوزها للتأكيد على ضرورة التبليغ؟.

ومن أجل الإلمام الموجز بشتات هذا الموضوع ارتأينا تقسيمه تقسيما ثنائيا في فقرتين على الشكل الآتي :

الفقرة الأولى : قراءة في المادة 36 من مدونة تحصيل الديون العمومية.

الفقرة الثانية : تضارب مواقف القضاء الإداري تجاه مسألة إرسال أخر إشعار بدون صائر.

الفقرة الأولى : قراءة في المادة 36 من مدونة تحصيل الديون العمومية.

يأتي صدور القانون 97\15 المتعلق بتحصيل الديون العمومية ، في إطار سعي المشرع لبلورة مرحلة جديدة في علاقة المدين بالدين العمومي، إذ أن أهداف هذا القانون تمثلت في تنمية الموارد المالية ، ومحاربة افتعال العسر ، وتبسيط مساطر التحصيل ، وتسلسل إجراءاتها ، ناهيك عن خلق إطار جديد مبني على الثقة واحترام الملزم.

وللوقوف على هذه الأهداف قررت الربط بين ما توخه المشرع من القانون وما هو موجود بين ثنايا مقتضياته القانونية.

فعلى مستوى الإشعار بدون صائر نجد أنه رغم الحيز الصغير من حيث المقتضيات القانونية التي تؤطره ، له حمولة كبيرة من حيث ترتيب الآثار القانونية بالنسبة للإجراءات اللاحقة لتحصيل الديون العمومية.

فباستقرائنا فعلا للمقتضيات القانونية المنظمة للإشعار بدون صائر (المادة 36 من م.ت.د.ع)نجد أن المشرع ينص في هذه المادة على أنه ” لا يمكن مباشرة إجراءات التحصيل الجبري إلا بعد إرسال أخر إشعار للمدين بدون صوائر…” وعلى سبيل المقارنة تقابل هذه المادة من حيث المعنى والدلالة المادة 255 من مدونة المساطر الجبائية في التشريع الفرنسي التي جاء فيها : ” le comptable du trésor chargé du recouvrement doit envoyer au contribuable une lettre de rappel avant la notification du premier acte de poursuite.

ولعل من الوهلة الأولى يمكن أن نخرج بملاحظة مفادها أن المشرع ألزم المحاسب بإرسال هذا الإشعار وليس تبليغه ، استنادا إلى عبارة لا يمكن مباشرة التحصيل الجبرية، التي تفيد الوجوب ، بمعنى أن المحاسب ليست له سلطة أو مجال لتأويل النص.

وإذا كان المشرع ألزم المحاسب ، فإنه لم يلزمه بالتبليغ إنما الإرسال . وهذا الأخير قد يتحقق معه العلم والإخبار أو العكس ، وبالتالي في حالة عدم تحقق العلم لدى المدين ، فإن المشرع أجاز بعد انصرام أجل 20 يوم على الأقل من إرسال أخر إشعار بدون صائر[5] مباشرة إجراءات التحصيل الجبري التي تبتدأ بالإنذار.

أما التبليغ الذي استبعده المشرع فهو يفيد في هذا المجال إيصال الإشعار للمدين والإخبار به ، أي تحقق العلم لديه بهاذ الإشعار

إذن ، المستشف من هذا المقتضى القانوني (المادة 36 من م.ت.د.ع) أن تنصيص المشرع على الإرسال وليس التبليغ يدل على وجود تراجع تشريعي عن أهم الضمانات الأساسية التي كان المدينين بالديون العمومية يتمتعون بها في ظل ظهير 21 غشت 1935 المنظم لمساطر وإجراءات استخلاص ديون خزينة الدولة . والذي تنص المادة 24 منه على أنه :

” أنه لا يجوز للقابض أن يشرع في المتابعة التي يترتب عنها صوائر إلا بعد إخطار الملزم بالضريبة المتأخر عن أدائها دون صائر، أو إعلام جماعي يبلغ في شكل لائحة اسمية إلى السلطة المحلية التي تتكلف بدورها بتبليغه إلى المعني بالأمر بواسطة استدعاءات فردية”.

وهكذا، إذا كان هدف المشرع من إخراج هذا القانون إلى حيز الوجود إحداث إصلاحات جوهرية على مستوى الحياة الاقتصادية من خلال مواكبة قانون الأعمال ، بالإضافة إلى تبسيط وتوحيد النصوص القانونية التي كانت تنظم ديون الخزينة ، والتي كانت مشتتة في عدة مقتضيات[6]. فإن تنصيصه على مجرد الإرسال وليس التبليغ. هذا إلى جانب مجموعة من الثغرات التي تكتنف مدونة تحصيل الديون العمومية ، قد يؤدي ذلك إلى سقوط القانون 97\15 في فخ تضارب مقتضياته مع أهدافه ، لاسيما أن تنصيصه على الإرسال وليس التبليغ يؤدي إلى عدم توصل المدين بالإشعار في غالب الأحيان ،و في المقابل المحاسب العمومي بمجرد انقضاء أجل 20 يوما يباشر إجراءات التحصيل الجبري التي قد تمس مالية المدينين أو تعرقلها ،و بالتالي المساس بالسير العادي للمقاولات والشركات التي تساهم في ضخ موارد مالية مهمة في خزينة الدولة.

وعليه ، فإذا كانت إرادة المشرع تفيد طبقا لهذه المادة مجرد الإرسال ، فيمكننا التساؤل عن موقف القضاء الإداري تجاه هذه المادة. فهل يتمسك بحرفية النص أم يتجاوزه لإقرار حق المدين بتبليغه بشكل صحيح.

الفقرة الثانية : تضارب مواقف القضاء الإداري تجاه مسألة إرسال أخر إشعار بدون صائر.

إن تنصيص المشرع في المادة 36 من مدونة تحصيل الديون العمومية على إرسال أخر إشعار بدون صائر جعل الجهات المخول لها تحصيل الديون العمومية تتمسك بحرفية النص ويساندها في ذلك جانب من القضاء ، ففي حكم صادر عن المحكمة الإدارية بالدار البيضاء[7] اعتبرت فيه أنه : وحيث فيما يتعلق بالتمسك بعدم احترام المدعي عليها لتدرج المتابعات ، فقد خلصت المحكمة إلى خلاف ذلك مادامت إدارة الجمارك قد وجهت للمدعية أخر إشعار بدون صائر ، وقيدته بسجلاتها ، وهو إجراء لا يطعن فيه إلا بالزور حسب المادة 26 من م.د.ت.ع ، ولا مجال هنا للاحتجاج بالتبليغ ما دام لم يتم التنصيص عليه قانونا(….)

نفس الاتجاه سلكته محكمة الاستئناف الإدارية بالرباط في إحدى قراراتها[8] حيث اعتبرت هي الأخرى أنه على عكس الإنذار القانوني الذي اشتراط فيه المشرع وجوب تبليغه إلى المدين بمقتضى المادة 41 من م.د.ت.ع ، فإن الإشعار بدون صائر كإجراء يسبق الشروع في عملية التحصيل الجبري اشترط فيه فقط أن يثبت تبليغ الإشعار كما لا يمكن المنازعة في واقعة الإرسال إلا عن طريق الطعن بالزور في التقييد المذكور.

وحيث في نازلة الحال ، فالثابت من أوراق الملف أن القابض المكلف بالتحصيل وقبل تبليغ المستأنف بالإنذار القانوني رقم 3521 بتاريخ 22\7\2009 ، بادر إلى توجيه أخر إشعار بدون صائر بتاريخ 2\6\2008 عن رسم السكن والخدمات الجماعية المفروضة عن سنة 2008 كما تم تقييد التاريخ المذكور بالجدول الضريبي والذي يفيد احترام الأجل الذي يفصل بين إرسال الإشعار بدون صائر وتبليغ الإنذار القانوني المحدد في 20 يوما طبقا لمقتضيات المادة 41 المشار إليها أعلاه في حين لم يثبت الإشعار المذكور بالنسبة للضريبة المفروضة عن سنة 2007 بحكم أن الجدول الضريبي الثاني المدلى به من طرف القابض يخص سنة 2009 غير المنازع فيها ، الأمر الذي يتعين معه إلغاء الحكم المستأنف جزئيا فيما قضى به من رفض الطلب بخصوص سنة 2007 وتصديا الحكم ببطلان إجراءات التحصيل المتعلقة بها موضوع الإنذار عدد 3251\ 2009.

وإذا كان هذا الاتجاه الذي تبنته بعض المحاكم يقف عند حرفية النص ، فإنه يوجد من الأحكام الصادرة عن القضاء الإداري المغربي التي اتخدت اتجاها معاكسا بتأكيدها على أنه لابد لكي يحدث الإشعار بدون صائر أثره اللاحق يجب أن يصل إلى علم الملزم ، وبناء على ذلك صادرت مجموعة من القرارات والأحكام قضت ببطلان جميع الإجراءات اللاحقة بعدما تبين عجز المحاسب العمومي عن إثبات تبليغ الإشعار بدون صائر . وفي هذا الصدد نعزز قولنا بقرار[9] صادر عن الغرفة الإدارية بمحكمة النقض، والذي جاء فيه ما يلي ” لكن حيث أن المستأنف لم يثبت تاريخ تبليغ الإشعار بدون صائر إلى المستأنف عليه حتى يكون صحيحا ومنتجا لآثاره لأن هذا التبليغ يعتبر ضمانة جوهرية للمدين (المستأنف عليه) قبل فرض غرامات التأخير عليه ولا يكفي الإرسال بالجداول الضريبية واحترام الأجل القانوني لمباشرة إجراءات التحصيل اللاحقة بل لابد من تبليغ الإشعار المذكور تحت طائلة بطلان تلك الإجراءات و أن الحكم المستأنف لما سار على هذا النحو كان صائبا وواجب التأييد.

وتكريسا لنفس التوجه صادر قرار[10] عن محكمة الاستئناف الإدارية بالرباط ،وهي تؤيد حكم للمحكمة الإدارية بالرباط عندما أكدت أنه : مجرد إرسال الإنذار بدون صائر لا يمكن أن ينتج أثره في مواجهة الملزم و إنما يجب تبليغه إليه باعتبار أن الغاية من هذا الإجراء هو علم الملزم بالدين العمومي العالق بذمته وليس مجرد تقييد إرساله بالسجل المحدد ، لذلك لا يرتب أثر التبليغ القانوني المعتدد به وأن عدم القيام بتبليغ الإشعار بدون صائر للمطلوب بالحجز يترتب عنه بطلان الإجراء الموالي له مما يكون معه السبب المثار غير مرتكز على أساس والحكم المستأنف كان صائبا وواجب التأييد.

وبناء على هذه العينة من الأحكام والقرارات الصادرة عن القضاء الإداري المغربي. يتضح أنها أسست لاتجاه لا يقف عند مضمون المادة 36 من مدونة تحصيل الديون العمومية ، بل يتخطى مضمونها ليقرر مبدأ غائي يقوم على كون التبليغ هو الغاية من مسطرة الإشعار بدون صائر ، ذلك أنه يشكل ضمانة جوهرية للمدين في مواجهة الذعائر والزيادات عن التأخير جراء عدم توصله بهذا الإجراء.

إجمالا يمكن القول أنه حان الوقت لكي يتدخل المشرع بإصلاحات جوهرية على مستوى مدونة تحصيل الديون العمومية ، واعتماد استراتيجية جديدة مبنية على الحكامة ووضوح النصوص الضريبية ، لاسيما أن مثل هذه التأويلات للنصوص والإشكالات التي تثيرها بعض مقتضياته تخلق نوع من عدم الاستقرار على مستوى الاجتهادات القضائية الإدارية .

وهذه الإصلاحات يجب أن تبدأ بإعادة النظر المادة 36 بالتنصيص على التبليغ أو التوصل الشخصي للمدين ، كضمانة لفائدته ، وكإجراء يساهم في تمكين الخزينة العامة من المبالغ الضريبية التي غالبا ما تكون مستحقة الأداء ، ودون الحاجة إلى سلوك الإجراءات الجبرية..

المراجع

[1] – ظهير شريف رقم 1.00.175 صادر في 28 من محرم 1421 ( 3 ماي 2000) بتنفيذ القانون رقم 97\15 بمثابة مدونة تحصيل الديون العمومية.

[2] – ذ. محمد شكيري القانون رقم 97\15 المتعلق بتحصيل الضرائب والديون العمومية : قراءة أولية مقال منشور بالمجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية عدد 37 مارس أبريل 2001 ص 21.

[3]– المادة 37 من مدونة تحصيل الديون العمومية.

[4]– ذ. مهدي خرجوج إشكالية الإشعار بدون صائر على ضوء مدونة تحصيل الديون العمومية مقال منشور بمجلة القانون المغربي العدد 36 مكرر دجنبر 2017 ص 96.

[5] – المادة 41 من مدونة تحصيل الديون العمومية.

[6] – محمد شكيري مرجع سابق ص 22.

[7] – حكم صادر بتاريخ 11\6\2008 ملف عدد 241\6\2008 أورده مهدي خرجوج في أطروحته لنيل الدكتوراه في القانون العام تحت عنوان الرقابة القضائية على العيوب المسطرية في المادة الجبائية بالمغرب جامعة محمد الخامس سلا سنة 2018 ص 275.

[8] – قرار عدد1518 بتاريخ 9\4\2012 ملف عدد 499\10\9 أورده مهدي خرجوج في نفس المرجع أعلاه ص 276.

[9] – قرار تحت عدد 503 بتاريخ 23\6\2004 في الملف الإداري عدد 6\4\2003 أورده عبد الرحمان أبليلا في كتابه الإثبات في المادة الجبائية بين القواعد العامة وخصوصيات المادة مطبعة الأمنية الرباط 2013 ص 175.

[10] – قرار عدد 73 بتاريخ 06\1\2011 ملف إداري عدد 357\09\9 أورده مهدي خرجوج في اطروحته مرجع سابق ص 278.

إعادة نشر بواسطة محاماة نت