حوادث السير بين القانون و الوعي لدولة البحرين

تزايدت في مملكة البحرين أخبار الحوادث المرورية البليغة تزايدا مطردا في الأعوام الماضية الممتدة ربما منذ افتتاح الجسر إلى يومنا هذا، وذلك بسبب ازدياد أعداد السيارات، وهي زيادة طبيعية ترجع إما إلى ازدياد أعداد زوار البحرين وإما إلى زيادة سكان المملكة بمن فيهم الفئة العمرية المصرح لها قانونا بالقيادة.

إلا أننا يجب ألا نغفل عدة أمور منها: التغيرات المجتمعية التي صاحبت هذه السنين من انفتاح على العالم الخارجي والثقافات الغريبة على مجتمعنا التي أدت إلى ازدياد الاستهتار لدى الشباب وحتى الكبار، وخصوصا عند اكتظاظ الشوارع وما يفعله الزحام من استهلاك لأعصاب الناس في ساعات الذروة، وإهمال تطوير التوعية المرورية بصورة يمكنها أن تحقق الفائدة المرجوة منها على أسس علمية حديثة، وتطوير قوانين الحصول على رخص القيادة وقوانين السير وتشديد تطبيقها، ووضع حدود دنيا لمواصفات السلامة للسيارات المباعة في المملكة.

فإذا كنا لم نلحظ تأثير كل ذلك في الأعوام الماضية إذ كانت أعداد السيارات وأحجامها وسرعاتها أقل، فإننا نلمس ذلك الآن عندما نقرأ عن أو نرى أمامنا الحوادث اليومية وما يصاحبها من فقد للأرواح إلى جانب الخسائر المادية المباشرة كأضرار السيارات والممتلكات، وغير المباشرة ككلف علاج الإصابات وفقدان ساعات العمل وغيرها.

من هذا المنطلق فإنه لابد من البحث عن سبل لحل هذه القضية لأن تأثيرها بالغ ويشمل كل من يعيش على أرض المملكة بلا استثناء، وهي مهمة ملقاة على عاتق الجميع، فالأسرة متمثلة في الأب والأم، يجب أن تلتزم بقوانين السير لتكون مثلا أعلى لأبنائها وتقوم بتعويد الطفل منذ الصغر على الالتزام بهذه القوانين بالإصرار على استعمال مقاعد السلامة المخصصة للأطفال ووضعها في المقعد الخلفي، وعندما يكبر الطفل ويصبح بالغا يجب ألا تفتخر العائلة بسعيها إلى الحصول على رخص القيادة لأبنائها قبل بلوغهم السن القانونية، فذلك تجاوز خطير للقانون يتحمل مسئوليته رب الأسرة والموظف المسئول الذي صرح بالرخصة، وقد يؤدي ذلك إلى الحسرة عندما تفقد الأسرة ابنها أو ابنتها في عنفوان الشباب بسبب لحظة طيش في هذه السن الحرجة إضافة إلى الخطر الذي يشكله مثل هذا السائق على أرواح الآخرين. ولا يمكن أن تتمكن الأسرة من تعليم أبنائها مع عدم وجود ما يساعدها على ذلك من وفرة التعليمات والتحذيرات والتذكيرات في وسائل الإعلام المختلفة والكتيبات المصاحبة للسيارات وحملات التوعية المختلفة التي تنظمها المؤسسات الحكومية والأهلية والتجارية في المناسبات الخاصة والعامة وحتى الدينية منها.

وعلى المدارس أن تقوم بدورها بتعليم الطلاب قواعد السير والمشاة، والتعاون مع إدارة المرور لتنظيم نقل الطلبة في أوقات تختلف عن أوقات الذروة، واشتراط مواصفات السلامة في الباصات وتحديد عدد الطلبة المسموح به في كل باص، فالباصات المكتظة فوق طاقتها تشكل خطرا بالغا على من هم بداخلها أثناء وقوع حادث ولو بسيط، بالإضافة إلى تصميم الشوارع المحيطة بالمدارس بحيث يكون المدخل الرئيسي غير مطل على الشارع العام، وتحديد السرعة القصوى على هذه الشوارع أثناء وجود الطلبة بحيث تكون أقل من الشوارع الأخرى مع مراقبتها رقابة صارمة.

إلى جانب دور المؤسسات الإعلامية المهم في التوعية والإبداع في هذه البرامج، لا تقل المؤسسة الدينية أهمية. فالإسلام أسلوب حياة وليس دين عبادة فقط، لذلك في المسجد والمأتم ومن خلال الخطاب الديني يجب تذكير المؤمنين بأن مخالفة قوانين السير وما قد تسببه من إزهاق للأرواح وخسائر في الممتلكات يعتبر عند بعض المشرعين الدينيين مخالفة للدين وروحه، ففي سؤال للمرجع السيد محمد حسين فضل الله بخصوص مخالفة قانون السير كتجاوز الإشارة الحمراء مثلا، أكد حرمة هذا الفعل لما قد يترتب عليه من عواقب وخيمة قد تزهق بسببها الأرواح.

وتتحمل المؤسسة الحكومية المعنية، بحكم اطلاعها المباشر على الحوادث وكل ما يتعلق بها، الجزء الأكبر من هذه المسئولية وذلك بتعريف الناس بوجود هذه المشكلة من خلال نشر إحصاءات دورية بالحوادث بأنواعها المختلفة ونتائجها وحتى كلفة خسائرها لكي يشعر الناس بحجم المشكلة وبأهمية دورهم في المشاركة في حلها.

بعد ذلك يتم توجيه المؤسسات الأخرى إلى تطبيق قواعد ومهمات توعوية مختلفة، كل بحسب مجاله، وبناء على دراسات ميدانية تبحث في الأسباب المتغيرة للحوادث.

فمثلا ثبوت تزايد الحوادث والاختناقات المرورية بسبب ازدياد أعداد السيارات يدفع إلى التوجيه والتشجيع على الانتقال الجماعي وايجاد وسائل نقل عامة محسنة وفعالة، إلى جانب تغيير مواقيت الحضور والانصراف بين المؤسسات، ووضع برامج راديو أو لوحات إلكترونية على الشوارع الرئيسية تبين مدى ازدحام تلك الشوارع لكي يتمكن السائق من تحويل مساره وبالتالي تخفيف الازدحام.

الواقع أننا في مجتمعنا مغرمون بتقليد الغرب في توافه الأمور كاللبس والأكل وغيرهما، ويعتقد البعض أن هذه مقومات الحضارة، إلا أننا نغفل مدى وعي والتزام تلك الشعوب وهذا أول وأهم خطوة حضارية. ففي الولايات المتحدة الأميركية مثلا – على الأقل في بعض الولايات – لا يسمح لك بقيادة السيارة في سن أقل من ستة عشرة عاما، وقد يرى البعض أن هذه السن صغيرة، وأنا اعتقد ذلك أيضا، إلا أن القانون المصاحب هو الأهم، إذ ينص على وجوب حضور كل من يريد القيادة قاصرا (من 16 إلى 21 عاما) أو بالغا (فوق 21 عاما) ساعات صفية محددة لدراسة نظم السير، وتشمل تلك الساعات الصفية كل صغيرة وكبيرة تتعلق بالقيادة بما فيها الوقوف الصحيح وكيفيته في مواقف السيارات أو في الأماكن غير المعتادة كالمرتفعات والمنحدرات، وكيفية التعامل مع المشاة والسماح لهم بالعبور، وكيفية التجاوز أو الدخول في الشوارع السريعة… إلخ من جميع ما يقوم به السائق أثناء القيادة، ويشمل كذلك التعريف بعقوبات المخالفات وما يترتب عليها، كما سأذكر لاحقا.

بعد ذلك يسمح لطالب رخصة القيادة بالتدريب العملي من خلال مدارس التدريب، ثم يتم امتحانه كتابيا في قوانين السير، وعندما ينجح يسمح له بدخول الامتحان العملي، وبعد النجاح يعطى الكل رخصة قيادة تجريبية لمدة لا تقل عن عام تخضع لقوانين أكثر صرامة. وعلى القاصر التزامات أكثر، فمثلا بعد توقيع ولي أمره أوراق التزام وتحمل المسئولية، لا يسمح له بالقيادة بصحبة أكثر من شخص واحد أو القيادة في ساعات متأخرة من الليل.

ويلزم كل سائق عند حدوث أي تجاوز لهذه القوانين بغرامة مالية وعقوبة إضافية تتفاوت بحسب مستوى المخالفة، فالمخالفة الكبيرة قد تؤدي إلى سحب الرخصة لمدة قد تصل إلى عامين وبعد ذلك يجب أخذ دورات في السلامة على الطريق ودخول الامتحان مرة أخرى قبل الحصول على الرخصة التجريبية مجددا. ويتضمن القانون أيضا، إضافة إلى الغرامة المالية، احتساب ما يسمى بـ «النقاط» ضد المخالف، يختلف عددها بحسب كل مخالفة، وعادة ما تكون مضاعفة أثناء الفترة التجريبية وتتضاعف بعد المخالفة الأولى، وبعد تجاوز عدد معين من النقاط خلال عام واحد تسحب الرخصة وينطبق عليها ما ذكرت سابقا للحصول عليها مرة أخرى. وطبعا لك أن تتخيل المصاعب التي يمكن للشخص أن يمر بها من جراء ذلك، ولهذا ترى نسبة الالتزام عالية بين الناس في هذا البلد والقيادة فيه أكثر أمانا.

ولأزيدك من الشعر بيتا، وإذ إن القانون متكامل، ترى أن مؤسسات التأمين على السيارات تحصل على تاريخ مفصل عن السائق وعن تجاوزاته، ومن خلال معايير معينة، ربما ترفض طلب التأمين أو تأمن له بسعر أكبر لا يمكن تخفيضه إلا بعد مرور مدة معينة من دون مخالفات أو حوادث.

إضافة إلى ذلك فإن مؤسسات التأمين وبناء على دراسات ميدانية وعلى المعلومات التي تحصل عليها من إدارة المرور والمعلومات التي تطلبها من المتقدم بطلب التأمين كالعمر (الشاب في مقابل الأكبر سنا)، والحال الاجتماعية (المتزوج في مقابل الأعزب)، ونوعية السيارة (الرياضية في مقابل السيارة العادية) تحتسب أسعار مختلفة للتأمين، كل ذلك للحث على الالتزام وعدم التهور لأن العواقب أقلها ستكون مالية ومضنية.

كما أشرت فإن النظام متكامل، لذلك فإنه عندما وضع القانون الذي يلزم جلوس الطفل في مقعد مخصص فإنه ألزم كذلك شركات تصنيع السيارات بمواصفات معينة يجب توافرها في السيارة لتثبيت هذة المقاعد ووضع التعليمات بشأنها في كتيبات السيارات، كما يجب أن تلتزم شركات تصنيع المقاعد أيضا بمواصفات معينة لكل عمر أو وزن للطفل، وبتوفير التعليمات الكاملة عن كيفية استخدام هذة المقاعد وتثبيتها في السيارة لكي لا تصبح خطرة أثناء الحوادث وتفقد فائدتها. واستكمالا لذلك ألزمت المؤسسات الطبية بعدم السماح بأخذ الأطفال حديثي الولادة من المستشفى إلا في المقعد المناسب كما يتم السؤال والتأكد من استخدام مقعد الأطفال أثناء الزيارات الدورية للطبيب، إلى جانب توفير خدمة المساعدة في التثبيت الصحيح للمقعد من قبل مؤسسات السلامة الحكومية كالشرطة والاطفاء ما أدى إلى تنافس الشركات المصنعة لتوفير مقاعد بأسعار معقولة من دون الإقلال من مواصفات السلامة.

نظم البحرين أفضل

نحن في البحرين لا نقل عنهم في وجود القوانين والنظم الأساسية، بل لدينا نظم أفضل بكثير من بعض الولايات، إلا في بعض الفروقات كتقنين طرق التدريب العملي لكي تتضمن كل الأساسيات فلا تختلف من مدرب إلى آخر، والامتحان الكتابي للتأكد من معرفة الشخص للقوانين، واحتساب النقاط لكل مخالفة لمعرفة كثيري التجاوزات وتوقيفهم قبل التسبب في حوادث أكثر، والتشديد في مسألة سحب الرخصة وإعادتها بعد دخول الامتحان مرة أخرى، وأخيرا نظام التأمين الذي يعتقد البعض أنه ظالم، ولكن هذا هو الواقع، فمن يخالف أكثر يعتبر أكثر خطورة من غيره على نفسه وعلى الآخرين وإذا وجد الناس أنفسهم يدفعون مبالغ أكبر للتأمين على سياراتهم بسبب مخالفاتهم (طبعا من خلال ضوابط تضعها المؤسسة التنفيذية) سيبدأون بالتفكير والحذر عند قيادة سياراتهم وبالتالي الالتزام بقواعد السير.

نعم، نحن لدينا كل القوانين والنظم الأساسية ولكنا ينقصنا الوعي، فمثلا، يقوم بعض المدربين بتوقيع ساعات إضافية للمتدربين للتعجيل من دخولهم الامتحان العملي متناسين أنهم قد يكونون هم أنفسهم ضحايا لهؤلاء الأشخاص عندما يقودون السيارة قبل أن يحصلوا على التدريب الكافي. وينقص الناس وعي الالتزام بالنظم والقوانين التي وجدت لحمايتهم وحماية الآخرين، وهي سمة يجب أن تكون مميزة لشعب مسلم متعلم، فهم لا يتوانون عن الوقوف في الأماكن الخطأ أو القيادة بسرعات خيالية أو اجتياز الإشارة الحمراء ويتناسون أنهم يعرضون أنفسهم وعوائلهم وغيرهم للموت. وينقصنا الوعي حتى في تطبيق القانون، فكم مخالفة يتم شطبها لمجرد أنك تعرف رجل المرور أو موظفا في إدارة المرور، ولو وجدت رقابة لما حدثت هذه التجاوزات، إلا أنه حتى مع عدم وجود الرقابة، يجب أن يكون هناك إحساس شخصي بالمسئولية تجاه الآخرين والنفس لأننا جميعا نستعمل الشارع نفسه الذي قد نكون نحن إحدى ضحاياه إن تركنا هؤلاء المستهترين من دون رادع.

نرى من ذلك أننا في حاجة إلى أنظمة متكاملة يشارك في وضعها وتطبيقها كل أعضاء المجتمع ومؤسساته الحكومية والأهلية، كما يجب ألا تترك من دون تطوير وخصوصا مع تغير خصائص المجتمع على الدوام وهذه سُنّة الحياة. فبالأمس كان عدد السيارات قليلا والآن في ازدياد، وأمس كنا بلدا مغلقا والآن يأتي الزوار من كل أنحاء العالم، وكانت السيارات بسيطة وصغيرة أما الآن فهي بجميع الأحجام والأشكال والسرعات، وكانت الشوارع صغيرة والآن يجب أن تطور وتصمم لكي تستوعب هذة التغييرات وتصبح أكثر أمانا، وليس عيبا أن نأخذ من تجربة الآخرين فالهدف أسمى بل ويجب علينا أن نبدأ من حيث انتهوا ونشارك في تطويره لنصبح في مصافهم، وقبل هذا وذاك نحتاج إلى الوعي بأهمية هذه الأمور والعمل من منطلق أن الحل مسئوليتنا جميعا