حق الإضراب والعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية

دكتور مصطفى عبد الكريم

تكرر إضراب العمال في جمهورية مصر العربية في الآونة الأخيرة، وأشهر إضراب( ) عمال غزل المحلة سنة 2008م، وانتهى الأمر بحل هذا الإضراب بشكل ودي وبعد ثورة 25 يناير 2011 تكرر الاضراب بشكل ملحوظ يهدد الامن القومى للدولة ، وصل لدرجة تودي إلى تهديد نجاح الثورة في ظل تعدد المطالب الفئوية، وكان قبل ذلك قد قدم عدد من سائقي السكك الحديد للمحاكمة استنادًا إلى أحكام المادة 124 من قانون العقوبات، وأصدرت محكمة أمن الدولة العليا حكمها ببراءة جميع المتهمين من التهم التي أسندت إليهم، استنادًا إلى العهد الدولي بشأن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وفي ضوء ذلك ماهو المقصود بالإضراب؟ وما مدى مشروعيته؟ وعلى ذلك نتناول هذا المبحث في مطلبين:
المطلب الأول: ماهية الإضراب.
المطلب الثاني: مدى مشروعية الإضراب.

المطلب الأول
ماهية الإضراب

يعد الإضراب من الوسائل التي يلجأ إليها العمال في حالة تعسف رب العمل ضدهم وحرمانهم من بعض الامتيازات المهنية، فيلجئون إلى الإضراب لحمل رب العمل على إجابتهم إلى مطالبهم، على أنه قد يترتب على الإضراب الإضرار البالغ بالمصلحة العامة، لذا فهو حق مقيد بشروط، وإلا انقلب إلى فوضى، وفي إطار هذه المقدمة نجد أن الإضراب بمعناه الإصطلاحي لم يكن معروفًا عند العرب قديمًا، ولم يرد ذكر كلمة الإضراب في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة( ).
وكانت الوثائق التاريخية تشير إلى وقوع العديد من حركات الإضراب في الحضارات الإنسانية القديمة، مثل الحضارة الفرعونية( ) والإغريقية والرومانية، على أن الإضراب لغة يعرف: بأنه الكف والإعراض، فيقال كفوا عن العمل حتى تجاب مطالبهم والإضراب مصدر أضرب، وأضرب في العرف، يعني الإعراض عن القيام بعمل معين( ).
ويرجع الأصل التاريخي لكلمة الإضراب (la gréve) إلى مكان بالعاصمة الفرنسية باريس يطلق عليه “Place de greve”، وهذا المكان يقع بجوار دار البلدية “Hotel de vellé”، حيث كان العمال العاطلون يجتمعون في هذا المكان للبحث عن عمل، ومن ثم اصطبغ الأمر بهذه التسمية، ووجدت عبارة “”Fait de gréve وكان يقصد بها السيطرة على مكان ما؛ وذلك انتظار للحصول على فرصة عمل، ومن هذه التسمية التاريخية انشق مصطلح الإضراب( ).

واختلف الفقه والقضاء في تعريف الإضراب، ومرجع هذا الاختلاف دوران المصطلح بين التجريم والإباحة، فبعض الدول تقر بحق الإضراب والبعض الآخر يقيده( )، والبعض يجرمه، ويرجع الإختلاف إلى الزاوية التي ينظر منها إلى الإضراب.
ومن التعريفات التي صاغها الفقه: الإضراب “هو كل توقف عن العمل بصفة مؤقتة تبرره مطالب، قد تؤدي إلى إفادة مجموع العمال أو طائفة منهم، والتي تعبر عنها مجموعة ممثلة بصورة كافية للرأي العمالي” وقد عرف “بأنه التوقف الجماعي والمدبر عن العمل بواسطة عدد كاف من العمال داخل مهنة معينة أو مؤسسة معينة، لتحقيق غرض معين مع نية استئناف العمل بعد تحقيق الهدف أو انتهاء المنازعة العمالية ” وعرفه البعض بأنه “توقف كامل عن العمل له صفة جماعية وبسبب مطالب معينة”.
وعرفه البعض الآخر بأنه “التوقف الجماعي المدبر عن العمل بهدف ممارسة الضغط على صاحب العمل أو السلطات العامة”. وعرفه البعض الآخر بأنه “التوقف عن العمل عن طريق العمال بهدف الضغط على صاحب العمل لإجباره على الموافقة على وجهة نظرهم فيما يتعلق بموضوع النزاع. وهناك تعريفات أخرى لتعريف الإضراب”( ).

وبعد ذلك، فما هي النصوص القانونية الجزائية التي تتعلق بالإضراب ؟

نصت المادة 124 من قانون العقوبات( )على أن “إذا ترك ثلاثة على الأقل من الموظفين أو المستخدمين العموميين عملهم ولو في صورة الاستقالة أو امتنعوا عمدًا عن تأدية واجب من واجبات وظيفتهم متفقين على ذلك، أو مبتغين منه تحقيق غرض مشترك عوقب كل منهم بالحبس……. كل موظف أو مستخدم عمومي ترك عمله، أو امتنع عن عمل من أعمال وظيفته، بقصد عرقلة سير العمل أو الإخلال بانتظامه”.
ونصت المادة 124 (ج) من قانون العقوبات( ) على أن “وفيما يتعلق بتطبيق المواد الثلاث السابقة يعد كالموظفين والمستخدمين العموميين، وجميع الأجراء الذين يستفيدون بأية صفة كانت في خدمة الحكومة، أو في خدمة سلطة من السلطات الإقليمية، أو البلدية أو القروية والأشخاص الذين يقومون بتأدية عمل معين من أعمال الحكومة والسلطات المذكورة ” ونصت المادة 7 من القرار بقانون رقم 2 لسنة 1977م على أنه “يعاقب بالأشغال الشاقة المؤبدة العاملون الذين يضربون عن عملهم عمدًا متفقين في ذلك، أو مبتغين تحقيق غرض مشترك إذا كان من شأن الإضراب تهديد الاقتصاد القومي”.
ونصت المادة 9 من ذات القرار بالقانون على أن “يلغي كل ما يخالف ذلك من أحكام ” ثم صدر بعد ذلك القرار بقانون رقم 94 لسنة 83 على إلغاء القرار بقانون 2 لسنة 1977م. وفي 1/10/1981م صدر القرار الجمهوري 537 لسنة 81 بالموافقة على العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وفي 8/12/1981م تم تصديق رئيس الجمهورية على العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ونشرت بالجريدة الرسمية بتاريخ 8/4/1982م، وأصبحت نافذة بتاريخ 14/4/1982م( ). ونصت المادة الخامسة منها على أن ” ليس في الاتفاقية الحالية ما يمكن تفسيره بأنه يجيز لأية دولة أو جماعة أو شخص أي حق في الإشتراك بأي نشاط أو القيام بأي عمل يستهدف القضاء على أي من الحقوق أو الحريات المقررة في هذه الاتفاقية، أو يعتبروها لدرجة أكبر مما هو منصوص عليه في الاتفاقية الحالية “. ونصت المادة الثامنة من ذات العهد على أن “تتعهد الدول الأطراف في الاتفاقية الحالية بأن تكفل… الحق في الإضراب على أن يمارس طبقًا لقوانين القطر المختص”.

ونصت المادة 192 من قانون العمل 12 لسنة 2003م على أن ” للعمال حق الإضراب( ) السلمي، ويكون إعلانه وتنظيمه من خلال منظماتهم النقابية دفاعًا عن مصالحهم المهنية والاقتصادية والاجتماعية؛ وذلك في الحدود وطبقًا للضوابط والإجراءات المقررة في هذا القانون…” ونصت المادة 193 من ذات القانون على أن “يحظر على العمال الإضراب أو إعلانه بواسطة منظماتهم النقابية بقصد تعديل اتفاقية العمل الجماعية أثناء مدة سريانهم، وكذلك خلال مراحل وإجراءات الوساطة والتحكيم”. ونصت المادة 194 من ذات القانون على أن “يحظر الإضراب أو الدعوة إليه في المنشآت الاستراتيجية أو الحيوية، التي يترتب على توقف العمل فيها الإخلال بالأمن القومي أو بالخدمات الأساسية التي تقدمها للمواطنين، ويصدر قرار من رئيس مجلس الوزراء بتحديد هذه المنشآت”( ).

المشرع المصري لم يتعرض لتعريف الإضراب، في إطار نص المادة 124 من قانون العقوبات( )، فقد حددت عناصر الإضراب، وهي المتمثلة في ترك ثلاثة على الأقل عملهم، وقد تقع من فرد واحد، سواء في صورة الاستقالة، أم في صورة الامتناع عن تأدية واجبات أعمالهم، وسواء كان ذلك بصورة مؤقتة أو دائمة.
أضف إلى ذلك في حالة الإضراب من قبل ثلاثة على الأقل أن يوجد اتفاق بينهم، أيًا كان سبب الإضراب، على أنه إذا وقع من شخص واحد شريطة توافر قصد عرقلة سير العمل، أو الإخلال بانتظامه، ويكون ذلك في إطار توافر الشرط المفترض بوقوع هذه الجريمة من الموظفين والمستخدمين العموميين، وجميع الذين يشتغلون بأية صفة كانت في خدمة الحكومة، أو في خدمة سلطة من السلطات الإقليمية أو البلدية أو القروية، والأشخاص الذين يندبون لتأدية عمل معين من أعمال الحكومة أو السلطات المذكورة. وعلى ذلك لا ينطبق هذا النص على العاملين بالقطاع الخاص. وإن كانت المادة 124 ( أ ) من قانون العقوبات عاقبت على القيام بالتحريض، حتى ولو جاء من غير مما حددتهم المادة 124 (ﺠ) من قانون العقوبات.
ونتيجة أحداث 18 و 19 يناير سنة 1977م، صدر القرار الجمهوري بالقانون رقم 2 لسنة 1977م بشأن سلامة الحفاظ على سلامة الوطن وحماية أمن المواطنين.

وتضمن هذا القانون حظر الإضراب بصفة عامة، إذا كان من شأنه تهديد الاقتصاد القومي، وجعل عقوبة الإضراب الأشغال الشاقة المؤبدة، وهذا القرار بالقانون لم يحدد معنى الإضراب، وجاء بلفظ عام وشامل، دون تحديد الفئة التي تحدث الإضراب، وسواء كان إضرابًا فرديًا أم جماعيًا. وهو نص معيب دستوريًا، حيث يشترط في النص الجنائي الدقة في الصياغة، احترامًا لمبدأ الشرعية الجنائية، فهذا النص يحتمل أكثر من تعبير.
أضف إلى ذلك إلى أن هذا القانون انتهى إلى تحديد أثر الإضراب (تهديد الاقتصاد القومي حتى يتم توقيع العقوبة، وهذا اللفظ غير محدد أيضًا، ويحتمل أكثر من معنى، فهو مخالف للدستور. أضف إلى ذلك وفقًا لما استقر عليه القضاء الدستوري من ضرورة الملائمة بين العقوبة والفعل محل التأثيم، وأقامت المحكمة الدستورية العليا رقابة على المشرع في هذا الإطار( )، وهذه العقوبة تتسم بالغلظة، ومن ثم فهي معيبة بعدم الدستورية، وعلى أية حال تم إلغاء هذا القرار بالقانون بموجب القرار بالقانون رقم 194 لسنة 1983 م.

وبخصوص العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وفقًا للفقرة الثانية من المادة الثامنة، فإنها لم تعرف الإضراب، واكتفت بعدم حظر هذا الحق، وإن نصت على إمكانية تقييده. وأصدر المشرع قانون العمل الجديد 13 لسنة 2003م، ونظم الحق في الإضراب، ووضع عليه بعض القيود، ومن أهمها إبلاغ السلطات المختصة من خلال اللجان النقابية، وحظر الإضراب في بعض المنشآت الاستراتيجية والحيوية، التي يترتب عليه توقف العمل فيها الإخلال بالأمن القومي والخدمات الأساسية، التي تقدمها للمواطنين، وفوض بخصوصها المشرع رئيس مجلس الوزراء في تحديد هذه المنشآت، على أنه يلاحظ أنه في حالة مخالفة ذلك، وهو القيام بالإضراب( )، يقع تحت طائلة الجزاء التأديبي، وبذلك يكون المشرع المصري راعى الالتزام بما جاء بالعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتم الإشارة إليها بالمذكرة الإيضاحية للقانون، وفي إطار أحكام المواد 192، 193، 194 من قانون العمل 12 لسنة 2003م، فقد حدد عناصر الإضراب بمعنى مختلف عن قانون العقوبات.

نخلص إلى نتيجة مؤداها: أن الاختلاف حول تحديد مفهوم الإضراب، مرجعه إلى الزاوية التي ينظر منها إلى مفهوم الإضراب، سواء من جانب التحديد الجنائي، أو قانون العمل أو بخصوص العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وعلى ذلك فإن للإضراب مفهومًا في القانون الجنائي مختلف عنه في قانون العمل، وإن كان العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لم يعرف هذا الحق، وإنما ترك الباب مفتوحًا أمام المشرع في تقييد هذا الحق، في ضوء المبادئ المتعارف عليها بين الأمم.
ويدور التساؤل في ضوء ذلك، حول المشاكل التي واجهت القاضي الجنائي الوطني، وهو بصدد تطبيق أحكام العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والسياسية والثقافية؟ ومدى مشروعية الإضراب في ظلها؟ ونتناوله في المطلب الثاني.

المطلب الثاني
مدى مشروعية الإضراب( )

يترتب على مشروعية حق الإضراب أنه يجوز للعمال ممارسة هذا الحق، دون مسائلة جنائية أو مدنية أو تأديبية، وذلك بموجب أحكام المادة 60 من قانون العقوبات، والتي تنص على أنه “لا تسري أحكام قانون العقوبات على كل فعل ارتكب بنية سليمة، عملاً بحق مقرر بمقتضى الشريعة ” أما في الفرض العكسي، فإن الشخص يخضع للجزاء الجنائي والمدني والتأديبي حسب الأحوال.
يثور التساؤل في البداية هل يوجد تعارض بين نص المادة 124 من قانون العقوبات والقرار بالقانون رقم 2 لسنة 1977م، والذي ألغي بالقرار بقانون رقم 194 لسنة 1983م؟ نشير إلى أن إلغاء القانون قد يكون صريحًا، وقد يكون ضمنيًا، ويشترط في هذه الحالة وجود تعارض حقيقي بين القانونين اللاحق والسابق من نفس القوة، بمعنى أن يكون صادرًا عن السلطة الموازية، فلا يلغي النص الأدنى النص الأعلى، فلا يلغي القانون الدستور، وإن كان يصح العكس، وأن يتعذر إعمال أحدهما دون تطبيق الآخر، وبذلك يتتبع إلغاء نص تشريعي بموجب التشريع اللاحق في حالة ورود النصين على محل واحد، ويكون من المحال إعمالهما معًا( ).
وبناءً على ذلك فإن القرار بقانون 2 لسنة 1977م لا يتعارض مع نص المادة 124 من قانون العقوبات، وذلك لاختلاف المحل في كلا القانونين، ولما كان القرار بقانون 2 لسنة 1977م نص على أنه يعاقب بالأشغال الشاقة المؤبدة العاملون الذين يضربون عن عملهم عمدًا، متفقين في ذلك أو مختلفين في تحقيق غرض مشترك، أيًا كان الغرض.

ونصت المادة 9 من ذات القرار بقانون على أن “يلغى كل ما يخالف ذلك من أحكام” مفهوم المادة السابقة سالفة الذكر، يعني أنه يشترط لإعمالها؛ أن يكون هناك إضراب من العاملين، أيا كانت صفتهم، ويكون هذا الإضراب مما يهدد الاقتصاد القومي، في حين أن المادة 124 من قانون العقوبات تنص على أنه “إذا ترك ثلاثة على الأقل من الموظفين أو المستخدمين العموميين عملهم، ولو في صورة استقالة، أو امتنعوا عمدًا عن تأدية واجب من واجبات وظيفتهم، متفقين على ذلك أو مثبطين بتحقيق غرض مشترك…. الخ”.
ونص هذه المادة يقتصر تطبيقه على فئة حددتها المادة 124 (ج) من قانون العقوبات، وهي تجريم الإضراب كله سواء هدد الاقتصاد القومي أم لا، إلا أنه إن كان لا يوجد تعارض بين النصين سالفي الذكر، فإنه لا يمكن تأسيسه على أساس اختلاف محل كل من النصين.

ونرى تأسيسه على أن نص القرار بقانون 2 لسنة 1977م، نص عام، ونص المادة 124 من قانون العقوبات نص خاص، ومن القواعد المستقرة أن النص العام لا يلغي الخاص، وإن كان يتقيد به، وهذا ما يمكن أن يستند إليه في هذا الخصوص مع مراعاة أن نص القرار بقانون 2 لسنة 1977م يشوبه عيب عدم الدستورية، حيث جاء بعبارات غير منضبطة، ويخرج عن مبادئ صياغة النص القانوني الجنائي، وخروجًا على مبدأ الشرعية الجنائية، باعتبارها أحد المبادئ الدستورية، وعلى أي حال تم إلغاؤه بالقرار بقانون رقم 194 لسنة 1983 م.

وتندرج أهمية ما إذا كان هناك تعارض بين نص القرار بقانون 2 لسنة 77 ونص المادة 124 من قانون العقوبات على أساس إذا وجد هذا التعارض، فمعنى ذلك أن نص المادة 124 ألغي بالقرار بقانون 2 لسنة 1977م، وتم إلغائه بالقرار بقانون رقم 194 لسنة 1983م، أي يؤدي إلى نتيجة مؤداها أن الإضراب غير مجرم في مصر، أما في الفرض العكسي في حالة عدم وجود هذا التعارض، يعني أن نص المادة 124 من قانون العقوبات. وفي إطار العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فإن هذه العهد لاحق على نص المادة 124 من قانون العقوبات. وعندما عرضت على القضاء الجنائي، انتهى إلى وجود تعارض بين نص المادة 124 من قانون العقوبات، ونص المادة الثامنة فقرة ( د) من هذه المعاهدة، حيث نصت على أن ” تتعهد الدول الأطراف في الاتفاقية الحالية بأن تكفل: أـ….. ب ـ…. ج ـ…. الحق في الإضراب على أن يمارس وفقًا لقوانين القطر المختص…”.

وتصدت محكمة أمن الدولة( ) لعملية تفسير العهد الدولي للحقوق الاجتماعية والثقافية، على أساس عدم جواز الاحتجاج بأن الحق المقرر لم تنظمه التشريعات الداخلية وطريقة ممارسته، وهناك فرق بين نشأة الحق ووضع قيود على ممارسته، وأنه لا ينال من هذه النتيجة مبدأ التدرج الذي قررته المادة الأولى من العهد الدولي للحقوق الاجتماعية والثقافية في فقرتها الرابعة، فقد نصت تلك الفقرة على أن “تتعهد كل دولة طرف في الاتفاقية الحالية أن تقوم منفردة، ومن خلال المساعدات والتعاون الدوليين باتخاذ الخطوات خاصة الاقتصادية والثقافية، ولأقصى ما تسمح به مواردها المتوافرة من أجل التوصل تدريجيًا للتحقيق الكامل للحقوق المعترف بها في الاتفاقية الحالية بكافة الطرق المناسبة، بما في ذلك على وجه الخصوص الإجراءات التشريعية”.
وأوردت المحكمة في تفسيرها على أن هذه الفقرة إنما تعالج المجالات التي تحتاج فيها الدولة المتعاقدة إلى موارد اقتصادية دقيقة غير متوافرة لديها، حتى تستطيع أن تحقق لمواطنيها الرعاية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المطلوبة، وذلك تدريجيًا عن طريق تنمية مواردها الثابتة أو بالتعاون مع الدول الأخرى وتلقي المساعدات الخارجية.

وتصدت أيضًا المحكمة إلى تفسير وتعريف الإضراب، بقولها “ولما كان الإضراب لغةً وقانونًا هو الامتناع الجماعي المتفق عليه بين مجموعة العاملين عن العمل لفترة مؤقتة، لممارسة الضغط للاستجابة لمطالبهم”.
نخلص من ذلك أن محكمة أمن الدولة تصدت لمسألة التفسير، فيما يخص تطبيق المعاهدة، وعدم الحاجة إلى وجود تشريع لسريان المعاهدة الداخلية، حيث إنها تخرج الفعل من نطاق التجريم إلى نطاق الإباحة، واعتبر حق الإضراب مشروعًا، ولايجوز مصادرته وفقًا لهذه الاتفاقية، وإن تلكأ المشرع في وضع ضوابط تحكم الإضراب، وانتهت إلى تعريف الإضراب.
وبخصوص التعارض بين العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، انتهت المحكمة إلى اعتبار المعاهدة لها قوة التشريع العادي، فالقاضي الوطني لا يطبق المعاهدة تأسيسًا على أن دولة قد التزمت دوليًا بتطبيقها باعتبارها جزءًا من قوانين الدولة الداخلية، إذا ما تم استيفاؤها للشروط اللازمة لنفاذها داخل الإقليم؛ وذلك استنادًا إلى أحكام المادة 151 من الدستور المصري، ولما كانت المادة الثامنة من القانون المدني 131 لسنة 1948م، تنص على أن “لا يجوز إلغاء نص تشريعي إلا بتشريع آخر ينص صراحةً على هذا الإلغاء، أو شمل على نص يتعارض مع نص التشريع القديم، أو ينظمه من جديد الموضوع الذي سبق أن قرر قواعده ذلك التشريع”.

ولا يقدح من ذلك أن نص المادة 124 من قانون العقوبات قد عدلت برفع قيمة الغرامة بالقانون 92 لسنة 1982م، بعد نشر الاتفاقية بالجريدة الرسمية، وذلك على أساس أن الساقط لا يعود، فإنه لم يعدل؛ لأن التعديل لا يمكن أن يرد على معدوم، ولما كانت المادة 124 من قانون العقوبات ألغت بموجب هذه الاتفاقية، فإن هذا التعديل لم يرد على محله، فيعتبر كأن لم يكن.
ويوجد تعارض حقيقي بين نص المعاهدة الدولية والقانون الداخلي، وانتهجت المحكمة مسلكًا هو أن اللاحق ينسخ السابق، طالما لم يمكن إعمال مبادئ التوفيق بين النصوص. أضف إلى ذلك بأن القاضي الجنائي طبق هذه المعاهدة دون حاجة إلى إصدار تشريع، حيث إن نصها لم ينطوِ على التجريم بل تتضمن رفع التجريم.

وننوه إلى أن القاضي الجنائي أثبت المعاهدة في صلب حكمه، والإشارة إلى دوره في تطبيقها، بالإطلاع على قرار رئيس الجمهورية رقم 537 لسنة 1981م بشأن الموافقة على العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المنشورة بالجريدة الرسمية، بالعدد 14 المؤرخ في 18 أبريل سنة 1982م، وتمت الموافقة على الاتفاقية الدولية المذكورة بعد الإطلاع على الفقرة الخاصة من نص المادة 151 من الدستور، بما يفيد أنها قد صدرت بعد الحصول على موافقة مجلس الشعب، بوصفها إحدى المعاهدة الدولية التي تتعلق بما تضعه من قيود على سلطات الدولة.
نخلص من ذلك إلى أن القاضي الجنائي بسط سلطة في الرقابة على الوجود المادي للمعاهدة، وإن كانت تخرج من سلطته الرقابة الموضوعية، والتي تدخل ضمن اختصاص المحكمة الدستورية العليا، وإن كان من سلطته إحالة هذا الموضوع لهذه المحكمة. في حالة مخالفة المعاهدة للدستور.

وانتهت المحكمة إلى أن الإضراب مباح بموجب الاتفاقية الدولية السابق الإشارة إليها. وطبق القاضي الجنائي الوطني المعاهدة الدولية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية دون الحاجة إلى إصدار تشريع داخلي، على أساس أن هذه الاتفاقية تنص على إباحة أحد الحقوق، وهو حق الإضراب واعتبارها كالتشريع الداخلي، وأخذ بفكرة أن اللاحق ينسخ السابق مادام لا يمكن إعمال التوفيق بين هذه النصوص. وذهب إلى أبعد من ذلك إلى التصدي إلى عملية تفسيرها، وبسطت الرقابة المادية على التأكد من نشرها ونقدها داخليًا. بمعنى آخر أنه طبقها كقانون داخلي.
واختلف الفقه في تحديد آثار الإلغاء( ). إلى الاتجاه الأول ذهب إلى القول بأن المعاهدة لا تلغي النص التشريعي بل توقفه. والاتجاه الثاني ذهب إلى القول بأن المعاهدة تلغي التشريع وترفع آثاره، وهذا ما أيدناه وبالبناء عليه، فقد تدخل المشرع المصري في إطار صياغة قانون العمل الجديد بالقانون رقم 12 لسنة 2003م، ونص على حق الإضراب، ونظمه وإن كان وضع قيود متعددة عليه.

ويترتب على عدم مراعاة هذه القيود توجيه المسائلة التأديبية، دون الجنائية وفي ظل إلغاء المادة 124 من قانون العقوبات بموجب هذه الاتفاقية يتعين تدخل المشرع، وإعادة صياغة حق الإضراب، ووضع قيود عليه لحماية واستقرار الأمن القومي للبلاد بالنسبة للعاملين المدنيين بالدولة، ووضع جزاء جنائي يتناسب مع الإخلال بمصلحة أمن الوطن.

وبالبناء على ماسبق نقترح هذا النص لتجريم الإضراب في ضوء مرعاة واحترام المواثيق الدولية، والموازنة بينها وبين المصالح القومية، وحفظ الأمن والاستقرار الداخلي للدولة، “مع عدم الإخلال بأية عقوبة أشد يعاقب بالحبس ثلاث سنوات، إذا اتفق أكثر من عشرة أفراد عن الإمتناع عن عملهم، بغية المطالبة بحق ما، وعدم إخطارهم الرئيس المباشر قبل قيامهم بذلك بخمسة عشر يومًا، ولا يجوز الإضراب عن العمل أو الدعوة إليه بشكل جماعي في المنشآت الحيوية أو الاستراتيجية، التي يؤدي توقف العمل بها إلى إضراب في الحياة اليومية لجمهور المواطنين، أو الإخلال بالأمن القومي والخدمات الأساسية، التي تقدم للمواطنين، وتعتبر من قبيل هذا المنشآت ما يلي: منشآت الأمن القومي والإنتاج الحربي، المستشفيات والمراكز الطبية والصيدليات، المخابز، وسائل النقل الجماعي للركاب (النقل البري والبحري والجوي)، وسائل نقل البضائع، منشآت الدفاع المدني، منشآت مياه الشرب والكهرباء والغاز والصرف الصحي، منشآت الاتصالات، منشآت الموانئ والمنائر والمطارات، العاملون في المؤسسات التعليمية”.