حقوق الملكية الوراثية قيد المحاكمة

في أوائل شهر فبراير، بدأت إحدى المحاكم الفيدرالية في نيويورك في البت في قضية شهيرة بشأن ما إذا كان الأفراد لديهم “الحق في المعرفة” بشأن الكيفية التي تعمل بها جيناتهم على تحديد هيئتهم الصحية في المستقبل. والواقع أن هذه القضية ـ اتحاد الحريات المدنية الأمريكي ضد شركة Myriad Genetics ـ قد تخلّف تأثيراً هائلاً على الطب والعلوم.
والتساؤلات الرئيسية التي تدور حول هذه القضية هي ما إذا كانت البراءات الجينية سوف تساعد البحث العلمي أو تعوقه، وما إذا كان لزاماً على المرضى أن يدفعوا رسوم ترخيص لإحدى الشركات العاملة في مجال التكنولوجيا الحيوية للخضوع لاختبار الاستعداد للإصابة بالمرض.

من بين المنتمين إلى جانب الادعاء في هذه القضية ليزبيث سيرياني، وهي سيدة تبلغ من العمر 43 عاماً ومصابة بسرطان الثدي، ولقد أوصاها الأطباء بالخضوع لفحص معين لاستكشاف تحولين وراثيين مرتبطين ببعض الأشكال الوراثية لهذا المرض. ولكن شركة Myriad Genetics، وهي الجهة الوحيدة التي تجري هذا الفحص في الولايات المتحدة ـ والتي لا تملك براءة الجينات فحسب، بل وأيضاً براءة الفحص التشخيصي ـ لم تقبل تأمين سيرياني الصحي، ولم يكن بوسع سيرياني أن تتحمل تكاليف الفحص من دخلها الشخصي. لذا فقط ظلت جاهلة، وكذلك أطباؤها، بالنتائج المحتملة للرعاية السريرية التي تتلقاها. ويقدم خمسة مُدَّعين ـ إلى جانب هيئات طبية كبرى ـ روايات مشابهة.

ويزعم هؤلاء الذين يعارضون البراءات الجينية أن هذه البراءات تتجاهل أيضاً حقوقاً يكفلها دستور الولايات المتحدة، الأمر الذي يجعل من هذه القضية الحالة الأولى التي نشهد فيها طعناً دستورياً مستنداً إلى حقوق الإنسان في براءة جينية. وكما يحدث في كثير من الأحيان في مجال التكنولوجيا الحيوية، فإن ما يبدو لأول وهلة وكأنه مسألة تقنية غامضة يثير العديد من التساؤلات التي تمس صميم إنسانيتنا وجوهرها.

لقد أصبح واحد من أصل خمسة جينات تقريباً موضوعاً لبراءة اكتشاف، وتملك أغلب هذه البراءات شركات خاصة. وحالتنا هذه تتعلق باثنين من هذه الجينات، الجين BRCA1، والجين BRCA2. والنساء اللاتي يحملن النسخة “الخطأ” من هذين الجينين معرضات بنسبة أعلى من غيرهن من النساء لخطر الإصابة بسرطان الثدي 85% في مقابل 12% في الحالات الطبيعية، رغم أن هذين الجينين مسؤولان عن قِلة من حالات الإصابة بسرطان الثدي. وترتفع أيضاً احتمالات إصابة نفس الفئة من النساء بسرطان المبيض.

وتحاول شركة Myriad Genetics الآن الحصول على حقوق البراءة في أوروبا أيضاً، ولكن مطالباتها قوبلت بالرفض إلى حد كبير هناك. فرغم اكتشاف ضلوع هذين الجينين في التسبب في سرطان الثدي والمبيض بواسطة مركز أبحاث السرطان في المملكة المتحدة في عام 1995، فإن شركة Myriad Genetics، إلى جانب ثلاثين آخرين من المتهمين، تزعم أن البراءة تعتبر مكافأة ضرورية لتعويضها عن تكاليف البحوث. بل وتزعم الشركة وحلفاؤها أن البحث الطبي سوف يتوقف تماماً في غياب حماية البراءات.
ولكن بغض النظر عن الأسس القانونية التي يستند إليها الزعم بأن البراءات الجينية تفيد البحث والعلاج، فإن هذه الحجة تندرج تحت فئة الحجج العملية وليس الحجج القانونية. ومن أجل اكتساب “موقف” قانوني لاستخدام Myriad Genetics، فإن منتقدي البراءات الجينية ـ بما في ذلك الرابطة الطبية الأمريكية، والجمعية الأمريكية للجينات البشرية، واتحاد الحريات المدنية الأمريكية ـ كان عليهم أن يتوصلوا إلى قضية يمكن الفصل فيها على أساس دستوري. وتتلخص استراتيجيتهم المبتكرة في الاعتماد على التعديل الأول لدستور الولايات المتحدة، والذي يحمي حريات مثل حرية التعبير أو حرية الدين، في الزعم بأن البراءات تعمل على تقييد حرية المرضى في الوصول إلى المعلومات التي قد تمكننا من اتخاذ الإجراءات اللازمة لحماية صحتنا.

وهي في الواقع حجة ذكية، ولكن هل هذا حقاً مصدر القلق العميق بشأن البراءات الجينية؟ في أحاديث عن قضايا مشابهة أثرتها في كتابي الذي صدر مؤخراً تحت عنوان “شراء أجساد البشر”، سمعت العديد من ردود الفعل المصدومة إزاء تحويل الأنسجة البشرية إلى سلعة على نحو متزايد، ولكن التساؤل التالي كان الأكثر شيوعاً: كيف لأحد أن يعطي نفسه حق منح براءة اختراع للحياة؟

هل التنوع الجيني “نتاج للطبيعة” أو “اكتشاف”؟ في حين يؤكد المدَّعون أن “الجينات يتم تحديدها ولا تُختَرع” يزعم المدافعون أن أساس قانون براءات الاختراع هو العكس تماماً. وهم يستندون إلى حُجة مفادها أن البراءة لا تغطي الجين في وقت عمله في أجسادنا، بل إنها تشمل نسخة “مستنسخة” تنتج في المختبرات. وطبقاً لمزاعم الشركات فإنها ليست “براءة اختراع للحياة”، فهي تسعى إلى تسجيل براءات اختراع مادة أقرب إلى المادة الكيميائية.

ولكن إن كان هذا الزعم صادقاً فكيف نفسر جهل مريضة مثل سيرياني بالشكل الذي ربما اتخذه الجين في جسدها؟ إن هذه المعضلة ليست مجرد مشكلة لهؤلاء الذين يعتقدون ـ عن طريق الخطأ من الناحية القانونية ـ إنهم يمتلكون أجسادهم، كما يتصور أغلب الناس. فباستثناء قِلة من الحالات المحدودة والحديثة، لا يوجد ما نستطيع أن نطلق عليه ملكية للأنسجة البشرية بمجرد إخراجها من جسمك. ونحن نعلم هذا من حالات مثل حالة جون موور، الذي حاول من دون جدوى المطالبة بحقوق الملكية لسلسلة من الخلايا القيمة التي تم إنتاجها بالاستعانة بخلاياه المناعية.
ولكن ماذا عن الجينات التي لم تستخرج من جسمي؟ ألا أعتبر “مالكاً” لها على نحو ما؟ ألا أملك الحق في التحكم في جسدي؟ وكيف لشركة تجارية أن تحرمني من الحق في التعرف على صورتي الوراثية ما لم أدفع لها رسوماً للفحص التشخيصي، وهو ما قد يكون عادلاً بعض الشيء، بل وتمنع أيضاً أي شركة أخرى من إخضاعي لأي فحص مماثل ما لم تدفع لها هذه الشركات رسوم ترخيص؟
إن حقوق ملكية الشركات التجارية لواحد من أهم العناصر الأساسية التي تشكل الهوية الجينية للفرد لا ينبغي أن تتحول إلى أمر واجب التنفيذ. ولا ينبغي لنا أن نعتقد أولاً في الحتمية الوراثية حتى يتسنى لنا أن نرى في هذا حجة دامغة.