تمت إعادة النشر بواسطة محاماه نت

توضيح قانوني حول حماية حقوق الانسان في النظم الجزائية العربية

يرتبط النظر إلى القانون الجزائي من ناحية حقوق الانسان بمجموعتين من القيم، وأولى هاتين المجموعتين المصلحة المترتبة للأفراد في أن تصان حياتهم وحرياتهم، والثانية مصلحة المجتمع في تحريم بعض الأفعال، واعتبار الإقدام عليها، يشكل جرماً يتعرض فاعله إلى عقوبة قد تصل إلى حد الموت، هذا من جهة، ومن جهة أرخى، إذا ما وقعت جريمة فان اجراءات التحقيق للكشف عنها وايقاع وتنفيذ العقوبة بفاعلها وما يتم خلال ذلك من اجراءات التحقيق للكشف عنها وايقاع وتنفيذ العقوبة بفاعلها وما يتم خلال ذلك من اجراءات مثل التوقيف الاحتياطي والتحقيق مع الفاعل وتفتيش الأشخاص والمساكن مما يمس حرية الشخص أو حرية مسكنه مما قد يكون بغير ما تتطلبه حقوق الانسان وبدون مبرر صحيح فكلا الأمرين (وقوع فعل أو امتناع مما يعتبره القانون جريمة، واجراءات التحقيق والمحاكمة وتنفيذ العقوبة، يتصلان بحقوق الانسان وحرياته).
والتنظيم القانوني هو الذي يتكفل بوضع الضوابط المتمثلة في بعض القيود على حرية الفرد من أجل صالح المجتمع والقانون هو الذي يكفل التنسيق بين مصلحة الفرد في أمن حريته وحقوقه، وبين مصلحة الجماعة في حماية أمنها واستقرارها، وقد يقتضي هذا التنسيق في بعض الأحوال المساس بالحرية الشخصية للفرد أو بحقوقه كانسان، وقد يكون هذا المساس في صورة اعتقال، أو حبس احتياطي، أو تفتيش، كما قلنا، ومهمة المشرع أن يضع من الضمانات ما يكفل أن يكون المساس بحقوق الفرد وحرياته في أقل الحدود وما يلزم لتحقيق الصالح العام في كشف الحقيقة في الجريمة وتحديد مرتكبيها ومثل هذه الحماية لحقوق الانسان وحرياته واجبة في كافة مراحل الخصومة الجنائية وإن كانت تبدو الزم وجوباً في مرحلة التحقيق.
وقد أدى تطور المجتمعات في العالم، ترسيخ مفاهيم حقوق الانسان، من إقرار مبادئ معينة بالنسبة للقوانين الجزائية كمبدأ قانونية اجرائم وعدم رجعية العقوبة والغاء عقوبة الإعدام في الجرائم السياسية، والغاء العقوبات التي تمس بكرامة الانسان كعقوبة الجلد وتكبيل المحكوم عليه بالسلاسل وتوفيق الاجراءات مع حقوق الانسان وتوفير كل الضمانات لتخصص المحكمة وحيادها واستقلالها وعلانية المحكمة وتوفير حقوق الدفاع للمتهم وتفسير الشك لمصلحة المتهم وفصل سلطة الحكم عن سلطتي التحقيق والاتهام، وبطلان الأدلة المستحصلة بوسائل غير مشروعة وقابلية الطعن بالحكم لمحكمة أعلى وبما فرضته الشرائع الدولية في هذا الشأن، ثم حماية الحريات والحقوق العامة بنصوص قانونية جزائية تعاقب على التدخل في عمليات الانتخابات والاستفتاء لتغيير ارادة الأكثرية أو لإعاقة المواطنين عن ممارسة حقوقهم ومعاقبة الاعتداء على نصوص الدستور أو القوانين وتعطيل تطبيقها أو تنفيذ الأحكام أو تولي السلطة عن الطريق المقرر بالدستور والقانون الخ…

كل هذه الأمور التي تعد من صميم حقوق الانسان، نلاحظ وجودها كلها أو جزءاً كبيراً منها في القوانين الجزائية العربية، كما نجد النصوص الكثيرة في الدساتير العربية التي تؤكد على هذه المبادئ، ولكن المشكلة الكبرى في الوطن العربي غنما تنبع بالدرجة الأولى من تجاوز الممارسة على النصوص، ومن وجود الأنظمة الاستثنائية، التي توقف مفاعيل الأحكام القانونية وحتى أن بعض الدساتير في الوطن العربي والتي مضى على وجودها زمن غير قصير تشير بوضوح في نص وحيد إلى الإبقاء على القوانين المخالفة للدستور إلى أن يجري تعديلها بقانون ولكن هذا القانون قد لا يصدر.

إن الرجوع إلى الدساتير العربية حيث وجدت، أو إلى القوانين الجزائية يبين أن هنالك نصوصاً ثرة جداً تتحدث عن ضمانات الحريات وكفالتها. وعن مراعاة كافة المبادئ التي أتينا على ذكرها، وجميع هذه النصوص تتفق مع الشرعية الدولية لحقوق الانسان والمبادئ المتعارف عليها في التشريعات الحديثة الغربية، لكن الدراسات الموضوعية للواقع القائم، تبين بجلاء أن هنالك نواقص خطيرة وتشوهات كبرى تتجلى في الكثير من الأمور، ومن أهمها ما يمارس في نطاق الاجراءات الجزائية وبخاصة الاستثنائية منها والتي هي كثيرة جداً وقد تطال أعداداً يزيد عمن يحاكم أمام المحاكم العادية.. وإذا عدنا إلى الواقع وغلى تقارير منظمة العفو الدولية، وغلى الدراسات في هذا الصدد، نلحظ عملياً في أغلب أقطار الوطن العربي عدم كفاية الضمانات الأساسية لحماية حقوق الانسان في المحاكمة العادلة ووجود الكثير من العقوبات الاستثنائية والمحاكم الاستثنائية وغموض اختصاصاتها وتناقض وجودها مع حقوق الانسان في المواثيق الدولية وشرعة الأمم المتحدة، وليس هذا فحسب، بل إن هنالك عقوبات تطبق في بعض الأقطار محرمة الاستعمال دولياً، كالجلد والقطع والرجم الخ …
إن تقصي أحكام الدساتير والقوانين الجزائية في الـ22 دولة التي تتألف منها الجامعة العربية، لا يفيدنا كثيراً هنا، ولكننا قد لا نغالي إذا قلنا إن هنالك سمات مشتركة في أنظمة الوطن العربي، تنقص أو تزيد قليلاً من بلد لآخر، ومن أبرزها هذا التباعد بين النصوص الدستورية والقانونية من جهة وبين الواقع العملي من جهة أخرى، يضاف إلى ذلك عدم رسوخ مفهوم دولة المؤسسات وغياب التعددية السياسية بمعناها المتعارف عليه، وتقييد الإرادة السياسية نتيجة التبعية السياسية الواضحة في بعض الأقطار. ثم يأتي دور الحاكم المتسلط سواء سمي أميراً أم سلطاناً أم ملكاً، أم رئيساً وسواء رفع شعار الديمقراطية أو الاشتراكية أو الشعبية أو الاسلامية الخ.
وقد علل الباحثون كل من جانبه الظواهر الشاذة لهذه السمات وبحثوا في الأسباب التي جعلت النخب الحاكمة والمعارضة والمثقفة على السواء في بيئات أنظمة الحكم الغربي تتمسك بالقيم الدستورية وبسيادة القانون بحيث استقرت هذه القيم في ضميرها وسلوكها على حياتها وأثمرت نتائجها الملموسة في تلك البلدان، وعرفت من خلال ذلك كيف تنظم خلافاتها وتتقبل تنازع الآراء وتباين النظريات .. في حين أن استيراد البلدان العربية لأنظمة الغرب هذه لم يؤد في معظم الحالات إن لم نقل كلها الثمرة المرجوة والوظيفة المنتظرة لها في البلدان العربية، وبقيت الظروف الموضوعية والتطورات المتعاقبة التي مرت وتمر بها الحياة السياسية في الوطن العربي تباعد كثيراً بين النصوص وواقع تطبيقها .. وبقي الحكم والمعارضة على أنواعها ينهل كل منها من موقف التسلط وإنكار وجود كل منها للآخر ..
وإذا كان بعض الباحثين في الغرب يتحدث عن المفارقة بين النصوص الدستورية وما يسميه البعض الدستور الحي .. فإن هذه المفارقة في الوطن العربي أبعد بكثير، وبحيث عللها الكتاب والمفكرون في تحليلاتهم الكثيرة حيث ردها بعضهم إلى بنية وتكوين خاص واعتبر بعضهم أن ذلك يعود إلى مقومات حضارية كلامية تتصف بها الأمة، وحمل بعضهم مسؤوليتها للاستعمار والتخلف إلى آخر ما هنالك من آراء ضد هذه الظواهر الشاذة وحاولت تعليلها.

وإذا كان يخرج عن نطاق موضوعنا الشرح أو الرد على نظريات بعض الباحثين والمنظرين الكثر في هذا الشأن فإننا نكتفي هنا بعد أن أكدنا على أن النصوص القائمة في أكثرية هذه البلدان العربية مستقاة من التشريع الفرنسي، وتنص على المبادئ الرئيسية لحقوق الانسان، بالإشارة إلى جملة المعوقات القانونية والاجرائية لحقوق الانسان في هذا النطاق وذلك على الصورة الموجزة التالية:

1 ـ الأسباب التاريخية: التي يرجع منشؤها إلى حقبة طويلة من التخلف جمد فيها المجتمع العربي عن الإبداع، واستمر الموروث السياسي في سيره ضمن نسق سياسي للحكم عبر مئات السنين، يقوم في نسيجه المعلن أو المضمر على خلفية ما ورائية ترتكز على اعطاء صفات وصلاحيات كبيرة للحاكم (إمام، سلطان، خليفة، الخ) تتلاشى أمامه المؤسسات، مهما كان نوعها؟ وبذلك تتحول القيادة الفردية إلى استبداد متشابه في معظم أرجاء الوطن، يتحلق حوله مجموعة من المنتفعين المغالين في التزلف والنفاق، وتوزيع الصفات المغرقة في المبالغة على الفرد وإهمالها دور المؤسسات التي لا وجود للدولة الحديثة بدونها.

2 ـ النزعة الأصيلة بالتنكر لسلطة القانون، وهي ظاهرة تاريخية عميقة متجذرة في تكوين المجتمعات العربية وموروثة من القديم حيث كان الحاكم كل شيء، إرادته القانون، وسلطته لا محدودة، واستمر هذا النهج القديم بحيث يضيق أي حاكم عرفته المنطقة ذرعاً بسلطة القانون وسيادته، ويشعر أن الضمانات التي يمنحها هذا القانون للمواطن تعيق تحرك الحاكم في قمع الرأي المعارض ويقف حائلاً دون تحقيق المزايا الأسروية والقبلية والكتلوية التي تسند السلطان، ولذلك بدلاً من أن تتطور القواعد الموضوعية في اتجاه مزيد من الضمانات للحرية والديمقراطية تطورت في اتجاه الحد من الضمانات القانونية التي صيغت في بعض القوانين التي وجدت بعيد الاستقلال، وهكذا يلاحظ في تطور التشريع سواء أكان على مستوى الدساتير أو القوانين أن اتجاه هذا التطور كان دائماً الإنقاص من الضمانات في المحاكمة العادلة، وانتهاك الكثير من قواعد القانون بطريقة أو بأخرى وسيادة الولاء العشائري أو الفئوي حيث تضمر معها فكرة الدولة بمفهومها الحديث، وهذا ما شهدته أكثر البلدان العربية التي طمست فيها معالم الحدود الدستورية، والتي حافظت فيها الأنظمة على نوع من العلاقات والروابط البدائية التي تدخل في نطاق علم الاجتماع أكثر من دخولها في نطاق الدراسات الدستورية والقانونية والسياسية التي تفترض سابقة قيام الدولة واستقرارها.

3 ـ تركيز السلطة تركيزاً شديداً في يد الحاكم رب الأسرة أو شيخ القبيلة ضمن نظام بطريركي متصلب لابد فيه من استبعاد مبدأ الفصل بين السلطات عملياً ولو بقي لهذا المبدأ شيء من الظل في نطاق النصوص القائمة، وبذلك رجحت كفة السلطة التنفيذية التي يأتي رئيس الدولة على رأسها على ما عداها من سلطات، مع أن إحدى مهمات السلطة التشريعية الأساسية مراقبة السلطة التنفيذية، وأن السلطة القضائية هي الحصن والضمان ضد تغول السلطة التنفيذية وحتى التشريعية على حقوق الأفراد ضمن آلية واضحة للعدالة الدستورية والعادية والإدارية.

4 ـ فقدان التعددية السياسية في أكثر البلدان العربية، بحيث يصبح النموذج الغالب الذي يتركز عليه الصراخ والهتاف في وسائل الإعلام هو الوحدانية في الرأي والفكر والقيادة والمسؤولية إلى آخر هذه الواحديات المعهودة في الوطن العربي.

5 ـ استمرار حالة الطوارئ والأحكام العرفية في جميع أرجاء الوطن العربي بصيغة أو بأخرى وذلك لضمان استمرارية كل هذا الواقع وهكذا وقبل تفكير الحكام بتطبيق أي حكم من أحكام الدستور الواردة ضمن نصوصه والتي ترتب حقاً للانسان، ينصرف العمل على استعمال النص المتعلق بحق الحاكم باعلان حالة الطوارئ والتي طبقتها جميع ا لبلدان العربية منذ استقلالها وأصبحت مستمرة ودائمة وليس استثناء ونظاماً شاذاً يجب ممارسته في الحد الأدنى ولفترة معينة محدودة لمجابهة الحالة الطارئة فقط وإلى الوقت الذي تزول فيه الأسباب التي استدعت إعلان هذه الأحكام العرفية كما يجمع الفقهاء في بحثهم لها وكما يفهم من النصوص بشأنها.

إن أكثر، إن لم نقل كل، البلدان العربية التي توجد فيها دساتير وقوانين جزائية، تستند إلى حجة متشابهة يمارسها الحكام لفرض الأحكام العرفية وإعلان حالة الطوارئ وهي حجة (الأمن) التي تتوسع في تفسير معناها السلطات بحيث تبرر بواسطتها أنواع الاعتداء، على معظم حريات المواطنين الأساسية، وبهذا تتساوى من حيث النتيجة أنظمة الحكم التي توجد فيها دساتير وقوانين معطلة وأحكام عرفية مستمرة، والتي أصبحت في الواقع تعني عدم وجود قانون Matrial law is Nolaw على حد تعبير أحد رجال القانون.

إن انتقال المفاهيم العرفية إلى القوانين العادية تجعل تلك القوانين في حقيقتها غير دستورية لأنها امتداد لنظام الأحكام العرفية، ولهذا فان تحصين القرارات الإدارية من الطعن، واقامة محاكم استثنائية تحجب عن الانسان المحال أمامها حقوقه في إخلاء السبيل وفي الطعن وحق الدفاع الخ.. مما تشهده الساحة العربية من قوانين وأنظمة وممارسات تطبق على نطاقات واسعة، يعتبر مخالفاً لأبسط حقوق الانسان في المحاكمة العادلة.

وقد أوضح عدد من الفقهاء المرموقين مخالفة قوانين الطوارئ العربية للدستور والقانون ما أن شعور العاملين في الحقل القانوني في الوطن العربي بمأساة حقوق الانسان دفعتهم في أثناء انعقاد الحلقة الخاصة بالبحوث في القانون التي عقدت في الرباط عام 1976م في المغرب، إلى إثارة مسألة قوانين الطوارئ وبعد النقاش المطول، أوصت الحلقة بأن يكون (إعلان الحرب بقانون، ويكون إعلان حالة الحرب وحالة الطوارئ بقرار من رئيس الدولة بناء على اقتراح مجلس الوزراء، ويعرض هذا القرار على البرلمان خلال الخمسة عشر يوماً للبت فيه ويشترط لاستمرار تنفيذه أن يصدر بذلك قرار من البرلمان بأغلبية الأعضاء الذين يتألف منهم وفي جميع الأحوال يجب أن يعرض على البرلمان بالشروط السابقة كل ثلاثة أشهر، ولا تعلن حالة الطوارئ إلا لسبب الكوارث الطبيعية أو إعلان الحرب أو الثورة التي تهدد النظام العام ويقتصر إعلان حالة الطوارئ في الأصل على المنطقة التي تقع فيها الكارثة، ولا يجوز أن ينبني على إعلان الحرب أو حالة الحرب والطوارئ تعطيل الدستور أو إصدار قوانين أو قرارات تخالف أحكام الدستور). ولكن هذه المقترحات كغيرها ذهبت أدراج الرياح لتزداد الحالة سوءاً في التنكر لحقوق الانسان وفي تردي الأوضاع في بعض البلدان لدرجة تعصف بأدنى حق موجود.

* عبدالهادي عباس*