حقوق الإنسان المظلة الأولي لحق المواطنة
الدكتور عادل عام

الإنسانُ فردُ وكائنُ بشريٌّ ينتمي إلى المجتمع ِالإنسانيِّ بالفطرةِ، ومنذُ لحظة ِولادته ِالأولى وِالتي يعبِّرً فيها صارخاً عن هذا الانتماءِ الحتمي، فهو ليس بضيفٍ أو زائرٍ أو دخيلٍ، وهو ليسً تابعاً أو مملوكاً أو عبداً لأحدٍ، وسواءَ أوُلِدً هذا الفردُ في مدينةٍ أو قريةٍ أو باديةٍ، أو وُلِدَ فوقَ صخرةٍ، أو تحتَ الأرض ِأو فوقها، فإنَّهُ يكتسبُ المواطنةَ، وبذلك يتمكنً من اكتسابِ صفتينِ هامَّتين تؤسسان لحياتهِ المستقبليةِ، وهما الحقوق والواجبات، وهذان الحقَّانِ لا يمكنُ نزعُهما أو فصلهما عن بعضٍ. وتشكلُ الأسرةُ المظلةَ الاجتماعيةَ الأولى للفردِ، فهي تتولى تنشئتهُ وتربيتهُ وتعليمهُ والسهرُ على راحتهِ والاهتمام بمشكلاتهِ النفسيةِ والجسديةِ.

والمجتمعُ والدولةُ هما المظلتان الأوسعَ وهما يستوعبانِ الفردَ والأسرةَ وكافة التجمعاتِ المحيطةِ بهما، وينبغي على المجتمع ِأن يؤمَّنَ للأفرادِ التعليمَ والصحةَ والخدماتِ الأخرى الضرورية لاستمرار الحياةِ البشريةِ، وبما أنَّ التكتلاتِ الإنسانيةَ متضامنةٌ ومتكافلةٌ في أوقاتِ السلم والحروب ِوالكوارث ِوالأزمات ِ، فقد وجبَ على كلِّ مجتمع ٍأنْ يختارَ أو أنْ ينشئَ نظاماً يمكِنُّهُ منَ السيطرةِ بواسطتهِ على مفاصل الحياةِ العامَّةِ، وقد تطورَ هذا المفهومُ من مفهوم ِنظام ِ القبيلةِ حتى بلغَ مفهومَ نظامَ الدولة الحديثةِ، وهذه الدولةُ ملزمةٌ بتعيينِ موظفينَ كبارَ طبقاً لقدراتهم وإمكاناتهم وخبراتهم للسهرِ على مصلحةِ المجتمع، وهؤلاءٌ بدورِهم يَسترئِسونَ مجموعةً أخرى من الموظفينَ أقلُ مقدرةً وخبرةً، ليسترئِسوا بدورهم مجموعةً أخرى، وهكذا حتى يبلغَ الأمرُ أصغرَ عملٍ إداريٍّ على مستوى الهرم ِ الوظيفيِّ، وهذه المنظومةُ المتكاملةُ والمتضامنةُ مع السلطةِ التي تقودُ الدولةَ، مسئولة مسؤوليةً قانونيةً ودستوريةً وأخلاقيةً أمام المجتمع ِعن حسنِ أدائِها.

والقيِّمُ والمتابعُ لسيرةِ أداءِ هذه المنظومةِ والتي تمَّ التعارفُ عليها بأنها الحكومة، هيئةٌ أخرى قد تكونُ مجلساً أو برلماناً أو جمعيةً، وقد يلجأ المجتمع لاستنباطِ أو ابتكارِ أشكالٍ أخرى من هذه الهيئاتِ طبقاً لما يتفقُ مع طبيعتهِ واحتياجاتهِ وأسلوبِ حياتهِ، ومهما اختلفتِ التسمياتُ فإنَّ هذه الهيئةً هيئةٌ تشريعيةٌ ورقابيةٌ، وهذهِ الهيئةَ بدورها مسئولة أمامَ المجتمعِ الذي أوجدَها لتراقبَ وتتابعَ أعمالَ الحكومةِ وتحاسبها نيابةً عنهُ. ومهما يكنْ من أمر، فإن الدولةَ بشكلها الأوسع مجبرةٌ على حمايةِ ورعايةِ كافةِ أفرادِ المجتمع ِ، بدءاُ من ذلكَ الطفلِ الذي يعلن ُعبرَ صرختهِ الأولى والتي تعلنُ عن انتمائهِ وكونهِ فرداً من هذا المجتمع، وصولاً إلى ذلكَ الشيخ ِالمسنِّ الذي يرقدُ على فراشه وهو يكتبُ وصيَّتهُ إيذاناً بمغادرةِ الحياةِ. وإذا كان كلُّ ما تقدمَ ينبغي أن يكونَ،

وأن يُطبَّقَ على أرضِ الواقع ِضمن إطار ومفهوم الدولة، وأن يؤثرَ على حياةِ الناس بالشكلِ الإيجابيّ، وبما يوفرَ لهم السعادةَ والرفاهيةَ والاطمئنانَ. فدعونا نلقي نظرةً على ما يجري ويحدثُ كلَّ يوم على أرضِ الواقع ِمن ممارساتٍ سلطويةٍ تُنتزعُ عبرَها حقوقُ وواجباتِ المواطنةِ قسراً وعنوةً، ليُترَكَ هذا المواطنُ فريسةً بينَ أيدي ضباطِ وعناصرِ أجهزةِ الأمنِ في غرف ٍمغلقةٍ تحتَ الأرض ِ، بقصدِ ترويضهِ واستنساخهِ وسلبهِ أغلى ما يمتلكهُ الجنسُ البشريُّ ألا وهي الإنسانية. وبموجبِ قوانينِ ِالطوارئ والأحكام العرفيةِ تنشط الأجهزةُ الأمنيةُ المتعددةُ التسميات في مكاتبها وفي إداراتِ الدولةِ وفي الشوارع ِوالأزقَّةِ والبيوتِ والعقولِ وحتى الجيوبِ باحثةً عن أيِّ عدوٍ مفترضٍ، والعدوُ المفترضُ من وجهةِ نظر أجهزةِ الأمن هو أيُّ شخصٍ أكانَ مواطناُ أو غيرَ مواطن، متحزباً أو غيرَ ذي حزبٍ، موظفاً بسيطاً أو رفيع المستوى، طالباً أو تاجراً، سيداً أو سيدةً، حتى ولو كان يشغلُ موقعاً سلطوياً، لا فرقَ.

 

هؤلاء جميعاً أعداءَ مفترضين من وجهةِ النظر الأمنيةِ. وبالاستناد إلى ذاتِ القوانينِ العرفيةِ فإن أيةَ جهةٍ أمنيةٍ تستطيعُ اعتقالَ وتغييبَ أيِّ فردٍ من هذا المجتمع متى ما تشاءُ وِكيفما تشاءُ وحيثما تشاءُ، أي أنها مطلقةُ الصلاحياتِ في اختيار مكان وزمان وطريقة الاعتقال ِ، بالإضافة إلى مدَّةِ الاعتقال، دون أن تترتبَ على ذلكَ أية مسؤوليةٍ قانونيةٍ أو قضائيةٍ.

فالأجهزةُ الأمنيةُ فوقَ القوانينِ وفوق المجتمع الذي وضعً تلكَ القوانين، وفوق الدولةِ بمفهوم ِالدولةِ، وهي أحياناً فوقَ أدواتِ السلطةِ، بمعنىً من المعاني الأجهزةُ الأمنيةُ فوق الجميع ِ، وبذلكَ نقتربُ إلى حدٍّ ما من مفهوم ِالدولةِ الأمنيةِ، أو دولةُ الاستخبارات، أو دولةُ الأمن، وتكون قد انتفتْ عن الدولةِ صفةُ ومفهوم ومقومات الدولةِ كدولة.

ولكثرةِ الأجهزةِ الأمنيةِ وكثرةِ أعمالها ونشاطاتها داخلَ الوطنِ وخارجهِ تتعقدُ المسألةُ أكثرَ فأكثر، فلكلِ جهازٍ فروعهُ ومقراتهُ وفروع فروعهِ ومقراتُ فروع ِفروعهِ، وميزانياتهُ وآلياتهُ ومركباته وسياراتهُ ومساكنُ موظفيه وعملاءُ موظفيهِ وعملاءُ عملاءِ موظفيهِ، ومرتباتُهم ومرتباتُ زوجاتِهم وأبنائِهم وزوجاتِ أبنائِهم والجيرانِ والخلانِ وأبناءِ العمومةِ والخؤولةِ وما شابههم حتى تكادُ السلسلةُ لا تنتهي ولا تطاق. وكلُ ذلكَ على نفقةِ الدولةِ التي ما عادتْ دولةً. وتأسيساً على المعلوماتِ المنقولةِ شفاهاً أو المدوَّنةِ والمنسوبةِ للتاريخ القديم ِوالحديثِ والمعاصر ِوعلى حدٍّ سواء، كانت حاضرةٌ ظاهرةُ المعارضةِ، وهذه الظاهرةُ كانت تتخذُ أشكالاً متباينة، تتماشى وطبيعةَ أنظمة الحكم ِالسائدِ، بمعنى أنه كانت تبرزُ لكلِّ شكلٍ من أشكال أنظمةِ الحكم، شكلٌ من أشكالِ المعارضةِ.

وفي أنظمةِ حكم ِِالإمبراطوريات القديمة، ظهرت المعارضة بأشكالٍ متعددةٍ، فقد كانت تأخذُ شكل انشقاقٍ في الجيش الإمبراطوري أحياناٌ، إما تعبيراً عن استياء فئةٍ من فئات ضباط الجيش من الوضع القائم آنذاك، أو ربما لأطماع شخصيةٍ في الاستيلاءِ على مقاليدِ الحكم. ولم تكن تخلو معارضةُ تلك الأنظمة من استخدام المكائد والدسائس من داخلِ الأسرِ الحاكمةِ ومن داخل قصورها، للإجهاز على رأسِ السلطةِ، ومن النادر جداً لجوءُ فئات الشعبِ إلى الانتفاضات والتمردات الشعبية، لأنها كانت تُقمَعُ بوحشيةٍ منقطعةِ النظير.

وفي قراءةٍ سياسيةٍ لطبيعة أنظمة الحكم الشموليةِ في التاريخ الحديث والمعاصر تكررتْ ممارساتُ القوى السلطوية، في تعاملها مع أي شكلٍ من أشكال المعارضةِ، حتى ولو كانت هذه المعارضاتُ تتبنى الوسائل السلمية للتعبير عن امتعاضها ورفضها للواقع السياسي والاقتصادي الذي فرضتهُ هذه الأنظمةُ، ورسمتهُ بما يتماشى مع مصالِحها الفرديةِ أو الأسرية أو الحزبية أوالفئوية الضيقةِ.

وتعبيراً عن السخطِ وردّاً على هكذا ممارسات قمعية لجأت بعضُ المعارضات إلى إعلان الكفاح المسلح، لخلقِ نوعٍ من أنواع توازنِ القوى مع السلطةِ، وغالباً ما كانتْ هذه الحالات باهظةَ التكاليف مادياً وبشرياً، وهي لا تصبُّ لا في مصلحةِ الوطن ولا في مصلحة المواطنِ، وكانت المعارضةُ العراقيةُ من أبرز هذه النماذج في منطقتنا. ولكن قد لا تجدُ المعارضة أحياناً بدّاً من اللجوءِ إلى هذا الأسلوب لدرءِ الخطر الداهم عن نفسها، وكمحصلة فإن هذا الصراعَ المسلحَ والذي يدورُ بين قوى السلطةِ وقوى المعارضة وما يتمخَّضُ عنها هي أولاً وأخيراً مسؤوليةُ نظام الحكم، الذي لا يقبلُ بالآخر ولا يعترفُ بهِ، ولا يسعى لإيجادِ الحلولِ الممكنةِ للقضايا الوطنيةِ الشائكة والمعقدة والتي هي أساساً نتاجُ سياساتِ نظامهِ الشمولي.

ومما هو ظاهرٌ للعيان وخلالَ السنوات الأخيرةِ، نشأتْ أشكالٌ جديدةٌ للمعارضةِ، وبأساليبَ مبتكرةٍ لمناهضة الأنظمة الشموليةِ، وهذه الأشكالُ الجديدةُ اتسمتْ بالتحرك السلمي معتمدةً مشروع المصالحة الوطنية كمقدمة للتغيير باتجاه الديمقراطية كحلٍّ أمثلٍ للاحتقاناتِ السياسية والأزمات الاقتصادية والفشل الاجتماعي. وبالاعتماد على المعطياتِ المتوفرةِ، فإن أجهزة السلطةِ وكخيارٍ وحيدٍ لتأمين استمرارية نهجها، لجأت إلى تكتيكاتٍ مبتكرةٍ ومتطورةٍ وغير ثابتةٍ، لمواجهةِ هذا المدِّ المعارض بهدفِ إجهاضهِ وإفراغهِ من محتواهِ المنسجم مع تطلعاتِ الجماهير، والمتناغم أيضاً مع طبيعة التحولات الديمقراطية الجارية في عالمنا اليوم.

وإذا كانتْ المجتمعاتُ البشريةُ تسعى للتحرك إلى الأمام تحتَ تأثير قوةِ دفع التطور التقني، والتطور الفكري المرافق له، فينبغي عندئذٍ على القوى الممسكةِ بزمام الأمور أن تطوِّرَ نفسها من خلال تطوير واستنباط آلياتٍ جديدةٍ ومستحدثةٍ تتفاعل وتنسجم مع المعطيات المتجددةِ، بغيةَ عدم التخلفِ عن الركب الحضاري الذي يتقدمُ بصورةٍ مذهلةٍ، وكي لا يبقى متخلفاً عن التطور الطبيعي والحتمي للتاريخ البشري. إلاّ أنه ومن الملاحظ، لازالتْ أجهزةُ السلطةِ في مصر ترغبُ في إبقاء الأوضاع على ما هي عليهِ منذ بدايةِ الثمانيات من القرن الماضي، وذلك بالحديثِ فقط عن بعضِ المفرداتِ والمصطلحاتِ المبهمةِ والهلامية كالتحديثِ والتطوير، والتي لم تؤدي إلاّ إلى التخريب والتدمير.

ومن البداهةِ والحالُ هذه أن تتحرك النخبةُ المثقفةُ من طلائع الشعب ـ والتي هي أكثر إدراكاً وقراءةً لمعطيات الأوضاع القاتمةِ ـ للبحث في البدائل التي من شأنها إخراج البلاد مما هي فيه. وقد تنادتْ مجموعةٌ من طلائع مثقفي الوطن يدفعها الحسُّ الوطنيُّ للبحث في تلك البدائل المشار إليها، وبنيَّةٍ صادقةٍ، ورؤيةٍ مستنيرةٍ، تدارستْ مشروعاً وطنياً يهدفُ إلى وضع البلاد على طريقِ السلم الأهلي من خلال بناءِ مؤسسات المجتمع المدني، وفتح الحوارات البناءةِ بين مختلفِ أطياف الشعب المصري ، بعيداً عن النقاشاتِ المتشنجةِ والتي لا تؤدي إلاّ إلى المجهول.

ولكن هذه الشريحةَ قُوبلتْ بوسائلِ القمع المتعارفِ عليها من قبل الدوائر الأمنيةِ، والمحاكم الصوريةِ العسكرية والتي تفتقرُ إلى أدنى مستوياتِ النزاهةِ، بهدفِ عزلها أولاً وثنيها عن المطالبةِ بتحقيق مشروعها الوطني للمصالحةِ من أجلِ ترسيخ المفاهيم الديمقراطيةِ ثانياً، وذلكَ عن طريقِ إصدارِ الأحكام والتي أقلُّ ما يمكن القولُ فيها بأنها جائرةٌ وانتقاميةٌ.

إن التضييقَ على الحرياتِ العامَّةِ وطمسَ وإغفالَ حقوق الإنسان المصري ، كإنسان أولاً وكمواطن ثانياً، واشتدادِ الهجمةِ الأمنيةِ على أصحابِ الفكرِ والرأي من دعاة ِالحقوقِ المدنيةِ في مصر ، ليشكلُ منعطفاً خطيراً وخطيراً جداً باتجاهِ ازدياد الهوَّةِ بين الحاكم والمحكوم، بين أدواتِ السلطةِ من جهة وببينَ الشرائح المختلفةِ من أبناءِ الشعبِ من جهةٍ أخرى، وهذا يفتح الأفق واسعاً أمامَ القوى الشامتة والطامعةِ والحاقدةِ على مصر ، لِلَعبِ مناوراتهم وتمريرِ مشاريعهم التي من شأنها إلحاقُ الأذى والضرر بهذا الوطن.

ومن هذا المنطلق، ومما لاشكَ فيهِ، فإنّ من حقِّ كافةِ الشرائح والأطياف ومكونات الشعب المصري اختيار ما يناسبها من قناعاتٍ فكريةٍ أو توجهات سياسية، سواءَ كانت هذه القناعاتُ تصبُّ في خانةِ توجهاتِ السلطةِ، أو أنها تأخذُ منحاً آخر يتعارض مع توجهاتِ السلطةِ، ومن الطبيعي القول بأنَّ تعارضَ الآراءِ ظاهرةٌ صحيّةٌ إن على المستوى السياسي أو على المستوى الفكري، لأنَّ لكلِ ذي جديدٍ جديدة، ولكلِ ذي معرفةٍ معارفهُ، ولكلِ ذي رأي رأيهُ، ولابدَ ولا مفرَ من أنّ الفسيفساء الاجتماعية المصرية ستنتجُ فسيفساءَ سياسية أطالَ الزمنُ أم قَصُرَ، وهنا ينطبقُ المثلُ القائلُ : وإنَّ كلّ إناءٍ بما فيهِ ناضحٌ.