مظاهـر تأثير ظاهرة الخـدمات عن بعـد على قانـون الشغل

تسهم التكنولوجيا الحديثة في تحسين ظروف العمل، فهي إذ تعمل على الفصل بين الأجير ونتيجة عمله، وتسمح بإزالة أعباء مهنية تتطلب مجهود[1]، وعلى العموم فهي تساعد على حل المشاكل الاجتماعية ومنها تعميم الخيرات الاقتصادية.
بيدا أن ما يلاحظ على المستوى الواقعي، إمكانية إحداثها لمجموعة من التحولات سواء على محتوى الشغل وتنظيمه من جهة أو على مستوى نسيج العلاقات المهنية من جهة ثانية.

المطلب الأول: التغيرات المحدثة على الشغل

إن ظاهرة الخدمات عن بعد، كظاهرة تقنية، تطرح العديد من التحديات على عالم الشغل الذي بدوره عرف تحولا عميقا نتيجة استعمال التكنولوجيا الحديثة في أدائه، الأمر الذي خلق ملابسات على بعض ضوابطه.
الفقرة الأولى: تجليات تحول ظروف العمل
تفرض ظاهرة الخدمات عن بعد المعتمدة لتقنية العمل عن بعد، استحضار ظروف عمل مختلفة على ما هي عليه في الأحوال العادية، كما تبقى إشكالية رقابة تطبيق النصوص القانونية والشؤون الاجتماعية صعبة المنال.

أولا: مكان العمل
مما لاشك فيه أن استعمال الوسائل التكنولوجية والمعلوماتية الحديثة عمل على إحداث تحولات جذرية خاصة على مستوى مكان العمل.

و يكتسي التعريف الذي قدمه الفقيه breton[2] أهمية بحيث من خلاله يمكن أن نقف على مجموعة من الحالات التي تدخل في مجال العمل عن بعد، الذي قد يكون ثابتا أو متغيرا وفي هذه الحالة يبقى مكان تنفيذ العمل غير ممكن تحديده.
كما أن عدد العمال في هذا المكان يعد أساسيا بحيث أن وجود مجموعة من العمال عن بعد في نفس المكان لممارسة نشاط معين عن بعد يضفي على المكان وصف مؤسسة، هذه الأخيرة التي يختلف مفهومها حسب فروع القانون، وعلى اعتبار ما يهمنا هو المفهوم على مستوى القانون الاجتماعي فهي تعرف بكونها تلك البنية التي تضم مجموعة من الأجراء لهم أهداف موحدة ويعملون تحت إدارة واحدة، مع وجود ممثل للمشغل مؤهلا لتلقي التصريحات أو نقلها له.[3]
وعلى وجه العموم فأماكن العمل تعتبر تلك الفضاءات المحدثة لاستقبال مناصب الشغل، سواء تواجدت داخل أو خارج المقرات الرئيسية للمؤسسة أو أي مكان تابع لها[4].

وعليه فالوقوف على مكان أداء العمل أو الخدمة عن بعد، يثير جملة من الإشكالات لعل أهمها ما يتعلق بالمحددات التي يجب أن يستجيب لها هذا المكان وموقع بعض قواعد الصحة والسلامة.

كما أثيرت لنا إشكالية تتمحور بالأساس حول مسألة مدى آثار هذا التحول على طبيعة مثلا عقد الكراء في حالة ما إذا كان الشخص مكتري لعقار مخصص للاستعمال السكني، حيث أن تحويل النشاط من مقر العمل إلى مقر السكن قد يؤدي إلى إحداث تغير على بعض الأوضاع القانونية خاصة ما يتعلق بطبيعة العقد وهو ما يخول للمكري الحق في طلب إفراغ المحل حسب ما نص عليه الفصل 663 من قانون الالتزامات و العقود، بحيث ينص أن المكتري يتحمل التزامين أهمها أن يحافظ على الشيء المكترى وأن يستعمله بدون إفراط أو إساءة وفقا لإعداده الطبيعي أو لما خصص له بمقتضى العقد.
في هذه الحالة هل المكتري الذي يؤدي خدمته أو عمله انطلاقا من منزله ملزم بالتصريح بذلك إلى المكري والتعديل من طبيعة العقد تحت طائلة أحقية المكري في طلب إفراغ المحل.

أما بالنسبة لوضعية ذلك في فرنسا، فبالرجوع إلى القانون المتعلق بالاستعمال السكني، يمنع تحويله إلى مكان مخصص للاستغلال المهني خاصة بالنسبة للمدن التي يتجاوز عدد سكانها 10.000 إلا بعد الحصول على إذن إداري، وهذه المقتضيات تهم خاصة العاملين عن بعد بالمنزل[5] .
كما يطرح إشكال أخر دائما في إطار دراسة مكان العمل الممارس عليه هذا الأسلوب، مرتبط بموقع بعض قواعد الصحة والسلامة خاصة بالنسبة للعامل عن بعد المنزلي.
بالرجوع إلى مقتضيات المادة 281 من مدونة الشغل، نجد أن المشرع المغربي يوجب على المشغل ضرورة السهر على نظافة أماكن الشغل، وأن يحرص على أن تتوفر فيها شروط الوقاية الصحية ومتطلبات السلامة اللازمة للحفاظ على صحة الأجراء وخاصة فيما يتعلق بأجهزة الوقاية من الحرائق، والإنارة، والتدفئة والتهوية والتخفيض من الضجيج…الخ.

[1] – عبد الكريم غالي، القانوني الاجتماعي في مجتمع المعلوميات، مرجع سابق، ص 5.
[2] -Monien David, le télétravail : la nécessaire création d’un statut spécifique ? la nécessaire création d’un statut spécifique? Mémoire de DEA de droit social, université de lille 2 faculté des sciences juridiques politiques et sociales, année universitaire 2000-2000, p 77.
[3] – قرار صادر عن الغرفة الاجتماعية بمحكمة النقض الفرنسية بتاريخ 10 أكتوبر 1991 مذكور في:
Monien David, le télétravail : la nécessaire création d’un statut spécifique? op cit, p 89.
[4] – الفصل 1-231 من المرسوم الفرنسي، عدد 92.332 المتعلق بأماكن العمل الصادر في 31 مارس 1992.
[5] – وفيما يخص بالأساس العاملين عن بعد المستقلين فالأماكن المعدة لاستعمال المهني لا تدخل في إطار قانون 6 يوليوز 1989 إلا إذا كانت ذات طبيعة مختلطة.
للمزيد من التفاصيل انظر:
– Monien David, le télétravail : la nécessaire création d’un statut spécifique ?op cit p 79.

كما أن مقتضيات المادة 282 من مدونة الشغل تركز على ضرورة أن تكون أماكن العمل مجهزة تجهيزا يضمن سلامة الأجراء، وأن تكون الآلات وأجهزة التوصيل ووسائل التدفئة والإنارة والأدوات الخفيفة والثقيلة مجهزة بوسائل الوقاية، بل وحتى ذات فعالية معترف بها، وأن توفر فيها أضمن شروط الأمان الممكن تفاديا لما قد يترتب عن استعمالها من خطر على الأجراء، إضافة مقتضيات حمائية أخرى تخص بعض الفئات العاملين في قطاعات شغلية محددة.
والوقوف على موقع العامل عن بعد من هذه الحماية، يمكننا من القول أنه ككل أجير يستفيد من الوضعيات القانونية والتنظيمية السالف ذكرها، بالنظر لشساعة مفهوم مكان العمل، مع إمكانية التوسع في بعض المفاهيم خاصة ما يتعلق بالأدوات والآلات ومسائل الإنارة والتدفئة، بالرغم من كون الاعتماد على الوسائل التكنولوجية الحديثة يتطلب توافر تنظيم خاص بالنظر للمشاكل الصحية ، والمرتبطة بالعمل على شاشات الحواسيب، وهو نفس ما نص عليه التوجيه الفرنسي الصادر في 29 ماي 1990[1]، في فصله الأول بحيث يؤطر لوضعية العمال المعتمدين بطريقة منتظمة ولمدة معقولة في عملهم المعدات الالكترونية ذات الشاشات المرئية.
كما أنه إذا كان تنفيذ العمل عن بعد يفترض ضرورة استعمال ما يمكن تسميته بالمال بمفهومه العام سواء كانت هذه الأموال مادية ( حواسيب، فاكس،…) أو غير مادية ( البرامج، قاعدة المعطيات،…) فإن الوقوف على طبيعتها القانونية يعد في غاية من الأهمية.
والمعلوم أن الطبيعة العامة للمال تتمثل في توفره بشكل ضروري على قيمة تسويقية، ولإضفاء صفة المادية عليه يجب أن يكون شيئا ملموسا ومحسوسا وله ارتباط مباشر بموضوع عقد الشغل، وعليه مجموع هذه الأموال المادية المعدة لتنفيذ العمل عن بعد تدخل في الملكية ويمكن أن تكون محل بيع أو عارية في مجال عقود العمل عن بعد.
ومن جهة ثانية المشغل عليه أن يضع هذه المعدات رهن إشارة العامل عن بعد، وهو بالفعل ما أكده المبدأ الثالث من الحوار الأوربي حول وسائل الاتصال والمتعلق بالعمل عن بعد خاصة الممارس بالمنزل.
وعموما فنسيج العمل عن بعد المعتمد خاصة على الوسائل المعلوماتية يتكون من معدات وتجهيزات ذات طبيعة تكنولوجية خاصة منها أجهزة الحواسيب ولواحقها من لوحة ملامس أو ما يسمى بالمطراف وشاشة مرتبطة بالحاسوب و جهاز موصول بالحاسوب يسمح بدخول المعطيات data وخروجها.
كما أن حضور معدات من هذا القبيل يتطلب وجود نوع معين من الضوابط تتمثل أساسا في أن تكون ملامس أزرار الحواسيب والمطارف منفصلة وقابلة للضبط في العلو والانحراف، ولعل أهم العناصر التي تؤخذ بعين الاعتبار للحكم على جودة الحاسوب أو المطراف، تتمثل في سهولة قراءة البيانات أو المحارف وكيفية تقديم النص وغياب بريق المحارف أو تغبر لمعانها والذي يرتبط بمعدلات تجديد الشاشة ، إضافة إلى ذلك يتعين الحرص على تنظيف الشاشة بصورة منتظمة حفاظا على جودتها البصرية، وينبغي أن يكون وزن الأزرار مناسبا حتى تبقى ثابتة، ومن المستحسن أن يكون إطارها بلون غير لامع وأن تقاوم الكتابات المسجلة عليها كثرة الاستعمال، وأن يكون سطحها في وضع يمكن من تقليص الانعكاسات الضوئية إلى الحد الأدنى.
كما أنه من الأنسب أن تكون ملامس الأزرار والشاشات ووضع الآلات الطابعة منظمة بصورة تكون معها المسافة بين العين وملامس الأزرار متساوية، كما ينبغي أن تكون الشاشة مضادة لانعكاس الضوء، وتصميم العمل غير لامع والمسافة بين العين والشاشة ملائمة.

أما فيما يخص المقاعد المخصصة للجلوس، فينبغي أن تكون قاعدته مدارية وقابلة للضبط علوا، وأن يقدم السند دعامة فعالة للظهر بأن يكون مرنا وقابلا للضبط في العلو والانحراف، وأن يقام على واصلة قارة، ومجهزا احتمالا بعجلات صغيرة توقف حسب طبيعة سطع الأرض بصورة آلية، ومن المستحب أن يتم تغليف المقعد بالنسيج.
إضافة إلى هذه التدابير المتعلقة بمعدات العمل عن بعد، فإن الجانب الصحي والوقائي للأجير يتطلب من المشغل إخضاع كل مرشح للمشغل لفحص طبي قبل توظيفه أو على أبعد تقدير بعد انتهاء فترة التجربة، وذلك للتأكد من الوجهة الطبية مما إذا كان مؤهلا على المستوى الصحي للقيام بالشغل المناط إليه، وتظهر أهمية هذا الإجراء بالنظر لخصوصية العمل أمام الشاشة التي تفترض ضرورة فحص المرشح للشغل من طرف طبيب الشغل وتعيين كفاءة أو عدمها لتقلد الوظيفة تفاديا للعديد من الإشكالات[2] ولعل ذلك ما جعل المشرع الفرنسي يحرص على أن تقوم مؤسسات الشغل بمراقبة بصر الأجير قبل تعيينه للعمل أمام الشاشة المعلوماتية مع القيام بفحوص أخرى بصورة دورية على نفقة المشغل، وهو ما ورد بصريح نص المادة 2411 من مدونة الشغل الفرنسية والفصل التاسع من التوجيه الأوربي المتعلق بضوابط الصحة والسلامة المتعلق بالعمل المرتبط بالمعدات البصرية.[3]
أما فيما يخص المعدات الغير المادية، فالعمل عن بعد يفترض استعمال ملاحظ للوسائل المعلوماتية وبرامج الحاسوب[4] ومعالجة المعطيات بشكل رقمي، وبالتالي فالعامل يتواجد أمام لامادية الأموال المتبادلة داخل اقتصاد العقد مما يؤدي إلى ارتفاع الأخطار التي يمكن أن تمس بتلك المعطيات المستعملة.

[1] – Directive 90/270/ ce du 29 mai 1990 Transposée par le décrit n° 91.451 du 14 mai 1991, journal officiel français du 16 mai 1991.
[2] – عبد الكريم غالي، محاور في المعلوميات والقانون ، مرجع سابق، ص190 –191.
[3] – 1- les travailleurs bénéficient d’un examen approprié des yeux et de la vue, effectué par une personne ayant les compétences nécessaires :
– avant de commencer le travail sur écran de visualisation ;
– par la suite à des intervalles réguliers, et lors de la survenance de trouble visuels pouvant être du au travail sur écran de visualisation ;
2- les travailleurs bénéficient d’un examen ophtalmologique si les résultats de l’examen visé au paragraphe 1 le rendent nécessaire ;
3- si les résultats de l’examen visé au paragraphe 1 ou de l’examen visé au paragraphe 2 le rendent nécessaire, et si les dispositif de correction normaux ne peuvent être utilisé, les travailleurs doivent recevoir des dispositifs de correction spéciaux en rapport avec le travail concerné ;
4- les mesures prises en application du présent article ne doivent en aucun cas entraîner des charges financiers additionnelles pour les travailleurs ;
5- la protection des yeux et de la vue des travailleurs peut faire parti d’un système national de santé.
للمزيد من التفاصيل انظر:
Genevieve Madou, télétravail et travail à domicile, pourquoi, comment ? op cit, p 67.
[4] – تعرف برامج الحاسوب حسب الفقرة 13 من المادة 1 من قانون حماية حقوق المؤلف والحقوق المجاورة بكونها مجموعة من التعليمات المعبرة عنها بكلمات أو برموز ورسوم أو أي طريقة أخرى تمكن حينما تدمج في دعامة قابلة لفك رموزها بواسطة آلية أو تنجز أو تحقق مهمة محددة أو تحصل على نتيجة بواسطة حاسوب أو أية طريقة الكترونية قادرة على معالجة المعلومات.
قانون صادر بمقتضى ظهير شريف رقم 20-00-1 صادر في 9 ذي القعدة 1420 ( 15 فبراير 2000) بتنفيذ القانون رقم 2.00 المتعلق بحقوق المؤلف والحقوق المجاورة.