الاستصناع

الاستصناع في اصطلاح الفقهاء هو طلب العمل من الصانع في شيء خاص بمقابل عوض معلوم، وهذا يعني أن الاستصناع عقد بين شخصين، يطلب فيه أحدهما، وهو المستصنع، من الآخر، وهو الصانع، أن يصنع له شيئاً معيناً بأوصاف مخصوصة، بمقابل ثمن معين ينقده إياه أو يتفقان على تأجيله أو تقسيطه، مثال ذلك الاتفاق على صنع ما يتعامل به الناس عادة، كالأثاث والسيارة. وصورته أن يقول شخص لنجار مثلاً: اصنع لي مكتباً من خشب كذا، مع بيان جميع أوصاف المكتب التي يرغب فيها، بثمن كذا، في مدة أسبوع، فيقبل النجار بذلك، ويكون العمل والعين، وهما المواد الأولية، من الصانع، فإن كانت العين من المستصنع كان العقد إجارة.

نشأة الاستصناع ومشروعيته في الشريعة الإسلامية

عقد الاستصناع قديم بين الناس، ويتزايد العمل به مع ازدياد الحرف وتقدم الصناعة وشيوع الآلة، وكان استعماله قليلاً في العصور الأولى، ثم شاع وانتشر وتعامل به الناس من غير إنكار وأجازه الفقهاء، وقرروا أحكامه، لأن الحاجة تدعو إليه.

وهو مشروع في الفقه الإسلامي، لكن جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والشيعة الجعفرية يقولون بمشروعية الاستصناع قياساً على السَلَم (وهو اسم لعقد يوجب الملك في الثمن عاجلاً وفي المثمن آجلاً) وعدوه أحد أنواعه واشترطوا فيه شروط السلم، وطبقوا عليه أحكامه، ولا يرونه عقداً مستقلا، وعدّه الزيدية وبعض الحنفية مجرد عِدَةٍ لا عقداً.

أما جمهور الحنفية فقالوا بمشروعية الاستصناع بوصفه عقداً مستقلاً، له أحكام خاصة، وأفردوه بالبحث في كتبهم، وفصلوا القول فيه، لذلك سيقتصر الحديث على أحكام الاستصناع الخاصة به في المذهب الحنفي.

قال الحنفية: إن مقتضى القياس ألا يجوز الاستصناع، لأنه بيع لمعدوم، وبيع المعدوم لا يجوز، لنهي النبيe عن بيع ما ليس عند الإنسان، لأنه يؤدي غالباً إلى الاختلاف والتنازع، وإن قيل: إنه إجارة فلا يصح أيضاً، لأنه استئجار على تحصيل عمل بشرط أن تكون المادة التي يصنع منها من حساب الصانع.

ثم قال الحنفية: يجوز الاستصناع استحساناً لتعامل الناس به من لدن رسول الله e، وتعارفهم عليه في سائر البلدان من غير إنكار، والعرف [ر] أحد مصادر الفقه الإسلامي فكان ذلك دليلاً على الجواز، ويترك به القياس[ر]، وصح في السنة النبوية أن رسول اللهe استصنع خاتماً، وحصل الإجماع العملي على جواز الاستصناع، ولو كان المعقود عليه في الاستصناع معدوماً، لأنه محقق الوجود في العادة، فلا غرر فيه، وألحق بالموجود لمسيس الحاجة إليه، فعد كأنه موجود حكماً.

شروط الاستصناع وأحكامه

ينعقد الاستصناع بالإيجاب والقبول، ويشترط فيه ثلاثة شروط، وهي: أن يبين المتعاقدان جنس المصنوع ونوعه وقدره وصفته ليكون معلوماً علماً مانعاً من الجهالة.

ـ أن يكون المصنوع مما يجري التعامل بين الناس على استصناعه، ويعرفونه في حياتهم، وهذا يختلف باختلاف الزمان والمكان، وقد كثر ذلك في هذا العصر، فإن كان المصنوع فيما لا يجري تعامل الناس باستصناعه كان سلماً، ويشترط فيه جميع شروط السَّلم.

ـ يشترط الإمام أبو حنيفة في الاستصناع ألا يكون مؤجلاً إلى أجل يصح معه السلم كشهر، فإن أجل الى ذلك كان سلماً، ودليله أن العاقدين إذا حددا أجلاً فقد اتفقا على معنى السلم، والعبرة في العقود للمقاصد والمعاني، لا للألفاظ والمباني، وأن تحديد الأجل[ر] أمر مستقبل، ولا يستطيع الصانع الجزم بإمكان الوفاء فيه قطعاً.

وقال أبو يوسف ومحمد من الحنفية: يصح اشتراط الأجل فيه، ولا يخرجه ذلك عن حقيقة الاستصناع، ويحمل الأجل على الاستعجال، لأن العرف والعادة يقضيان بتحديد الأجل في الاستصناع، وأن تحديد الأجل ليس خاصاً بالسلم.

ويرى أكثر الحنفية أن محل العقد هو العين المصنوعة، ويأتي العمل تابعاً له، فإن جاء الصانع بالمعقود عليه من صنعة غيره، أو مما صنعه قبل العقد جاز، وقال بعض الحنفية: إن المعقود عليه هو العمل، ولا يقبل منه إلا إذا صنعه بنفسه بعد العقد.

وحكم الاستصناع بمعنى أثره المترتب عليه هو ثبوت ملك المستصنع في مبيع في ذمة الصانع بحسب الصفات والشروط المتفق عليها، وثبوت ملك الصانع في الثمن.

والاستصناع عقد غير لازم قبل الصنع، كما أنه غير لازم بعد الفراغ من الصنع وقبل رؤية المصنوع، ويثبت لكل من العاقدين الخيار في إمضاء العقد أو فسخه والعدول عنه، فيحق للمستصنع أن يفسخ العقد في أي وقت شاء قبل الرؤية، وله فسخه عند الرؤية، لأنه اشترى ما لم يره كما يثبت الخيار للصانع قبل الشروع في العمل وبعده، مادام الشيء المصنوع في يده، ولم يقدمه للمستصنع، فإن قدمه سقط خياره، ولو باع الصانع ماصنعه قبل أن يقدمه إلى المستصنع جاز، لأن العقد غير لازم، ولأن المعقود عليه ليس هو عين المصنوع، وإنما مثله في الذمة، فإن انتهى الصانع من المصنوع على الصفة المشروطة، ورآه المستصنع، فيبقي للمستصنع حق خيار الرؤية في الأصح عند أكثر الحنفية.

وقال الإمام أبو يوسف: إن الاستصناع عقد لازم، وليس لأحد المتعاقدين الرجوع فيه إلا برضا الآخر، وإذا توافرت فيه الشروط المتفق عليها فلا يحق للمستصنع رفضه، وأخذت مجلة الأحكام العدلية في المادة 392 بهذا الرأي، لمنع المنازعات بين المتعاقدين، ودفعاً للضرر عن الصانع فيما صنع، لأنه صنعه بحسب رغبة هذا الشخص، وقد لا يتفق المصنوع مع أغراض بقية الناس، وترجيحاً لصفة اللزوم في العقود، لكن إن قدم الصانع الشيء المصنوع على غير الصفة المتفق عليها ثبت للمستصنع خيار فوات الوصف.

ويظهر التشابه بين السلم والاستصناع بأن كلاً منهما بيع لمعدوم، وأجيزا للحاجة والتعامل استثناء، لكن الحنفية فرقوا بينهما بعدة أمور، وهي:

– أن محل العقد في السلم دين تحتمله الذمة، أما المعقود عليه في الاستصناع فهو عين لا دين كالأواني والأثاث والأدوات والآلات والأسلحة.

– يشترط في السلم وجود أجل بعكس الاستصناع على رأي الإمام أبي حنيفة.

– إن عقد السلم لازم باتفاق الحنفية، أما الاستصناع فهو غير لازم عند أكثر الحنفية.

– يشترط في عقد السلم قبض رأس مال السلم في مجلس العقد، ولا يشترط قبضه في الاستصناع.

– يشترط في عقد السلم أن يكون المعقود عليه مما يوجد مثله في الأسواق، خلافاً للاستصناع فلا يشترط ذلك.

ويقابل عقد الاستصناع في الفقه الإسلامي عقد المقاولة [ر] في القانون المدني في الحالة التي يتعهد فيها المقاول بصنع شيء على أن تكون المادة منه، فإن تعهد المقاول بصنع شيء على أن يقدم رب العمل المادة له، ويقوم المقاول بالعمل فقط، فهذه الحالة ليست استصناعاً.